ترجماتغير مصنف

تروث آوت: لدى مصر نفوذ على إسرائيل، فلماذا لا يستخدمه السيسي؟

في الخامس والعشرين من أغسطس 2025م، نشرت شبكة “تروث آوت” الإخبارية الأمريكية، وهي مؤسسة إخبارية تقدمية غير ربحية، تصف نفسها بأنها “مُكرَّسة لتقديم تقارير وتعليقات مستقلة حول مجموعة متنوعة من قضايا العدالة الاجتماعية” مقالًا بعنوان: “لدى مصر نفوذ على إسرائيل، فلماذا لا يستخدمه السيسي؟” لـ “عاطف سعيد”، وهو أستاذ مشارك في علم الاجتماع بجامعة إلينوي في شيكاغو؛ والذي تتناول أبحاثه مجالات النظرية الاجتماعية، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم الاجتماع التاريخي، وعلم اجتماع الاستعمار والإمبراطورية، وعلم اجتماع الشرق الأوسط، وعلم الاجتماع العالمي.

يقول الكاتب إنه ينبغي على نشطاء التضامن مع القضية الفلسطينية، بل يجب عليهم، مواصلة الضغط على مصر للقيام بالفعل الصحيح مع عدم إغفال مكمن المشكلة الحقيقية المتمثلة في “إسرائيل”. ويضيف بأن الولايات المتحدة كانت -ولاتزال- شريكًا رئيسًا في الإبادة الجماعية الجارية في غزة، ليس فقط من خلال إنكارها الممنهج للأدلة المتوفرة التي تؤكد حدوث الإبادة، أو من خلال استخدام حق النقض الفيتو في مجلس الأمن لأكثر من عامين، ولكن أيضًا من خلال المساعدات العسكرية والأسلحة والدعم الاستخباراتي الفعلي الذي تقدمه لإسرائيل.

وفيما يلي  يقدم “منتدى الدراسات المستقبلية” ترجمة كاملة للمقال الذي نشرته شبكة “تروث آوت” الإخبارية، على النحو التالي:

قام الاحتلال الإسرائيلي بالتسبب في مجاعة جماعية لمليوني نازح فلسطيني في قطاع غزة، حيث يسيطر الجيش الإسرائيلي على جميع المعابر الحدودية المؤدية إلى غزة، ويمنع دخول المساعدات إلى القطاع المنكوب. كما أنه يُحظر تمامًا الدخول إلى غزة أو الخروج منها بحرًا أو جوًّا، ولا يُسمَح للفلسطينيين حتى بالصيد على طول شواطئ غزة.

وكانت صحيفة واشنطن بوست قد ذكرت في شهر يوليو أن العواقب المترتبة على ذلك مروِّعة: “فبعد أربعة أشهر من الحصار الإسرائيلي شبه الكامل، أصبحت المستشفيات القليلة المتبقية في غزة الآن تضم أجنحة كاملة للأعداد المتزايدة من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، والذين لا تكاد أجسادهم النحيلة تحوي غير هياكل عظمية”.

ومع استمرار الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، ترمق أعين المراقبين الدوليين مصر عن كثب، لا سيما مع بقاء مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات متوقفة على طول حدودها مع غزة. حيث كان يُعدّ معبر رفح الحدودي هو المنفذ المباشر الوحيد لغزة إلى العالم الخارجي حتى سيطرت عليه إسرائيل في شهر مايو من عام 2024م.

وكانت سيطرة مصر على الحدود مع غزة قد جاءت بموجب معاهدة السلام التي وُقِّعت عام 1979م والمنبثقة عن اتفاقيات كامب ديفيد مع “إسرائيل”، والتي أعادت أيضًا بموجبها لمصر السيطرة على شبه جزيرة سيناء، ودفعت إلى تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”. لكن “إسرائيل” قامت بنشر قواتها على طول الجانب الفلسطيني من حدود رفح في مايو 2024م عندما فرضت سيطرتها على محور فيلادلفيا، الذي كان قد أُنشئ كمنطقة عازلة بعرض 100 متر على طول الحدود بين غزة ومصر بموجب الاتفاقيات الموقّعة بينهما. وبسيطرته على محور فيلادلفيا، أبطل الجيش الإسرائيلي سيطرة مصر على معبر رفح الحدودي مع غزة، منتهكًا بذلك معاهدة السلام لعام 1979م.

