في الثالث والعشرين من أكتوبر 2025م، نشر موقع “ريسبونسبل ستيتكرافت” التابع لمعهد كوينسي للحكم الرشيد (Quincy Institute for Responsible Statecraft) – وهو مؤسسة بحثية أمريكية متخصصة في السياسة الخارجية، والذي تأسس في عام 2019م في واشنطن العاصمة وسُمي على اسم الرئيس الأمريكي الأسبق جون كوينسي آدامز (11 يوليو 1767 – 23 فبراير 1848م) ويُوصَف بأنه يدعو إلى الواقعية وضبط النفس في السياسة الخارجية – مقالًا تحليليًّا بعنوان: “هل تستطيع مصر حقًّا أن تمنع إسرائيل من مهاجمة إيران مجددًا؟”
كاتب المقال هو الكاتب والمحلل السياسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط وإفريقيا “الفاضل إبراهيم”، الذي تُنشَر أعماله في صحيفة الجارديان البريطانية (The Guardian)، ومنصة Open Democracy الإعلامية البريطانية المستقلة، وصحيفة The New Arab اللندنية، وشبكة الجزيرة، وغيرها من المنافذ الإعلامية الأخرى.
يتساءل الكاتب في مقاله عن مدى قدرة القاهرة على الحيلولة بين إسرائيل والتحرُّك مجددًا لشن هجمات على إيران كما حدث مؤخرًا – وذلك في ظِل تقارير بأن الحكومة المصرية تتجه لاستغلال تحالفاتها القديمة من أجل لعب دور الوساطة بين أمريكا وإسرائيل وطهران، بعد بقائها لعقود في الظل من حيث النشاط الدبلوماسي.
ويَرى الكاتب أنه على الرغم من أن القاهرة ليس بمقدورها تفكيك طموحات إيران النووية أو حل العداء الجذري بين إيران وإسرائيل، إلا أنها تستطيع إبقاء قنوات الاتصال بين الأطراف مفتوحة، والتوسط في اتفاقيات تقنية تبني الثقة بينهم، والعمل كقوة إطفاء عند اندلاع أي شرارة، وهو أمر حادث لا محالة، بحسب مراقبين.
ويخلص المقال إلى أنه مع حقيقة أن إمكانية الوصول إلى حالة سلام شامل بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران لا يزال حلمًا بعيد المنال، من الناحية العملية، إلا أن ما هو ممكن حاليًّا هو دور أقل طموحًا من ذلك بكثير، ولكنه أكثر حيوية بالنسبة لمصر، وهو فتح قنوات الاتصال بين جميع الأطراف، والقيام بدور الوساطة بينهم، من أجل تخفيف حدة التصعيد في منطقة الشرق الأوسط.
وفيما يلي يقدم “منتدى الدراسات المستقبلية” ترجمة كاملة للمقال الذي نشره موقع “ريسبونسبل ستيتكرافت” الأمريكي التابع لمعهد كوينسي للحكم الرشيد، على النحو التالي:
بعد عقود من الزمن وهي قابعة في الظل من حيث النشاط الدبلوماسي، يبدو أن القاهرة تتجه حاليًّا لاستغلال تحالفاتها القديمة من أجل لعب دور الوساطة بين الولايات المتحدة الأمريكية و “إسرائيل” و الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
كانت خطوط الهاتف تعجُّ بالمكالمات التليفونية الصادرة من قلب القاهرة، حيث كان وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي يُجري سلسلة من المكالمات الهاتفية التي كان قد تمَّ إعدادها بعناية، وفيها يتنقل بين نظيره وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والمبعوث الأمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، ورئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مساعٍ من القاهرة لإنقاذ إيران والولايات المتحدة و”إسرائيل” من السقوط في الهاوية، بعد أن كانوا على مشارفها.
وكان نفوذ القاهرة قبل أشهر قليلة على هذا الحدث في أدنى مستوياته على الإطلاق، إذ حجبه وطغى عليه النفوذ الذي تمثله الممالك الخليجية الغنية بالثروات النفطية. وبينما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يُبرِم صفقات ضخمة وهو جالس في قاعات اجتماعات مطلية بماء الذهب في كل من الرياض وأبوظبي، توترت علاقات الولايات المتحدة مع حليفتها القديمة مصر بشكل ملحوظ للجميع. وبلغ التوتر ذروته لدرجة أن الجنرال عبد الفتاح السيسي أقدم على الإحجام عن الاستجابة لدعوةٍ قُدِّمت له من الإدارة الأمريكية من أجل زيارة البيت الأبيض (للقاء الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب).
