مقدمة
لم تكن المواجهة المسلحة في السودان إلَّا مسألة وقت، وقد حان وقتها بعد أن تدهورت العلاقة بين الجيش وقوات الدعم السريع، بعد أن صار كل منهما خطرًا يهدد بقاء الآخر.
تحاول هذه الورقة رصد أسباب الخلاف بين الجيش والدعم السريع، وتسليط الضوء على الصراع على السلطة بين قادة الطرفين، والظروف التي دفعت الدعم السريع لتحريك قواته، وهو ما أعطى للجيش ذريعة للاشتباك معها.
كما تستعرض الورقة مواقف القوى الداخلية، والخارجية، مع التركيز على الموقف المصري، بعد أن صارت مصر طرفًا في الأزمة، من خلال تواجد قواتها في مطار “مَرَوي” الذي انطلقت منه شرارة الأحداث، حينما تمركزت حوله قوات الدعم السريع.
وفي النهاية، قدمت الورقة عدة سيناريوهات محتملة للأزمة الحالية، على ضوء الإمكانيات التي تتوفر لطرفي النزاع، والبيانات الصادرة عن العمليات العسكرية، بالإضافة إلى الظروف الداخلية والخارجية أيضًا.
خلافات المكون العسكري
يمكن القول إن المواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع كانت حتمية، ومتوقعة، لوجود خلافات شديدة بين الطرفين، ولكن هذه المواجة أجلها اتفاق مصالح المكون العسكري في مواجهة المكون المدني.
وأول هذه الخلافات هو الخلاف حول الفترة الانتقالية، فالبرهان يريد تعطيل تنفيذ الاتفاق الإطاري بقدر المستطاع، بحجة الوصول إلى إجماع من القوى الوطنية على تنفيذه، في محاولة منه لعرقلة التحول الديمقراطي الذي سوف ينقل السلطة إلى المدنيّين، في حين أن حميدتي يريد استعجال هذا التحول، بعد أن حدث تقارب بينه وبين بعض عناصر المكون المدني في الفترة السابقة، وهو ما فسره البعض برغبة حميدتي في الانقضاض على السلطة من خلال التحالف مع بعض القوى المدنية.
هذا التقارب أقلق البرهان وكبار قادة الجيش الذين يرون في هيمنة حميدتي على السلطة في المستقبل تهديدًا أمنيًّا، خاصة إذا ما كانت السلطة مصحوبة بقوات عسكرية مستقلة عن الجيش.
وثاني هذه الخلافات يتعلق بالعلاقات الخارجية، فلكل من البرهان وحميدتي تحالفات وتفاهمات إقليمية تتعارض في بعض الأحيان. فالبرهان أقرب إلى مصر التي استبعدت من الرباعية الدولية التي تلعب دورًا مهمًّا في الشأن السوداني، في حين أن حميدتي أقرب إلى الإمارات، إحدى دول الرباعية، والتي تريد الحفاظ على مصالحها في السودان، خاصة في قطاع الموانئ.
أما ثالث هذه الخلافات وأهمها فهو موضوع دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، وهو خلاف قديم، فجَّره الاتفاق الإطاري الجديد، الذي نص على دمج هذه القوات، ولكنه لم ينص على المدة الزمنية اللازمة لهذا الاندماج.
فالبرهان يرغب في دمج الدعم السريع خلال عامين، وهو ما يعني القضاء على حميدتي، ومنعه من لعب أي دور عسكري أو سياسي في المرحلة المقبلة.
هذا في حين يصر حميدتي على إجراء هذا الدمج على مراحل تستغرق عشر سنوات، تتوقف خلالها عملية التجنيد داخل الجيش، حتى يحافظ على نسبة عددية كبيرة داخله. وهو ما اعتبرته قيادات الجيش هروبًا ومحاولة ابتزاز لن تنجح.