ويَنظر النشطاء إلى النظام المصري بانعدام الثقة فيه منذ أن تولى السلطة عبر انقلاب عسكري على الحكومة المنتخبة في عام 2013م، نظرًا لسجلاته المروِّعة في مجال حقوق الإنسان واستبداده. حيث يقوم النظام باستمرار باعتقال النشطاء المصريين الذين ينظمون أو يشاركون في أي احتجاجات تضامنًا مع الفلسطينيين في غزة؛ كما قام باحتجاز وترحيل نشطاء التضامن الدولي الذين حاولوا في شهر يونيو 2025م عبور الحدود إلى غزة وإنهاء الحصار المفروض على القطاع الفلسطيني.

وبسبب هذا السجل الحقوقي “المُروِّع”، فإن الكلمات اللطيفة التي يقولها الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر لا تنطلي على الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم. ففي 29 يوليو 2025م، وفي ثنايا خطاب تطرق فيه إلى التجويع الذي تقوم به إسرائيل في غزة، وكذلك دور مصر في مفاوضات وقف إطلاق النار الجارية بين “إسرائيل” و حركة حماس (بوساطة مصرية وقطرية)، دافع السيسي عن موقف مصر، بحجة أن المفاوضات ووقف إطلاق النار فقط هما ما سينهي الأزمة الإنسانية في قطاع غزة. وزعم السيسي أن مصر تبذل قصارى جهدها للمساعدة في الأمر، لكنها لا تملك القدرة على السماح بدخول المساعدات إلى غزة بينما تسيطر إسرائيل على معبر رفح من الجانب الآخر. وفي 5 أغسطس 2025م، قال السيسي، لأول مرة منذ عامين، إن الحرب الإسرائيلية على غزة تشكل إبادة جماعية للفلسطينيين بالقطاع. ولكن بعد يومين اثنين من هذا التصريح، قام النظام المصري بتوقيع صفقة بقيمة 35 مليار دولار لاستيراد الغاز الطبيعي من “إسرائيل”!

كما واصل السيسي مناشدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحل الأزمة الإنسانية التي فرضتها إسرائيل على غزة. وعلى الرغم من أنه بإمكان السيسي ممارسة سيادة بلاده على حدود مصر، إلا أنه من الواضح أنه يولي اهتمامًا أكبر بكثير للحصول على مباركة ترامب عن أن يقوم باتخاذ أي إجراء من أجل حماية الحقوق الفلسطينية.

ماذا تستطيع مصر أن تفعل؟

لطالما زعمت الدعاية الحكومية المصرية أن أي محاولة لفتح معبر رفح سوف تؤدي إلى فرار مئات الآلاف من الفلسطينيين الجائعين من غزة إلى مصر، وأن ذلك بمقدوره أن يساعد إسرائيل في تحقيق هدفها المتمثل في التطهير العرقي لقطاع غزة. و كان النظام المصري قد أعلن في إصرار مرارًا على أنه لن يشارك في التهجير القسري للفلسطينيين من غزة إلى مصر. ولكن السؤال حول ما إذا كان ينبغي للفلسطينيين أن يتمكنوا من مغادرة القطاع يجب أن يجيب عليه الفلسطينيون أنفسهم. حيث لا ينبغي أن يكون هذا القرار هو قرار الحكومة المصرية. إن النفاق يبدو بغيضًا بشكل خاص عندما يأتي من نظام استفاد بالفعل من جوع الفلسطينيين في الماضي، وذلك من خلال السماح لمجموعة العرجاني، وهي شركة أمنية خاصة تعمل مع الدولة المصرية في سيناء، بتلقِّي مبالغ ضخمة لتسهيل الخروج من المعابر الحدودية الفلسطينية.

