لا يزال الغموض يحيط بالبرنامج النووي الإيراني، لا سيّما مصير اليورانيوم المخصب، الذي تؤكد طهران أنها نقلته خارج المفاعلات التي استهدفتها الضربات الأمريكية والإسرائيلية، في حين يزعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن هذه المنشآت قد دُمِّرت بالكامل ودُفِن ما فيها.
وقد اندلعت معركة كلامية ساخنة بين ترامب ووسائل الإعلام الأمريكية، مثل “سي إن إن” و”نيويورك تايمز”، بعد نشر تقارير استخباراتية مُسرَّبة تؤكد أن الضربة الأمريكية لم تؤثر كثيرًا على البرنامج النووي الإيراني، وأن طهران قامت بنقل اليورانيوم المخصب إلى مواقع بديلة، وهو ما نفاه ترامب بشدة، وهاجم الإعلام، مؤكدًا أن الضربة أنهت برنامج إيران النووي.
ورغم التصريحات الإيرانية الحماسية حول استمرار البرنامج النووي وعدم تأثره، فاجأ مندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، العالم بإعلانه أن بلاده منفتحة على خيار نقل مخزون اليورانيوم المخصب إلى الخارج، في حال التوصُّل إلى اتفاق.
وقال إيرواني، في مقابلة مع موقع “مونيتور” الأمريكي بتاريخ 26 يونيو 2025م: “إذا تمَّ التوصُّل إلى اتفاق جديد، فنحن مستعدون لنقل مخزوناتنا من اليورانيوم المخصب بنسبة 20% و60% إلى دولة أخرى، مقابل الحصول على خام اليورانيوم شبه المكرر (الكعكة الصفراء)”.
هناك تضارب واضح بشأن حجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية الإيرانية، إذ اكتفت طهران بالقول إنها “تضررت بشدة”، لكنها في الوقت ذاته أكدت أن العدوان الأمريكي الإسرائيلي لم يحقق أهدافه، في حين زعمت واشنطن وتل أبيب أنه تمَّ تدمير البرنامج النووي وتأخيره لسنوات.
تشكيك وسائل الإعلام الأمريكية في هذه العملية، التي وُصِفت بأنها من أكثر العمليات العسكرية تعقيدًا وسرية في تاريخ الولايات المتحدة، خصوصًا ما تعلق منها بالموقع المحصن في “فوردو”، استند إلى تقارير استخباراتية رسمية رفض ترامب الاعتراف بها، بل ووبخ مسؤولي الاستخبارات على تسريبها.
إصرار ترامب وإدارته على التأكيد المتكرر لنجاح الضربة وتدمير البرنامج النووي بالكامل، رغم تشكيك الإعلام، إلى حد الهجوم اللفظي على الصحفيّين، يعكس شكوكًا داخلية حول مدى فاعلية الضربة، خاصة في الوصول إلى عمق مفاعل “فوردو” المدفون على عمق 80 مترًا تحت الأرض، وهو ما أكده السيناتور الديمقراطي كريس مورفي الذي قال إن تأثير الضربة لا يتعدى تأخيرًا لبضعة أشهر، متهمًا الإدارة بتضليل الرأي العام.
تصريحات ترامب بأنه سيقصف إيران مجددًا إذا حاولت استئناف تخصيب اليورانيوم تُضعِف زعمه بتدمير البرنامج بالكامل، إذ لا معنى لتهديدات متكررة تجاه ما يُفترَض أنه دُمِّر نهائيًّا. كما أنه تارة يتحدث عن “تدمير اليورانيوم المخصب”، وتارة أخرى عن “السيطرة عليه”، ما يعكس اضطرابًا في الرواية الرسمية الأمريكية.
إصرار مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي على زيارة المواقع التي استهدفتها الضربات، رغم اتهامات إيران له بالعمالة لإسرائيل، يكشف أيضًا عن شكوك دولية في نجاح الضربات الأمريكية والإسرائيلية في تحقيق أهدافها كاملة. وقد صرّح غروسي لشبكة “CBS News” بأن إيران قد تتمكن من استئناف إنتاج اليورانيوم المخصب في غضون أشهر، وهو ما يُعدّ اعترافًا ضمنيًّا بفشل الضربة في القضاء التام على قدرات إيران النووية.
تنازل أم مناورة؟
في خضم هذا الجدل، جاءت تصريحات مندوب إيران في الأمم المتحدة حول الاستعداد لنقل اليورانيوم المخصب إلى الخارج لتثير تساؤلات جدية: هل هو إعلان ضمني لقبول إيران التنازل عن مخزونها النووي الذي يصل في بعضه إلى نسبة تخصيب 60%، وهي نسبة تتيح إنتاج قنبلة نووية؟ أم أنها مناورة سياسية مرتبطة بشرط التوصل إلى اتفاق يبدو بعيد المنال بسبب التناقضات العميقة بين موقفي طهران وواشنطن؟
تزامنت هذه التصريحات مع تقرير لشبكة “سي إن إن” يفيد بأن الولايات المتحدة عرضت تمويل برنامج نووي مدني في إيران بقيمة 30 مليار دولار، تُدفع من دول الخليج، وهو ما نفاه ترامب بشدة، وهاجم القناة واصفًا تقاريرها بـ”الأكاذيب”، ما يدفع للتساؤل: “سي إن إن” كشفت خطة حقيقية تعمل عليها إدارة ترامب؟ أم أن هذا مجرد “جزرة” أمريكية مقابل قبول إيران تفكيك برنامجها النووي؟
رغم ما يبدو من صلابة في الموقف الإيراني، تميل تصريحات بعض المسؤولين إلى تقديم تنازلات، على غرار ما فعله “حزب الله” في لبنان بعد الضربات الإسرائيلية، رغم التأكيد الرسمي على التمسك بالقدرات النووية الوطنية.
في المقابل، أعلن مجلس صيانة الدستور الإيراني، الهيئة المسؤولة عن مراجعة التشريعات، المصادقة على قانون لتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما يُعد رسالة تحدٍ لكل من واشنطن والوكالة بشأن استمرار البرنامج النووي.
طرحت طهران فكرة تشكيل “اتحاد نووي إقليمي” يقوم على التعاون التقني والتجاري بين دول المنطقة، وألمحت إلى إمكانية التخلي عن التخصيب لصالح هذا الاتحاد، لكنها عادت وأكدت أن هذا الكيان لا يمكن أن يحل محل البرنامج النووي الوطني، بل هو مجرد مبادرة “تكميلية”، ما يعكس ارتباكًا في الموقف الرسمي.
في السياق ذاته، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” افتتاحية بعنوان: “لماذا من المهم معرفة ما إذا كان البرنامج النووي الإيراني قد دُمِّر فعلًا؟“، أكدت فيها أن ترامب بحاجة إلى تقييم دقيق لنتائج الضربة العسكرية قبل أن يبدأ أي تفاوض جديد مع طهران.
وأوضحت الصحيفة أنه في حال ثبت تدمير البرنامج النووي بالكامل، فالدبلوماسية ستظل ضرورية لتجنّب قصف متكرر لإيران في المستقبل. أما إذا كانت الضربة لم تحقق هذا الهدف، فقد ترى إيران أنها قادرة على حماية برنامجها حتى في ظل الضغوط والتهديدات الأمريكية، وهو ما سوف يحدد مستوى استعدادها لتقديم التنازلات.