صراع السلطة
لا يمكن دراسة الأحداث الأخيرة في السودان بمعزل عن صراع السلطة بين البرهان وحميدتي، فالأول يحاول هندسة مشهد ما بعد تسليم السلطة للمدنيّين، وهو الأمر الذي حاول عرقلته بالانقلاب في 25 أكتوبر 2021، ثم بالمماطلة في تنفيذ الاتفاق الإطاري الأخير. والثاني يريد استغلال التحول الديمقراطي للوصول إلى قمة السلطة مع الاحتفاظ بكامل قوته العسكرية.
كان يُعتقد أن البرهان سوف يتنحَّى من قيادة الجيش عقب تسليم الحكم للمدنيّين، ولكن بحسب مقربين من الرجل، فإن هذا الخيار لم يعد مطروحًا، وسوف يحتفظ البرهان بمنصب القائد العام ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي سيضم نحو 14 جنرالًا وممثلًا واحدًا للدعم السريع، مما زاد من مخاوف حميدتي الذي يعتبر ذلك خطوة تمثل احتواءً ناعمًا لقواته، ويرى أن القائد العام للجيش خلال فترة الاندماج ينبغي أن يكون الرئيس المدني للدولة وهو ما يرفضه الجيش.
ويهدف البرهان من وراء إعادة تشكيل المجلس الأعلى إلى تقليص نفوذ حميدتي الذي يستخدم منصبه السيادي والدستوري في تحركاته الداخلية والخارجية بوصفه الرجل الثاني في الدولة.
وفي هذ السياق، مُنِع حميدتي من الوصول إلى التقارير الأمنية والدبلوماسية والجنائية التي كان يتلقاها بصورة روتينية، وسُحِب منه ملف السلام ليتولاه البرهان بنفسه.
وعلى الجانب الآخر، يفكر حميدتي في الانتخابات كوسيلة للوصول إلى هرم السلطة، ولهذا شرع في تكوين تحالف يعتمد على أعيان القبائل وزعماء الطرق الصوفية، بالإضافة إلى تحالف آخر، يتكون من بعض مكونات القوى المدنية الفاعلة في الفترة الانتقالية.
حسم حميدتي خياراته بالتحالف مع فصيل من تحالف الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، بعد أن استبدل بمستشاريه مستشارًا قريبًا من اليسار، وهو يوسف عزت، الذي أقنعه بأن حل مشكلته الداخلية وتحسين صورته ومعالجة ما ارتكبته قواته من تجاوزات صارت عبئًا عليه يتطلب تقديمه إلى الخارج عبر مساندة الاتفاق الإطاري لحل الأزمة السودانية الذي تدعمه الدول الغربية، ومحاربة الإسلاميّين مثلما فعل قائد قوات الشرق الليبي اللواء المتقاعد خليفة حفتر، مما دفع الدول الغربية للتعاون معه.
وفي المقابل، تغيَّرت لغة تحالف الحرية والتغيير المناوئه للبرهان تجاه حميدتي، والتي يُعتقد أنها توصلت لتفاهمات معه تقضي بجعله حارسًا للحكم المدني، عبر تبني مطالبه في تطويل أمد دمج قواته في الجيش. بل ووصل الأمر إلى حد الإقرار بوجوب رعاية المصالح السياسية والاقتصادية للدعم السريع.
أثارت هذه التفاهمات مخاوف البرهان وقادة الجيش الذين يخشون من حدوث صراعات بين القوى المدنية في المستقبل، وانقضاض الدعم السريع على السلطة والحلول محل الجيش.
المواجهة المسلحة
يمكن تشبيه الوضع الحالي بوضع السودان في مرحلة انقلاب 25 أكتوبر 2021، حينما كان المدنيون ينتظرون دورهم في استلام رئاسة المجلس السيادي من المكون العسكري، وهو ما استبقه البرهان بتأزيم الوضع مع المكون المدني، ليقوم بانقلابه الذي عطل عملية التسليم.