ومن المهم الإشارة إلى أن إسرائيل تعتَبِر مصر طرفًا رئيسًا في خططها المستقبلية للتهجير القسري لجزء كبير من السكان الفلسطينيين من غزة. حيث تُصرُّ إسرائيل على ألا تكون حركة حماس ولا السلطة الفلسطينية مسؤولة عن قطاع غزة. وكان عز الدين فشير، الكاتب والدبلوماسي المصري السابق الذي خدم في إسرائيل، قد اقترح أن تتولى مصر مسؤولية غزة مؤقتًا، وهي خطوة تُشبه الانتداب البريطاني عام 1917م، الذي حكمت فيه بريطانيا فلسطين لأكثر من ثلاثة عقود.

ورغم القمع الذي تمارسه الدولة في مصر، فقد دأب المجتمع المدني المصري على تنظيم وإطلاق حملات لإنهاء المجاعة القائمة في غزة. وفي ظلِّ حالة اليأس التي يعيشها الناس، اقترح النشطاء إطلاق بالونات محملة بالطعام، أو تعبئة الحبوب في زجاجات يمكن أن تطفو على شاطئ غزة عبر البحر الأبيض المتوسط. وناشدت الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ومئات المثقفين السيسي السماح لهذه المنظمات بالوصول إلى الحدود وإيصال المساعدات إلى سكان غزة. لكن هذا الطلب قوبل بالصمت الكامل.

في الحقيقة، هناك بعض المواقف المتطرفة حول دور مصر فيما يحدث في غزة، وهي مواقف لا تصمد أمام أي نقاش. إن إلقاء اللوم الكامل على مصر في الأزمة الإنسانية الجارية في غزة، بزعم أنها تمنع المساعدات من العبور من خلال معبر رفح الحدودي، أمرٌ لا معنى له على الإطلاق، خاصةً وأن إسرائيل هي المتسبب الرئيس في الإبادة الجماعية والمجاعة الحادثة في غزة. إن مثل هذا الموقف إنما يُعزّز أكاذيب إسرائيل القائلة بأن مصر هي التي تمنع دخول المساعدات إلى غزة. ومع ذلك، فهناك موقف متطرف في الجانب الآخر يتمثل في الموقف الرسمي المصري، الذي يتمسك بمجرد التضامن الكلامي مع الفلسطينيين، بينما لا يفعل شيئًا لتحدي إسرائيل فيما تقوم به ضد الفلسطينيين.

سياسة التضامن الحقيقية:

ولذلك فمن الضروري الضغط على مصر لاتخاذ الإجراء الصحيح، والاستفادة من قوَّتها والتوقف عن موقفها المتمثل في الاستسلام للسياسات الإمبريالية الأمريكية والإبادة الجماعية الإسرائيلية. وكان عمرو عبد الرحمن، الكاتب والمحلل السياسي المصري، قد طرح بعضًا من هذه الخيارات في شهر يونيو الماضي. فمن سلطة مصر، على سبيل المثال، أن تقوم برعاية الوفود للسفر إلى معبر رفح ورؤية مئات الشاحنات المتوقفة والمليئة بالمساعدات الإنسانية – مما سيوضح للعيان من الذي يمنع المساعدات عن الفلسطينيين في حقيقة الأمر. كما يمكن لمصر أيضًا أن تقوم برعاية اجتماعات دولية للضغط على الجهات الفاعلة الرئيسة، بدلًا من مجرد قبول دور المفاوض المحايد المُهمَّش. كما يمكن للسيسي أيضًا التهديد بإنهاء بروتوكول الأمن لعام 2005م الذي يحدد الكيفية التي يمكن بها أن تقوم مصر وإسرائيل ببسط السيطرة على الحدود، بناءً على حقيقة أن إسرائيل هي من انتهكته بالفعل. حيث يمنع هذا البروتوكول إسرائيل من أي حق في العمل في محور فيلادلفيا. وبإمكان مصر أيضًا أن تسمح لمبادرات المجتمع المدني بالسفر إلى رفح، الأمر الذي يتطلب من مصر ممارسة سلطتها على جانبها من الحدود مع غزة، فضلًا عن الالتزام بالقيمة الديمقراطية المتمثلة في احترام ضغوط المجتمع المدني، بالإضافة إلى مساعدة الفلسطينيين، قبل كل شيء.

