في السادس من نوفمبر 2025م، نشر موقع “هورن ريفيو“، وهو منصة بحثية ودار نشر مستقلة رائدة تتخذ من أديس أبابا مقرًا لها، وتتخصص في تقديم تحليلات معمقة ورؤى إستراتيجية حول القضايا السياسية والدبلوماسية والأمنية الحرجة التي تؤثر على القرن الإفريقي والمشهد السياسي العالمي، مقالًا بعنوان: “إرث ثقافة الانقلابات العسكرية في مصر” لـ “ريبيكا مولوجيتا”، الباحثة في “هورن ريفيو”.
تقول الباحثة إن ثقافة الانقلابات العسكرية في مصر تُعدّ إحدى السمات المميزة للسياسة الحديثة في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث رسَّخ انقلاب يوليو 1952م مكانة الجيش كمهندس للدولة وحارس لها، وأعاد انقلاب يوليو 2013م تأكيد هذا النظام لقرن جديد.
و تؤكد الباحثة أن هذا الإرث الذي خلفته الانقلابات في مصر ترك آثارًا واضحة على المنطقة وإفريقيا على وجه الخصوص: فبينما ألهم انقلاب 1952م نزعات الاستقلال عن الاستعمار وتوطيد أركان الدولة، إلا أن كلا الانقلابين رسَّخا في الوقت نفسه تقليدًا مفاده أن الشرعية السياسية تُؤمَّن فيه بالسلاح لا بالاقتراع.
وتظل التجربة المصرية انعكاسًا لحقيقة أن السعي لتحقيق “الاستقرار” المزعوم يمكن أن يُولِّد سيطرةً دائمةً من الطغمة العسكرية ولكن تحولًا محدودًا في مسيرة تطوير البلاد.
وفيما يلي يقدم ” منتدى الدراسات المستقبلية ” ترجمة كاملة لمقال “هورن ريفيو“، وذلك على النحو التالي:
إرث ثقافة الانقلابات العسكرية في مصر
تصدَّرت مصر المشهد السياسي في العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين. ومن بين الإرث العريق للبلاد، لم يكن لأيّ منها التأثير والرسوخ بقدر الدور المحوري للجيش كصاحب القرار النهائي في كل شيء.
فمنذ ما أُُطلِق عليه فيما بعد “ثورة 1952” التي برزت فيها شخصية جمال عبد الناصر، وحتى الإطاحة بالرئيس محمد مرسي في انقلاب عسكري عام 2013م، ساهمت القوات المسلحة المصرية في تشكيل السياسات الداخلية للبلاد، وكذلك التوازنات الإقليمية، بل ومفاهيم الشرعية في العالمين العربي والإفريقي أيضًا.
وتعكس التجربة المصرية نمطًا أوسع نطاقًا حيث برزت المؤسسات العسكرية كمحركات للتحديث والقومية واستمرارية النظام في سُدَّة السلطة، مما أنتج نظامًا سياسيًّا يُعطي الأولوية لـ “الاستقرار” و”تماسك الدولة” (النظام) على الحكم النيابي التمثيلي للشعب.
وقد وُلِد النظام السياسي المصري الحديث من الانقلاب العسكري الذي قام به “الضبَّاط الأحرار” في 23 يوليو عام 1952م، حين أطاح جيل من الضبَّاط الشباب، قيل إنهم كانوا “مُحبَطين من الفساد والتدخل الأجنبي وعجز النظام الملكي عن ضمان سيادته”، بالملك فاروق وأعلنوا قيام الجمهورية. وفي الحقيقة، لم يكن هذا مجرد استبدال حاكم بآخر؛ بل كان بمثابة إعادة تنظيم هيكلي للحكم وضع الجيش في مركز السلطة السياسية في البلاد.
ففي عهد عبد الناصر، لم تقتصر القوات المسلحة على المهام العسكرية، بل أصبحت الطليعة الأيديولوجية لمشروع ثوري دمج “الاستقلال الوطني” بـ “الإصلاح الاجتماعي وبناء الدولة”. ورسَّخ النظام (الذي أسَّسه الضبَّاط) مشاركة الجيش في جميع مجالات الحكم، ودمج الضبَّاط في الجهاز الإداري للدولة والاقتصاد، وحَلّ جميع الأحزاب السياسية (التي كانت قائمة) وتقييد أي نفوذ للمدنيّين.
ورفعت الجمهورية الجديدة آنذاك مِن شأن مفاهيم “الانضباط” و”الوحدة والوطنية” باعتبارها “الأسس الأخلاقية” للدولة، كما قامت بتعزيز وضع القوات المسلحة باعتبارها ضامنة لاستقرار مصر والحفاظ على هويّتها.
وبمجيء ستينيات القرن الماضي، حوَّلت مصر جيشها من مؤسسة عسكرية ميدانية إلى طغمة حاكمة تُدِير السياسة وتضع السياسات وتتحكم في الإنتاج. حيث عملت مؤسسة الرئاسة (التي يسيطر عليها العسكريون) والبرلمان (الذي يحرص النظام على انتقائه بعناية) والأجهزة الإدارية (التي يتغلغل فيها العسكريون) ضمن إطار أمني واحد، مما ألغى إمكانية التمييز بين “الرقابة المدنية” و”القيادة العسكرية”. وحافظت مؤسسة الرئاسة في عهد كل من أنور السادات وحسني مبارك على هذا الحفاظ على نوع من التوازن بين تلك الجهات، بحيث تضمن بقاء واستمرار صلاحيات الجيش (في إدارة الدولة) دون أي مساس بها حتى في حالة تطبيق أي إصلاحات اقتصادية أو انفتاح سياسي، ولو كان محدودًا.
وسيطرت القوات المسلحة على قطاعات واسعة من الاقتصاد، وأشرفت على مشاريع البنية التحتية والصناعية الكبرى في البلاد، واحتفظت بصوت حاسم في مسائل السياسة الوطنية عامة. وفي هذا السياق، أصبحت الشرعية تُستمَد من ادعاء “الدولة” الحفاظ على “الأمن والتماسك”، لا من “المشاركة الديمقراطية” أو “التعددية المؤسسية”.
وقد عطَّلت الانتفاضة الشعبية التي اندلعت عام 2011م هذا النظام القائم والراسخ في البلاد لفترة وجيزة فقط. حيث طالب ملايين المصريين (إبان “ثورة يناير”) بالمساءلة والشفافية والحكم المدني، مما أشار إلى بزوغ تقارب نادر بين الحراك الاجتماعي والتطلعات الديمقراطية. ومع ذلك، ففي غضون عامين اثنين، أعاد الجيش تأكيد سلطته وسيطرته على مقاليد الأمور في البلاد. وفي يوليو 2013م، قام الجنرال عبد الفتاح السيسي بالإطاحة بالرئيس المنتخب وعزله عن منصبه، وقام بتعليق العمل بالدستور (الذي صاغه المصريون بعد ثورة يناير)، وأعاد ترسيخ نظام قائم على الهيمنة العسكرية.
وأعاد هذا الحدث التأكيد مجددًا على تصوُّر القوات المسلحة لنفسها كوصي على الدولة، وأنه يتعين عليها التدخل كلما بَدَا أن السياسة المدنية تُهدِّد “الاستقرار الوطني” كما تراه. وخلال الأعوام التي تلت ذلك، تعمَّق النفوذ الاقتصادي والسياسي للجيش المصري، في ظِل تعزيز سيطرته على المؤسسات العامة والمؤسسات المدنية والأطر التنظيمية في الدولة، وبذلك تمَّ ترسيخ منطق “الأمن” في صميم الحوكمة.
لقد تردد صدى “الثورة المصرية” عام 1952م في جميع أرجاء العالم العربي، وأصبحت مرجعًا ونموذجًا للتدخلات العسكرية اللاحقة التي دائمًا ما كانت تزعم التحرك من أجل تحديث المجتمع والدفاع عن السيادة الوطنية. ففي سوريا والعراق وليبيا واليمن، حَذت الجيوش هناك حذو الجيش المصري، فأطاحت بالأنظمة الملكية وأقامت جمهوريات اتسمت بوجود واجهات من “قيادات وطنية” تعمل في نهاية المطاف تحت قيادة عسكرية.
وتعاظم نفوذ القاهرة آنذاك من خلال إبرازها لأيديولوجية “القومية العربية”، وقيادتها لحركة “عدم الانحياز”، ودعمها لحركات التحرير والإصلاح في المنطقة. وقد أدت الكاريزما التي كان يتمتع بها جمال عبد الناصر، وسيطرة مصر على وسائل الإعلام الإقليمية، وامتلاكها الشرعية الرمزية، إلى منح النموذج المصري قوةً تكوينية استطاعت أن تعيد تشكيل الخيال السياسي في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط.
وأصبحت فكرة أن الجيش هو مَن يُجسِّد الأصالة الوطنية بينما تجسد النخب المدنية الفساد والتبعية راسخة بعمق في وجدان الناس، مما أصبح يوفر مبررًا لاستيلاء العسكر على السلطة بشكل متكرر في جميع أنحاء المنطقة.
ومع ذلك، فقد ثبت بالتجربة هشاشة ذلك “الاستقرار” الناتج عن مثل هذا النموذج الذي أرساه العسكر. فبرفعه شأن “النظام” على حساب “المشاركة”، أدَّى هذا النموذج العسكري إلى ترسيخ أنظمة استبدادية قامت بقمع التعددية وتأخير نضج المؤسسات. وعندما اندلعت الانتفاضات العربية (أو ما يُعرَف بـ “الربيع العربي”) عام 2011م، مثَّلت تحديًا لهذا النموذج من خلال المطالبة بالحكم المدني وترسيخ مبدأ المساءلة الدستورية.
ومع ذلك، فقد أعطى الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر عام 2013م إشارات إلى استمرار المنطق القديم، وهو: عندما يتعثر التوازن السياسي، يَستعيد الجيش ما يُسميه بـ “الوضع الطبيعي”. ولا يزال هذا النمط يميز تذبذب العالم العربي بين “التطلعات الإصلاحية” واستمرار “الوصاية العسكرية”.
وامتد تأثير الانقلاب العسكري المصري (1952م) إلى ما وراء العالم العربي ليشمل قارة إفريقيا، حيث واجهت الدول حديثة الاستقلال صراعات مماثلة للتوفيق بين السيادة وهشاشة المؤسسات. فخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، قدَّمت مصر نفسها كنموذج ثوري وحليف قاري، كما قدمت كل الدعم الأيديولوجي والمادي للحركات القومية في المنطقة. ومن خلال بثها الإذاعي، وبرامج التدريب العسكري، ومشاركاتها الدبلوماسية، عملت القاهرة على نشر فكرة مفادها أن الجيش يمكن أن يكون بمثابة قوة تقدمية تعمل من أجل التحرير والتنمية.
وفي غرب ووسط إفريقيا، كان الضبَّاط العسكريون يستشهدون بالنموذج المصري لتبرير الانقلابات التي يقومون بها كـ”أدوات للتجديد”، مقدمين أنفسهم كمصلحين يُصحِّحون إخفاقات النُّخَب المَدنيَّة في حقبة ما بعد الاستعمار. واستعانت شخصيات مثل جيري رولينجز في غانا والحكام العسكريين في نيجيريا بخطاب يتضمن مفاهيم “الانضباط” و “القومية” و “مكافحة الفساد”، مستلهمين الإرث الذي خلّفه عبد الناصر.
ولكن مع مرور الوقت، تراجع نفوذ مصر في قارة إفريقيا. وأدَّت الانتكاسات العسكرية التي مُنيَت بها البلاد والركود الاقتصادي المتفشي فيها وتركيز الأنظمة المتعاقبة على الداخل إلى إضعاف مكانة القاهرة الإقليمية. وبينما احتفظت مصر بسلطتها الرمزية كواحدة من أكبر دول إفريقيا، أصبح موقفها الإستراتيجي دفاعيًّا بشكل متزايد، حيث انشغلت بالحفاظ على نظامها الداخلي وحماية مصالحها في مياه النيل.
وبعد الانقلاب العسكري الذي وقع عام 2013م، تعمق هذا التوجه الدفاعي، مما أدَّى إلى الحد من قدرة مصر على ممارسة دبلوماسية مرنة، كما أدَّى إلى تقليص نفوذها في المؤسسات القارية.
ويَصِف المحللون الآن دور مصر بأنه يقوم على ردود الأفعال لا التحويل وإحداث الفرق، ويُركِّز على الحفاظ على “الأمن” بدلًا من “وضع الأجندات”. المفارقة هي أنه بينما ألهم النموذج العسكري المصري الضبَّاط الأفارقة للاستيلاء على السلطة باسم دعاوى “الإصلاح”، فإن النتيجة على المدى الطويل غالبًا ما كانت “جمودًا سياسيًّا”، و “اقتصادات مُقيَّدة”، ودورات من “ترسيخ الاستبداد”.
وتبدو أوجه التشابه الهيكلية بين مصر ودول القرن الإفريقي لافتة للنظر حقًا. فكلتا المنطقتين تعانيان من تشكيل الدولة المتنازع عليه، وهشاشة المؤسسات المدنية، وميلًا مستمرًا إلى مساواة مفهوم الحوكمة بالسيطرة والهيمنة.
وتُبرِز التجربة المصرية أن “القوة العسكرية قادرة على تعزيز السيادة واستعادة النظام في وقت الأزمات”، ولكن بمجرد ترسيخ تلك القوة العسكرية باعتبارها الأساس الرئيسي للسلطة، فإنها تعمل على تقييد التطور السياسي وتقليص قدرة الدولة على التكيُّف مع الواقع. وفي البلدان التي يُعرَّف فيها الجيش نفسه بأنه “حارس الوحدة الوطنية”، فكثيرًا ما يُنظر إلى “الإصلاح السياسي” باعتباره خطرًا يؤدي إلى زعزعة الاستقرار وليس تصحيحًا وتغييرًا ضروريًّا.
ويُظهِر المسار الذي تبنَّته مصر أيضًا كيف تعمل الحوكمة التي تركز فقط على مفهوم “الأمن” على التضييق على الخيارات الدبلوماسية، مما ينتج عنه مواقف جامدة في النزاعات الإقليمية مثل المفاوضات على مياه النيل، حيث يتم السعي إلى تحقيق “المصالح الإستراتيجية” من خلال “منطق الإكراه” بدلًا من “الأطر التعاونية” لِحَل المعضلات.
وتُقدم التجربة المصرية لمنطقة القرن الإفريقي نموذجًا وتحذيرًا في آنٍ واحد. فهي تُسلط الضوء على المخاطر التي تترتب على السماح للجيوش بتولي وظائف سياسية دائمة، وعلى أهمية الحفاظ على التوازن بين “الدفاع الوطني” و “الحوكمة التشاركية”. وتظل الرقابة المدنية، والمساءلة المؤسسية، والقواعد الاقتصادية المتنوعة تشكل الضمانات الرئيسية ضد ترسيخ الهيمنة العسكرية.
إن الدولة التي تعتمد سلطتها في المقام الأول على المؤسسات التي تتبنى القسر والإكراه قد تتمكن من الحفاظ على “النظام” على المدى القريب، ولكنها تخاطر بالدخول في حالة من “الركود” على المدى البعيد، بالإضافة إلى “العزلة الدبلوماسية”، و “السخط الاجتماعي”.
وتُعدّ ثقافة الانقلابات العسكرية في مصر، والتي صاغها التاريخ وعززتها الأيديولوجية، إحدى السمات المميزة للسياسة الحديثة في الشرق الأوسط وإفريقيا. فقد رسّخت ما عُرفت بـ “ثورة 1952م” التي قام بها الضبَّاط مكانة الجيش كمهندس للدولة وحارس لها، كما أعاد انقلاب 2013م ترسيخ هذا النظام لقرن جديد.
وفي كلا الموضعين، لا يزال الإرث الذي تركته مصر قائمًا كقوة ذات حدين: فبينما كان دعم “الاستقلال” و”توطيد أركان الدولة” مُلهِمًا (لدول المنطقة وإفريقيا)، إلا أنه أدَّى في الوقت نفسه إلى ترسيخ تقليد ونموذج يتم فيه تأمين الشرعية السياسية عن طريق “السلاح” لا من خلال “الاقتراع”.
وتظل التجربة المصرية نموذجًا يوضح بشكل قاطع كيف يمكن للسعي إلى تحقيق “الاستقرار” بقوة السلاح أن يؤدي إلى سيطرةً طويلة الأمد (على السلطة) ولكنه لا يمكنه إحداث تحوُّل كبير على أرض الواقع. ولعل ذلك يؤكد لدول العالمين العربي والإفريقي حقيقة أن قوة الأمة لا تعتمد في نهاية المطاف على ديمومة عسكرها بقدر ما تعتمد على مرونة مؤسساتها.