وكانت نقطة الخلاف الجوهرية (بين الحكومة المصرية بقيادة السيسي والإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب) هي خطة ترامب الوضيعة التي كانت تهدف إلى تهجير وإعادة توطين أكثر من مليوني مواطن فلسطيني يقيمون في قطاع غزة، بشكل دائم، مما يُحوِّل القطاع الفلسطيني الذي مزقته الحرب إلى ما أطلق عليه دونالد ترامب في تصريحات منسوبة له “ريفييرا الشرق الأوسط”.
وبعد مساعي وساطة شاقة للغاية، وإن كانت قد نجحت في نهاية المطاف، حيث أسفرت عن وقف إطلاق نار هش في قطاع غزة، برزت مصر مجددًا كمحاور ووسيط أساسي ومحوري في المنطقة.
وبعد أن شارك عبد الفتاح السيسي في استضافة قمة شرم الشيخ للسلام مع دونالد ترامب، وتمَّ التوافق على مصر لقيادة قوة استقرار عالمية مُخطط لها في قطاع غزة، ينعم السيسي بمزايا عودة القاهرة إلى النشاط الدبلوماسي من جديد.
وفي هذا السياق، فحتى زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لابيد، يَرى الآن أن القاهرة هي حجر الزاوية، حيث صرح ذات مرةً بأن: “كل ما تحتاجه غزة هو فرض السيطرة المصرية عليها”.
والآن، تُحاول القاهرة تحقيق إنجازٍ أكثر جرأةً وطموحًا من خلال: جَسْر الهوة الشاسعة بين واشنطن، وحليفتها إسرائيل، من ناحيةٍ، وطهران، من ناحيةٍ أخرى. ولكن المهمة هنا هائلة وجسيمة. فالحرب على إيران التي وقعت في شهر يونيو (13 يونيو 2025) والتي استمرت اثني عشر يومًا، وشهدت قيام قاذفات أمريكية وإسرائيلية بقصف مواقع نووية وعسكرية إيرانية، أضعفت مسار الدبلوماسية وتركتها في حالة يرثى لها.
إلا أن ذلك لم يمنع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بعد انتشائه بما اعتبره انتصارًا له في غزة (من خلال اتفاق وقف الحرب الذي اقترحه)، من التطلع إلى السعي لتحقيق هدفٍ أكبر. ففي خطابٍ له أمام الكنيست الإسرائيلي، قال بنبرة فيها بعض التأمل: “أتعلمون ما سيكون رائعًا حقًّا؟ لو استطعنا عقد اتفاق سلام معهم (أي مع الحكومة الإيرانية)… ألن يكون ذلك رائعًا؟”
في الحقيقة، ينبع هذا التفاؤل حول إمكانية إبرام الصفقات أساسًا من البيت الأبيض. فقد صرح ستيف ويتكوف، المبعوث الأمريكي إلى منطقة الشرق الأوسط، بحماسة واضحة في مقابلة أجريت معه مؤخرًا بأن: إبرام اتفاق سلام قد أصبح أمرًا أشبه بانتشار العدوى أو التداعي. وألمح ويتكوف إلى حملة دبلوماسية أوسع نطاقًا تجري خلف الأبواب، قائلًا: “نتلقى اتصالات من الإيرانيّين. نحن هنا، كما تعلمون، للتوصُّل إلى حل دبلوماسي طويل الأمد مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية”.
ولكن رد الفعل الذي جاء من طهران على تلك التصريحات كان فاترًا كما كان متوقعًا. فبعد رفضه دعوةً لحضور قمة شرم الشيخ، بحضور ترامب، سخر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله علي خامنئي من ادعاء ترامب بأنه قد تمَّ تدمير البرنامج النووي الإيراني، قائلًا له: “استمر في حُلمك بذلك!”.
ورفض خامنئي مبادرات الرئيس الأمريكي ترامب، قائلًا: “إذا كان الاتفاق مصحوبًا بالإكراه وكانت نتيجته محددة مسبقًا، فهو ليس اتفاقًا، بل هو بمثابة إجبار وتهديد”. وللتأكيد على هذه النقطة، كشفت طهران منذ ذلك الحين عن ترسانة صاروخية إيرانية تمَّ تجديدها، مما يُشير إلى استعدادها لخوض جولة جديدة من القتال مع “إسرائيل”.
ومع ذلك، ففي ظل هذه البيئة المضطربة على وجه التحديد، تسعى مصر إلى العمل على ترسيخ دعائم دور فريد لها في المنطقة. حيث ينبع نفوذها من مزيج من العلاقات التي تقوم بإحيائها من جديد، والنتائج المؤكدة، والشراكات الدائمة:
أولًا، التقارب الهادئ والبراجماتي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فبعد أربعة عقود من تجمد العلاقات بين البلدين، أجبر تلاقي الأزمات والفرص للبلدين مصر على الاتجاه نحو إعادة النظر في إستراتيجيتها وعلاقاتها. والدافع الأكثر إلحاحًا في ذلك هو دافع اقتصادي بالأساس. فقد أدت هجمات الحوثيّين في البحر الأحمر، بدعم من إيران، إلى استنزاف هائل لإيرادات قناة السويس، الشريان الاقتصادي الحيوي لمصر. وقد أجبر هذا القاهرة على الإقدام على التعامل المباشر مع طهران، التي يُنظَر إليها على نطاق واسع على أنها تُمسِك بزمام الأمور فيما يخص الحوثيّين، وإن كانت تنفي سيطرتها المباشرة عليهم.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد أدت جهود الوساطة التي قامت بها الصين في تحقيق انفراجة في العلاقات السعودية – الإيرانية عام 2023م، حيث أدت إلى تفكيك التكتل المتشدد المناهض لطهران والذي كانت تقوده دول الخليج، مما منح القاهرة الحرية الدبلوماسية اللازمة للتصرف (في علاقاتها حيال إيران) دون إغضاب رعاتها الماليّين من الدول الخليجية.
ثانيًا، والأهم من ذلك، أن مصر قد حققت بالفعل نتائج ملموسة بهذا الخصوص. ففي التاسع من سبتمبر 2025م، توسطت القاهرة في اتفاق إطاري بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والوكالة الدولية للطاقة الذرية، مُعيدةً بذلك نظام التفتيش الذي كانت تقوم به الوكالة والذي كان قد انهار بعد حرب الاثني عشر يومًا في يونيو مع إسرائيل.
وقد جاء هذا الإنجاز الدبلوماسي الذي حققته مصر في وقتٍ وصلت فيه الدبلوماسية الغربية إلى طريق مسدود (بخصوص الملف النووي الإيراني). وقد أثبت هذا الإنجاز قدرة القاهرة على إنجاز العمل الفني القائم على الثقة، والذي غالبًا ما يعجز عنه حتى أولئك السياسيون المتباهون بأنفسهم، حيث قدمت نفسها كوسيط موثوق بين الغرب المفتقر للثقة وإيران المحاصرة. وتهدف محادثات عبد العاطي المستمرة مع رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي، ووزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والمبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، إلى البناء على هذا التقدم أو الاختراق بالغ الأهمية، حتى وإن بدا متواضعًا.
ثالثًا، المكسب الكبير لمصر هو العمق المؤسسي لشراكتها مع الغرب. فمعاهدة السلام مع إسرائيل تُعدّ حجر الأساس للنظام الأمني الإقليمي، حيث لا تزال القاهرة متلقيًا رئيسًا للمساعدات العسكرية الأمريكية. وعلى عكس دولة قطر، التي يُنظَر إليها على أنها راعية لحماس، أو تركيا، التي لا يزال رئيسها رجب طيّب أردوغان صوتًا إسلاميًّا لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يقوم به، فإن تل أبيب و واشنطن تعتبر مصر داعمًا أمنيًّا موثوقًا به، وإن كان يبدو صعب المراس في بعض الأحيان. حيث بإمكان القاهرة التحدث إلى جنرالات إسرائيل ودبلوماسي الولايات المتحدة بدرجة من الألفة لا يمكن لغيرها من المحاورين المحتملين من جانب طهران أن يضاهيها في ذلك.
لكن لا ينبغي النظر إلى هذا الانفتاح الدبلوماسي على أنه تمهيد للوصول إلى سلام شامل (مع إيران). فالعقبات هائلة في هذا السياق، متجذرة في السياسة الداخلية للأطراف الثلاثة. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية – رغم إضعافها وتشرذم وتفتت “محور المقاومة” الذي دأبت على رعايته بسبب الانتكاسات التي وقعت في كل من سوريا (من حيث سقوط نظام بشار الأسد) ولبنان (من حيث ما أصاب حزب الله بعد اغتيال قياداته العليا وعلى رأسهم الأمين العام السابق حسن نصر الله) – ليست في الحقيقة كتلةً واحدةً تسعى إلى البحث عن مخرج.
إن رفض المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية مؤخرًا، في واقع الأمر، للمبادرات التي أطلقتها الإدارة الأمريكية، حيث اعتبرها نوعًا من “الإكراه”، هو بمثابة تصديق علني للنظرة العالمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي ترى أن أي اتفاق مع الولايات المتحدة أو إسرائيل، وخاصة بعد انتهاك سيادتها، من شأنه أن يكون بمثابة هدم للمبادئ الثورية ذاتها التي تستند إليها شرعية النظام الإيراني.
وفي هذه الأثناء، يبدو حديث إدارة دونالد ترامب عن الصفقات أمرًا فارغًا عند مقارنته بأفعالها. فبينما لا يزال احتواء البرنامج النووي الإيراني هو السياسة المعلنة للولايات المتحدة، فإن مشاركتها في الضربات الجوية على الأراضي الإيرانية وخطابها الذي كان يحث على ضرورة تغيير النظام، قد أضعف مصداقيتها كمفاوض جادٍّ. فمِن وجهة نظر الإيرانيّين، ليست هناك جدوى من التفاوض مع طرف يبدو أنه يُفضِّل القنابل الخارقة للتحصينات على الوصول إلى اختراقات دبلوماسية لحل الأزمة.
أما بالنسبة لـ “إسرائيل”، فلم تُترجم نشوتها بشعور الانتصار على إيران بعد حرب الاثني عشر يومًا في يونيو إلى رغبة في ولوج طريق الدبلوماسية. ويبدو أن رئيس وزرائها ومؤسستها الأمنية يتبنيان عقيدة قتالية تُعرَف بإستراتيجية “جزّ العشب” – وهي إستراتيجية القيام بأعمال عسكرية استباقية بشكل متواصل يهدف إلى إضعاف قدرات الخصوم أولًا بأول.
فبعد أن قامت تل أبيب بإضعاف الدفاعات الجوية الإيرانية ورسخت حرية تحليق الطيران الإسرائيلي في سماء طهران، فإنها ترى أن الوقت قد حان لاستغلال هذه الميزة الهامة، لا التنازل عنها على طاولة المفاوضات. وهذا بالتأكيد يتعارض جوهريًّا مع الرغبة الأمريكية التي أبدتها مؤخرًا من أجل التوصل إلى “صفقة” نهائية لإنهاء هذا الصراع.
ويُشكِّل هذا التباين بين الحليفين (“إسرائيل” والولايات المتحدة) عقبةً كؤود أمام جهود أي جهة تلعب دور الوساطة للتوصل إلى حل. وعلى ذلك، فإن أي ضربة إسرائيلية استباقية أخرى قد تُقوِّض جهود الدبلوماسية المصرية الهشَّة بالأساس بين عشية وضحاها.
وعلى الرغم من أن فرص الوصول إلى سلام شامل بين الدول الثلاث، أمريكا وإسرائيل وإيران، لا يزال حلمًا بعيد المنال، من الناحية العملية، إلا أن ما هو ممكن حاليًّا هو دور أقل طموحًا من ذلك بكثير، ولكنه أكثر حيوية بالنسبة لمصر، التي تعمل على تخفيف حدة التصعيد في المنطقة.
صحيح أنه ليس بمقدور القاهرة تفكيك طموحات إيران النووية أو الوصول إلى حل للعداء الجذري القائم بين إيران وإسرائيل، إلا أنها تستطيع على الأقل إبقاء قنوات الاتصال بين الأطراف مفتوحة، والتوسط في اتفاقيات تقنية تبني الثقة بينهم، والعمل كقوة إطفاء عند تطاير الشرر واندلاع الأزمات، وهو أمر لا محالة سيحدث.