والآن، وبعد توقيع الاتفاق الإطاري، واقتراب المدنيّين من استلام الحكم في السودان وخروج العسكر من المشهد السياسي، تأزم الوضع، ولكن مع الشريك العسكري للجيش، ما يدفع إلى الاعتقاد بأن البرهان قد نصب فخًّا لحميدتي، ودفعه إلى تحريك قواته والظهور في مظهر المتمرد، وهي الحجة التي استغلها الجيش في مواجهة الدعم السريع لإخراجه من المشهد تمامًا، وحرمان قائده من أي امتيازات يمكن أن يصل إليها من خلال التحول الديمقراطي.
بدأ الأمر بإعلان البرهان في 12 أبريل 2023 عن تكوين قوة تدخل سريع تحت إمرة القائد العام للجيش، وأن الجيش سوف تكون له قوة ضاربة من الطيران المسيّر قادرة على حسم أي تهديد داخلي أو خارجي.
كانت هذه رسالة موجهة إلى قائد الدعم السريع، برفض فكرة دمج قواته ككتلة واحدة في الجيش تحت مسمى قوات التدخل السريع، وأن الجيش لن يقبل بإطالة أمد مراحل الدمج، وأنه على استعداد لأي سيناريو ينجم عن حسم هذا الملف.
وكان الرهان قد أعلن عن اقتراب حل مجلس السيادة وتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسته، وينوب عنه رئيس هيئة الأركان العامة، الفريق أول محمد عثمان الحسين، ثم الفريق أول شمس الدين الكباشي، بحكم الأقدمية التراتبية في الجيش، ووجد حميدتي نفسه يتساوي مع القيادات الأخرى في عضوية المجلس، ومن دون أن يتميز عليهم، ما يعني تقليص صلاحياته.
كان رد حميدتي هو تحريك قواته في اتجاه أماكن استراتيجية، في استعراض للقوة أمام الجيش السوداني، وللضغط عليه من أجل التخلي عن مطالبه بالدمج السريع، وهو ما أظهره في صورة المتمرد، وأتاح الفرصة للتعامل معه بالقوة.
التواجد المصري في مَرَوي
تردد اسم مصر في الأزمة الأخيرة في السودان، فقد بدأت الأزمة بحشد الدعم السريع قواته في محيط مطار مدينة مروي، وهو المطار الذي تواجدت فيه مجموعة من القوات الجوية المصرية، التي شاركت في مناورات مشتركة (نسور النيل)، ورابطت في المطار منذ أبريل 2021.
وقد سُلطت الأضواء بشدة على التواجد المصري في مطار مَرَوي بعد أن وصفت جهات معارضة للجيش هذا التواجد بأنه احتلال مصري، وخرق للسيادة السودانية.
وكانت لجان المقاومة في مدينة مَرَوي قد طالبت في بيان لها بمغادرة الجيش المصري المدينة فورًا.
ومع بداية الاشتباكات، تم نشر مقطع فيديو يصور عناصر من الدعم السريع داخل المطار، وخلفها طائرات عليها العلم المصري. واللافت في حديث أحد هذه العناصر هو اتهامه للقوات المسلحة السودانية بالعمالة والخيانة، في إشارة إلى تعاونها مع مصر، التي وصفها آخر بأنها قوة احتلال.
ثم نشر مقطع آخر لقوات وقعت في أسر الدعم السريع، يقول أحد عناصرها إنه ضابط بالجيش المصري، وقالت صفحة تابعة للدعم السريع إن هذه المجموعة هي كتيبة من الجيش المصري سلمت نفسها في مَرَوي. واعترف الجانب المصري لاحقًا بما ورد في المقطع.
ويمكن تفسير نشر المقطعين على أنه محاولة للتأثير على الشعب السوداني، وتحويل الرأي العام لمصلحة قوات الدعم السريع، من خلال مخاطبة مشاعر المعارضين للتواجد المصري في السودان، والذين نشروا مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي قبل الاشتباكات المسلحة، هاجموا فيها مصر، واعتبروها قوة احتلال، وأعلن بعضهم عن وقوفه مع الدعم السريع إذا استعان الجيش السوداني بقوات مصرية في الصراع الداخلي.
مواقف القوى الداخلية
اتسم موقف القوى الداخلية بالحذر والتوازن في التعليق على المواجهة المسلحة بين الجيش وقوات الدعم السريع، لأن هذه القوى لا تريد الوقوف مع طرف وتقويته على حساب الطرف الآخر، لأن الطرف المنتصر في هذا الصراع سوف يواجه القوى المدنية في صراع آخر عند تحديد مصير السودان.
وعلى الرغم من أن بعض التيارات المدنية يحاول إجهاض مساعي حميدتي، حتى لو أدى ذلك إلى الاتفاق مع البرهان، مثل قوى الحرية والتغيير (الكتلة الديمقراطية)، ويحاول البعض الآخر إجهاض مساعي البرهان، ولا يجد حرجًا في التفاهم مع حميدتي الذي يعلن معارضته للبشير وبقايا نظامه السابق، بما فيهم البرهان والإسلاميون، مثل قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، فإن الجميع دعا الطرفين إلى التوقف عن القتال، ولم يُحمِّل أحدَ الطرفين مسؤولية الأزمة.
فقد دعت القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري، في بيان، قيادة القوات المسلحة السودانية والدعم السريع، لوقف ما وصفته بـ “العدائيات” فورًا، وتجنيب البلاد شر الانزلاق لهاوية الانهيار الشامل.
كما حث تجمع المهنيّين السودانيّين قادة القوات المسلحة وقوات الدعم السريع على تغليب صوت العقل، ووقف الاشتباكات المسلحة، وعدم جر البلاد إلى حرب شاملة.
وألقت القوى المدنية مسؤولية التوتر بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني على عاتق عناصر النظام السابق، متغاضية عن صراع السلطة واحتكام طرفي النزاع إلى السلاح للمحافظة على مصالحهما.
وقال تجمع المهنيّين إن فلول النظام البائد ومنسوبي حزبه المحلول وحركته المخلوعة – الذين يتحركون حاليًا لإدخال السودان في نفق مظلم – يريدون جر البلاد لحرب شاملة.
مواقف القوى الخارجية
هناك أمور عديدة تدفع القوى الإقليمية والدولية إلى القلق من تصاعد الموقف في السودان، وتحول المواجهة العسكرية الحالية إلى حرب داخلية شاملة، ومنها موقع السودان الاستراتيجي في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وضرورة عدم تحوله إلى دولة فاشلة تجذب الجماعات الإرهابية وتؤثر على أمن الدول المحيطة التي تعاني من مشاكل واضطرابات، مثل إثيوبيا وتشاد وليبيا، مما سيؤثر بالطبع على أمن المنطقة ويُعرِّض مصالح القوى الإقليمية والدولية للخطر.
وقد اتفقت القوى الإقليمية والدولية على مطالبة طرفي الصراع بضبط النفس، وإيقاف القتال، وحل الخلافات بالحوار والطرق السلمية.
وعلى الرغم من الحيادية التي تظهر في مواقف القوي الإقليمية والدولية، فإن حميدتي يواجه مشكلة في علاقاته الخارجية، وهي الاعتماد على أبوظبي والرياض بشكل كبير، وضعف علاقاته بالمجتمع الدولي، خاصَّة مع الولايات المتحدة التي تراه قائد ميليشيا، لتواصله مع شركة فاغنر الروسية وترحيبه ببناء روسيا قاعدة عسكرية على سواحل السودان على البحر الأحمر، ومصر التي ترتاب من علاقاته مع إثيوبيا، وتشاد التي تتهمه بالتحرُّك داخل أراضيها لتغيير نظام الحكم لصالح مجموعات عربية، وهو ما يُغضِب فرنسا أيضًا.
أما التدخل العسكري الخارجي لدعم أحد الفريقين فإنه أمر مستبعد حتى الآن، لأن المواجهة المسلحة مازالت في بدايتها، ولم يحدث انكسار أو هزيمة ساحقة تستحق التدخل لمساعدة الطرف المهزوم.
ومع ذلك فقد أعلن الدعم السريع عن تعرض قواته في بورتسودان إلى هجوم من طيران أجنبي، وحذر من التدخل الخارجي، وطالب الرأي العام الإقليمي والدولي بوقف هذا العدوان وإدانة هذا المسلك.
والحقيقة أن الحديث عن طيران أجنبي لا يمكن تفسيره بعد ساعات من نشوب الصراع المسلح إلَّا في إطار الحرب الإعلامية، لتكوين رأي عام داخلي وخارجي ضد قوات الجيش.
وربما كان ذلك محاولة استباقية من الدعم السريع لمنع الجيش السوداني من الاستعانة بأي دعم خارجي، خاصَّة من جانب مصر التي يرتبط نظامها بعلاقات قوية مع نظام البرهان.
الموقف المصري
طالبت الحكومة المصرية، عبر بيان للخارجية، كافة الأطراف بممارسة أقصى درجات ضبط النفس، حماية لأرواح ومقدرات الشعب السوداني الشقيق، وإعلاءً للمصالح العليا للوطن.
ولكن هذا الموقف الذي تحاول القاهرة من خلاله الوقوف على مسافة متساوية من طرفي النزاع، لا يُعبّر عن حقيقة موقفها من الشأن السوداني.
فكل الدلائل تشير إلى أن السيسي يقف في صف الجيش السوداني بقيادة البرهان، باعتبار الجيش هو الجهة المنوط بها حفظ الاستقرار من المنظور العسكري المصري.
ولهذا الموقف أسباب عديدة، أهمها ما يلي:
- حرص القاهرة على عدم وجود حكم ديمقراطي على الحدود الجنوبية، لخوف النظام المصري من عدوى الديمقراطية، التي يمكن أن تنتقل عبر نظام مدني يقوم على احترام حقوق الإنسان، وتداول السلطة عبر الانتخابات.
ولهذا فإن النظام المصري حريص على إفشال أي محاولة لإنشاء دولة ديمقراطية في السودان، وهو ما جعل اسم مصر يتردد بقوة في انقلاب 25 أكتوبر 2021، حينما قيل إن البرهان زار القاهرة عشية الانقلاب للتنسيق مع السيسي.
- حرص القاهرة على عدم وجود حكومة قوية في السودان، والعمل على إيجاد حكومة يمكن توجيهها والتأثير عليها، أو حكومة عسكرية يسهل التعاون معها. وهذا لا يتعارض مع رغبة مصر في استقرار الوضع في السودان، لأن المطلوب هو استقرار يمكن من خلاله إدارة شؤون البلاد من جانب حكومة لا تناوئ القاهرة.
- الحرص على عدم وجود تجربة ديمقراطية حقيقية في السودان، لأن ذلك يمكن أن يتيح الفرصة لعودة الإسلاميّين إلى المشهد، كمشاركين في العملية السياسية أو في موقع السلطة واتخاذ القرار.
ولهذا، فسر بعض المحللين السياسيّين محاولة القاهرة للتدخل عبر مبادرة مصرية لتجميع القوى المدنية للتباحث في القاهرة بأنها مؤامرة لشق صف القوى المدنية، وهو ما رفضته بعض القوى السودانية التي اشترطت اقتصار دور القاهرة على الاستضافة، مع عدم التدخل في المباحثات.
- الخوف من زيادة النفوذ الإثيوبي في السودان في حال تمكن حميدتي من حسم الأمر لصالحه والسيطرة على البلاد، خاصَّة وأن هناك علاقات قوية تجمع حميدتي بالجانب الإثيوبي، كما أن هناك تقارير عن وجود استثمارات كبيرة لحميدتي في إثيوبيا.
وعليه، فإن مصلحة النظام المصري تكمن في سيطرة الجيش السوداني بقيادة البرهان على المشهد، وإقصاء حميدتي الذي يمكن أن يمثل خطرًا على المصالح المصرية في حالة وصوله للسلطة عبر تفاهم بينه وبين المكون المدني.