لكن نظام السيسي يعتقد أن الحصول على مباركة ترامب وإسرائيل وقادة الخليج الأثرياء المحافظين، وخاصةً النظامين الإماراتي والسعودي، هو مفتاح الحفاظ على قبضته على السلطة والاستمرار في سدة الحكم. ويُذكَر أن الحكومة الأمريكية تقدم حوالي 1.3 مليار دولار سنويًّا كمعونة للجيش المصري. كما أن كلًا من النظام السعودي والإماراتي كان قد قدَّم للسيسي عشرات المليارات من الدولارات كمساعدات منذ انقلابه على الحكومة المنتخبة عام 2013م. ولكن الحقوق الفلسطينية لا تُشكِّل أهمية كبيرة للسيسي، أو لقادة أيٍّ من هذه الأنظمة، إذ إن أي تقدم في الكفاح من أجل تحرير فلسطين قد يُلهِم حركاتٍ للوقوف ضد الحكومات الاستبدادية والمعادية للديمقراطية في المنطقة.

ولذلك، فينبغي على نشطاء التضامن مع القضية الفلسطينية، بل يجب عليهم، مواصلة الضغط على مصر للقيام بالفعل الصحيح مع عدم إغفال مكمن المشكلة الحقيقية (في “إسرائيل”). لقد كانت الولايات المتحدة شريكًا رئيسًا في الإبادة الجماعية الجارية في قطاع غزة، ليس فقط من خلال الإنكار الممنهج للأدلة الكثيرة المتوفرة بالفعل، أو من خلال استخدام حق النقض في مجلس الأمن لأكثر من عامين متتاليين، ولكن أيضًا من خلال تقديم المساعدات العسكرية والأسلحة والدعم الاستخباراتي الفعلي لإسرائيل. كما أنها استهدفت النشاط المؤيد للقضية الفلسطينية في الجامعات الأمريكية. وكذلك ألمانيا أيضًا، فهي لا تنكر أدلة الإبادة الجماعية في  غزة فحسب، بل تستهدف بشراسة أي أنشطة مؤيدة لفلسطين داخل حدودها. وكانت حكومتا المملكة المتحدة وكذلك فرنسا، من بين دول أخرى، من الداعمين الرئيسيين لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها “إسرائيل” على غزة من خلال تقديم الدعم العسكري والسياسي لهذا الكيان. ولم تبدأ هذه الأنظمة في التحدث علانية عما يحدث في غزة إلَّا مؤخرًا مع تفشي المجاعة في أنحاء القطاع. لكن كلًّا من المجاعة والإبادة الجماعية هما من عناصر نفس المشروع الذي يهدف إلى القضاء على السكان الفلسطينيين في غزة.

كما أن الأنظمة الأخرى في المنطقة التي تقبل استمرار الاحتلال والإبادة الجماعية التي يمارسها في غزة – وخاصة دولة الإمارات العربية المتحدة والحكومات العربية الأخرى التي قبلت التطبيع الكامل مع إسرائيل من خلال التوقيع على اتفاقيات أبراهام، دون الاعتراف بحقوق الفلسطينيين – هي متواطئة أيضًا، حتى لو لم تكن تُسهِم بشكل مباشر وفِعلي في الإبادة الجماعية. وجميع الأنظمة المتورطة في الإبادة الجماعية يجب أن تدفع ثمن مساهمتها في تلك الفظائع. في الواقع، كما أن العديد من الشركات متعددة الجنسيات تستفيد من إبادة غزة أيضًا، ويجب أن تواجه عواقب ذلك.

إن التضامن الحقيقي يرتكز على قوة الشعب، ويجب أن يكون مسؤولًا أمام الفلسطينيين قبل كل شيء. ولا بد من النظر أيضًا إلى الإعلانات الأخيرة الصادرة عن الحكومتين الفرنسية والبريطانية عن نيتهما الاعتراف بدولة فلسطينية على أنها نتاج هذا التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية. وفي الواقع، وكما يشير النقاد الفلسطينيون وكذلك حلفاؤهم، فإن الاعتراف بالدولة الفلسطينية دون معاقبة إسرائيل والالتزام بتعويضها يبقى مجرد عمل رمزي. ولكن حتى هذه البادرة ما كانت لتتحقق لولا جهود وحملات التضامن العالمية. إن تحرير فلسطين وإنهاء الإبادة الجماعية في غزة يتطلبان استمرار هذا التضامن وتصعيده في جميع أنحاء العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى