الخبر:
أصدرت الهيئة العامة للاستعلامات، وهي جهاز تابع مباشرة لرئاسة الجمهورية، في 20 سبتمبر 2025م، بيانًا قوي اللهجة بشأن اتهام إسرائيل لمصر بتعزيز قواتها في سيناء والشكوى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب من ذلك، ثم سحبته الهيئة، ونشرت بيانًا بديلًا.
الهيئة سحبت بيانها الأول شديد اللهجة، بشأن ما يجري في سيناء، ونشرت بدلًا منه بيانًا يؤكد التزام مصر بمعاهدتها مع إسرائيل وينفي ضمنًا ما تقوله إسرائيل عن أن مصر تخرق الاتفاقيات (كامب ديفيد) بنشر قوات وأسلحة غير مسموح بها في سيناء.
التعقيب:
بيان الهيئة الأول، كان يرد على تقارير نشرها موقع “أكسيوس” الأمريكي والقناة 12 الإسرائيلية حول زيادة الوجود العسكري المصري والمعدات الحربية في سيناء.
موقع أكسيوس زعم أن نتنياهو طلب من الولايات المتحدة الضغط على مصر بسبب تعزيز عسكري في سيناء تنتهك بموجبها معاهدة السلام لعام 1979م، مثل توسيع القواعد الجوية، وبناء منشآت تحت الأرض، وزيادة القوات قرب قطاع غزة.
البيان الأول غلب عليه طابع التحدي وإظهار الاستقلالية، وفيه شددت الهيئة التابعة لرئاسة الجمهورية، على أن وجود الجيش المصري في سيناء أو في غيرها من الأراضي المصرية “يخضع لما تراه قيادته العليا من ضرورات واحتياجات للحفاظ على الأمن القومي المصري أو لحمايته، في كل شبر من أرض مصر”.
كما تحدث البيان عن “إبادة غزة” الدائرة لأكثر من عامين، وعلى بعد أمتار من حدود مصر الشرقية، وقال إنها “توجب على القوات المسلحة المصرية التحسُّب والتأهُّب بكل قدراتها وخبراتها لأي احتمالات تمس الأمن القومي للبلاد وسيادتها على كامل أراضيها”.
ولم تمر دائق حتى تمَّ سحب هذا البيان واستبداله سريعًا في نفس اليوم ببيان آخر أكثر هدوءًا، وأخف لهجة.
البيان الثاني بَدَا أكثر دبلوماسية، وحُذِفت منه عبارات ساخنة، مثل “إبادة غزة”، واستُبدلت بعبارة “توسيع العمليات العسكرية في غزة”، كما أزيلت العبارات التي يُفهَم منها تحدى مصر لإسرائيل.
بيان الهيئة العامة للاستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية – الذي تمَّ حذفه بعد نشره واستبداله بآخر ضعيف – يُبيّن أين تقف مصر حاليًا، وينفي تمامًا ما يردده إعلام السلطة عن أن العلاقات متوترة مع العدو المحتل، وهو كلام موجه للجبهة الداخلية، لشغلها عن سوء الأوضاع الاقتصادية، ومحاولة حشدها مع السلطة.
رغم حديث مصر المتكرر عن “الخطوط الحمراء”، كشف البيان المُعدَّل أن القاهرة لا تزال أسيرة حسابات دقيقة تتعلق بمعاهدات السلام وبالعلاقات مع واشنطن.
تراجع الرئاسة المصرية (عبر هيئة الاستعلامات) وتغيير بيانها يشير إلى وجود ضغوط أمريكية وإسرائيلية وتحذيرات من تبعات عملية التصعيد على الجانب المصري.
التراجع المصري أظهر أن تصعيد الإعلاميّين الموالين للسلطة في مصر لخطابهم تجاه إسرائيل وعقب كلمة السيسي في قمة الدوحة، التي وَصَف فيها لأول مرة إسرائيل بالعدو، وألمح إلى إمكانية إلغاء اتفاقية السلام الموقعة عام 1979م والمعروفة إعلاميًّا باتفاقية ـكامب ديفيد، هو تصعيد كلامي محسوب، وليس حقيقيًّا.
البيان المصري الأول شدد على قدرة الجيش المصري على “حماية حدوده بكفاءة وانضباط”، في لهجةٍ دفاعية أكثر منها هجومية، ولكن في البيان الثاني أعيد تعريف وجود القوات المصرية في سيناء بأنه يتم “في إطار التنسيق المسبق مع أطراف معاهدة السلام”، بما يعني التزام القاهرة الرسمي بالاتفاق.
البيان الثاني أكد ضمنًا أن نشر مصر أي قوات في سيناء يتم بالتنسيق مع إسرائيل، أي أنه ليس بقرار سيادي، وبرر في نسخته “المخففة” وجود القوات المسلحة في سيناء بـ “تأمين الحدود ضد كل المخاطر بما فيها العمليات الإرهابية والتهريب”.
وأكد أن ذلك يجري في إطار من التنسيق المسبق مع أطراف معاهدة السلام، “التي تحرص مصر تمامًا على استمرارها، في ظِل أنها على مدار تاريخها لم تخرق معاهدة أو اتفاقًا”.
صحف إسرائيل أكدت أكثر من مرة منذ رواج أخبار نشر مصر قوات أكبر في سيناء، أن هذه التحركات والتعزيزات العسكرية متفق عليها مع تل أبيب وتتم بموجب تنسيقات أمنية.
قناة “كان” العبرية أعادت تأكيد ذلك يوم 21 سبتمبر، ونقلت عن مصادر إسرائيلية نفيها وجود خروقات مصرية رسمية لاتفاقية السلام، لكنها أعربت عن قلق متزايد من بناء قواعد وتوسيع بنى تحتية عسكرية في سيناء، ما دفعها لطلب تدخُّل الولايات المتحدة بصفتها ضامنة الاتفاق.
ما يَظهر كحرب خطابية وتوترات دبلوماسية لم يمنع نظام السيسي من تدشين اتفاق للغاز في أغسطس 2025م، بقيمة 35 مليار دولار، تضاعف بموجبه القاهرة وارداتها من الغاز الإسرائيلي، بحلول 2040م، وقد نُشِرت تسريبات إعلامية إسرائيلية تزعم أن نتنياهو أمر بعدم إتمامه إلَّا بموافقة شخصية منه، ردًّا على انتهاك مصر لاتفاقية السلام وتعزيزها تواجدها العسكري في سيناء.
قبل يومين من تقرير “أكسيوس”، وبعد تقرير هيئة البث الإسرائيلية، نقلت تغطيات إعلامية، إحداها في «سكاي نيوز عربية»، عن تقارير إسرائيلية وُصِفت بأنها رسمية، أن نحو 100 طائرة مُسيَّرة بعضها مزود بأسلحة، تسللت إلى الأراضي المحتلة من سيناء، خلال أغسطس 2025م، في عمليات لم تنجح قوات الاحتلال وحرس الحدود في إحباط معظمها، ربما لتبرير التحركات المصرية والشكوى الإسرائيلية.
ربما يشير التضارب بين البيان الأول والثاني لوجود تيارين في الحكم: أحدهما يتبني التصعيد مع إسرائيل بعدما أهانت مصر أكثر من مرة، وتيار آخر انبطاحي يخشي إغضاب أمريكا وإسرائيل ومخاطر التصعيد على كرسي الحكم.