السيناريوهات المحتملة
قد يكون الوقت مبكرًا للحديث عن سيناريوهات للأزمة السودانية بعد أن وصل الأمر إلى حد المواجهة العسكرية بين الجهتين المتحكمتين في مصير السودان، وهما الجيش وقوات الدعم السريع، لوجود أنباء متضاربة حول العمليات العسكرية، تدخل في باب الحرب النفسية.
ولكن يمكن وضع مثل هذه السيناريوهات على ضوء أهداف الطرفين المتصارعين، والإمكانيات التي يمتلكها كل طرف منهما، مع ملاحظة أن هذه السيناريوهات قابلة للتعديل، بل وإضافة سيناريوهات أخرى قد تكون مستبعدة في الوقت الراهن، على حسب مجريات الأحداث.
- السيناريو الأول، وهو إنهاء الصراع والعودة مرة أخرى إلى مفاوضات تنفيذ الاتفاق الإطاري، وذلك عبر تدخل خارجي، في شكل ضغوط، أو وساطات، تقوم بها الدول المؤثرة في الشأن السوداني، وفي مقدمتها دول الرباعية الدولية، لدفع الطرفين إلى وقف القتال، والعودة إلى المسار الانتقالي الديمقراطي، وتجنيب السودان حرب أهلية شاملة.
ولكن هذا السيناريو يصعب تحقيقه في ضوء المعطيات الحالية، وأهمها رغبة الجيش في حسم قضية الدعم السريع، وعدم تفويت الفرصة التي سنحت له للقضاء على ازدواجية القيادة العسكرية في البلاد، والتخلص من تطلعات حميدتي للسلطة، والتفرغ للقوى المدنية التي تستغل الخلاف بين المكون العسكري في الضغط على الجيش.
- السيناريو الثاني، وهو استمرار المواجهة المسلحة، وتحولها إلى حرب أهلية شاملة، وهو ما يمكن أن يحدث في حالة تمكن قوات الدعم السريع من توفير دعم مادي وعسكري وسياسي من جانب جهات خارجية، وهو ما سوف يحول السودان إلى سوريا جديدة.
ولكن هذا السيناريو يصطدم بعدة أمور، أولها كارثية التجربة السورية، وجنوح القوى الإقليمية في الوقت الراهن إلى تخفيض مستويات التوتر في المنطقة وإيجاد حلول سلمية في مناطق الصراع، باليمن وليبيا وسوريا.
ثم إن الجيش السوداني هو المؤسسة العسكرية الرسمية، بغض النظر عن سيطرة هذه المؤسسة على الحكم ومشاكلها مع القوى المدنية. ولهذا فإن أي مساعدة خارجية لقوات الدعم السريع سوف تعد عدوانًا على الدولة السودانية التي لا تحارب مواطنين أو ثوارًا كما كان الحال في الأزمة السورية، وإنما تحارب ميليشيات متمردة.
ويمكن رؤية مثال ذلك في رفض الحكومة التركية تزويد الدعم السريع بالطائرات الحربية المُسيَّرة؛ لأن التعاون العسكري يجب أن يمر عبر وزارة الدفاع السودانية، التي اقتنت هذه الطائرات.
- السيناريو الثالث، وهو حسم الجيش السوداني للصراع مع قوات الدعم السريع، وهو السيناريو الذي يمكن تحقيقه بسبب التفوق النوعي للقوات المسلحة في مجال التسليح وامتلاكها لإمكانيات لا تتوفر للدعم السريع.
فالجيش يمتلك ميزات نسبية في هذا الصدد، أهمها سلاح الطيران، الذي لا يمكن أن تصمد أمامه ناقلات جند سريعة تحمل أسلحة خفيفة.
هذا بالإضافة إلى أن الجيش يمتلك ميزة أخرى، وهي العقل الجمعي السوداني، الذي سوف يتحول إلى دعم الجيش، لخوف الشعب من انهيار المؤسسة العسكرية التي هي في النهاية صمام أمان للبلاد، حتى وإن عرقل الجيش التحول الديمقراطي.
ثم إن الدعم السريع يرتبط في أذهان الشعب السوداني بتاريخ من القمع والجرائم التي ارتكبها في دارفور، والجرائم التي ارتكبها منذ بداية الثورة، وكان آخرها الاعتداء على المتظاهرين أمام القيادة العامة بالخرطوم.
- السيناريو الرابع، وهو حسم قوات الدعم السريع للصراع مع الجيش، وهو السيناريو الذي يرى قليلون إمكانية تحقيقه بسبب ما تمتلكه هذه القوات من إمكانيات بشرية، ومادية، واستقلالية مالية وفرتها الأنشطة الاقتصادية، وفي مقدمتها التنقيب عن الذهب.
فقوات الدعم السريع تتكون من عدد كبير، وتمتاز بقدرة قتالية عالية الكفاءة بسبب التمرس على الحرب في اليمن وليبيا، وبمرونة في الحركة داخل المدن.
هذا بالإضافة إلى إمكانية ميل بعض السودانيّين إلى الدعم السريع بسبب ما يسمعونه عن انحياز حميدتي للحكم المدني والعدالة الاجتماعية.
- السيناريو الخامس، وهو تمكن الجيش السوداني من إحراز انتصار ملحوظ، ولكن لا يرقى إلى مستوى الحسم الكامل، وذلك من خلال توجيه ضربات قوية للدعم السريع، مما يؤدي إلى حرمانه من مقراته ومعسكراته، وتشتيت قواته وإرباكها.
ومن شأن ضربات كهذه أن تدفع هذه القوات إلى ترك العاصمة، والانسحاب إلى مواقع نائية، على تخوم دارفور مثلًا، لتتحول إلى قوات متمردة، تمارس حرب العصابات، وتضغط على الحكومة لإجبارها على التفاوض معها.
ويمكن أن يتحالف حميدتي حينها مع مكونات جديدة، للقتال إلى جانبه، وهو ما سيطيل أمد الصراع بينه وبين الجيش.
ولعل السيناريو الأقرب حتى الآن هو السيناريو الأخير، وفقًا لما يصدر عن قيادة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع من بيانات عن تبادل التفوق الميداني، وإحجام القوى الداخلية والإقليمية عن الانحياز حتى الآن لطرف على حساب الطرف الآخر، بالإضافة إلى صعوبة القضاء على قوات الدعم السريع بشكل كامل.
خاتمة
وصل الخلاف بين الجيش السوادني وقوات الدعم السريع إلى مرحلة صار كل طرف منهما يخشى فيها من الآخر على سلطته، فالجيش يريد دمج الدعم السريع في صفوفه للإبقاء على سيطرته على البلاد، في حين يقاوم حميدتي هذا الدمج الذي يحرمه من تحقيق آماله في الوصول إلى السلطة.
ولا شك أن ما بعد الاشتباك المسلح بين الطرفين لن يكون كما قبله، لأن كلًّا منهما يريد الاستمرار في الحرب إلى أن يحقق انتصارًا حاسمًا يزيح به الآخر. وهو ما أعلنه حميدتي الذي يشترط استسلام البرهان “المجرم”، وأعلنه البرهان على لسان الجيش الذي يرفض التفاوض والحوار قبل حل وتفتيت ميليشيا حميدتي “المتمردة”.
ويمكن القول إن حميدتي أخطأ في تقدير الموقف حينما استدرج إلى حرب حولته من شريك في السلطة إلى متمرد يحارب الحكومة المركزية حرب عصابات.
أما البرهان فقد سنحت له فرصة قد لا تتكرر لحسم صراع السلطة مع حميدتي، وهو صراع لا علاقة له بالتحول الديمقراطي في البلاد، والذي يحتاج إلى توحيد القوة العسكرية وتحديد دورها الخاضع للقيادة السياسية، وإنما هو محاولة لجمع القوة العسكرية في يد واحدة، هي قيادة الجيش، التي سوف يَقوى موقفها في مواجهة القوى المدنية.