تشير كل الشواهد إلى أن العلاقات بين إسرائيل وبعض دول الخليج العربي، وتحديدًا الإمارات والسعودية والبحرين، وصلت إلى مستويات تمثل خطرًا على الأمن القومي لهذه الدول خاصة، وعلى الأمن القومي العربي عمومًا، خصوصا وأن هذه العلاقات انتقلت من السرية إلى العلن بشكل متدرج مع مطلع تسعينيات القرن الماضي، وكللت في النهاية بتوقيع اتفاق أبراهام، الذي ضم دولتي الإمارات والبحرين، وكانت السعودية على وشك تطبيع مشابه، غير أن عملية “طوفان الأقصى” عطلت هذه الخطوة مؤقتًا، وإن لم تمنع التعاون والتنسيق الأمني والاستخباري.
والحقيقة أنه لا يمكن فهم الاختراقات الإستراتيجية الإسرائيلية في الخليج بمعزل عن الحفاظ على المصالح الاستعمارية الغربية، وتحديدًا المصالح الأمريكية، في الشرق الأوسط؛ إذ تعتبر إسرائيل ركيزة رئيسة لهذه المصالح، جنبًا إلى جنب مع سيطرة الولايات المتحدة على صناعة القرار في دول الخليج الغنية بالنفط، وخصوصًا المملكة العربية السعودية[1]. ومن ثم أصبح للولايات المتحدة ركيزتان للتحكم بالمنطقة، إسرائيل ودول الخليج. وهذا كان مدخلًا مهمًّا لحدوث هذه الاختراقات؛ لأن الأدوار المشتركة التي يقوم بها الطرفان كان لابد أن تؤدي إلى تلاقي المصالح، وتوافق السياسات بين إسرائيل والأنظمة الخليجية.
جدير بالإشارة أن تقارب المواقف بين دول خليجية وإسرائيل يأتي على خلفية اعتبار إيران التهديد الأكبر للطرفين، والغريب أن بعض هذه الدول تربط عداءها لإيران بالخلاف المذهبي بين السُّنة والشيعة. غير أن حقيقة العداء مع إيران ارتبطت بعاملين؛ أحدهما الثورة الإسلامية وخوف هذه الدول من تصدير أفكار الثورة إلى بلدانها، والآخر هو أن إيران في ظِل الثورة الإسلامية أصبحت دولة متمردة على الهيمنة الأمريكية، ومن ثم كانت سياسة دول الخليج متسقة إلى حد كبير مع الرؤية الأمريكية. أي أن العداء الخليجي لإيران لم يكن له علاقة بالخلافات المذهبية في أي وقت من الأوقات.
ومن المهم الإشارة إلى أن الاختراقات الإستراتيجية في الخليج بدأت قبل توقيع اتفاق أبراهام، وإن كان هذا الاتفاق قد أحدث اختراقًا إسرائيليًّا مهمًّا؛ لأنه كان مدخلًا لعدم ربط أي تقدم في العلاقات العربية الإسرائيلية بالتقدم في القضية الفلسطينية، فضلًا عن تجاهله حل الدولتين الذي جمدته إسرائيل بشكل تام[2]. وبالنسبة للسعودية، فرغم أنها لم تتخذ خطوة مماثلة، إلَّا أن الشواهد المختلفة، وتوقيع البحرين على الاتفاق، الذي لم يكن ليتم من دون ضوء أخضر سعودي، يدل على أن وصولها لهذه الخطوة هو مسألة وقت فحسب.
وعلى الرغم من حجم التعامل التجاري المتزايد بين إسرائيل ودول الخليج، إلَّا أنه يظل مع ذلك أقل مستويات الاختراق الإسرائيلي خطورة. ورغم توقيع الإمارات أول اتفاقية تجارة حرة بين إسرائيل ودولة عربية، والتي توصل إليها البلدان عام 2022، وقفزت بالتجارة بينهما إلى أكثر من 2.5 مليار دولار في نفس العام، بعد أن كانت 150 مليون دولار فقط في عام 2020م[3]، ورغم عمل أكثر من ألف شركة إسرائيلية في الإمارات، وقيام صندوق الثروة السيادي الإماراتي بشراء حصة تقدر بـ 22 بالمئة من حقل غاز تامار “الإسرائيلي” في البحر المتوسط مقابل مليار دولار[4]، إلَّا أن هناك مستويات اختراق أكبر من الناحية الإستراتيجية.
الاختراق الأمني والاستخباري والعسكري
تمكنت شركات أمن إسرائيلية خلال العقدين الماضيين من تنفيذ مشاريع وأعمال كبرى في الإمارات والسعودية، أقل ما توصف به أنها تسمح لإسرائيل بالولوج إلى قواعد معلومات يمكن أن تضر بالأمن القومي لهذه البلدان؛ ومن الأمثلة على ذلك أن شركة Logic Industries ومقرها إسرائيل، ويملكها رجل الأعمال الإسرائيلي ماتي كوخافي، أحد الرواد الصهاينة في مجال الأمن، نفذت بين عامي 2007 – 2015م، من خلال شركة AGT، وهي شركة مملوكة لكوخافي، مقرها زيورخ، مشروعًا بقيمة ستة مليارات دولار لمراقبة الطرق في دولة الإمارات. وفي إطار هذا المشروع قام مهندسون إسرائيليون بتثبيت آلاف الكاميرات والمستشعرات وأجهزة قارئة للوحات السيارات على طول 620 ميلًا على الحدود الإماراتية وفي أنحاء أبو ظبي[5].
يضاف إلى ذلك أن تقريرًا في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، نشر في 17 يونية 2024م، تحدث عن أن الصادرات العسكرية الإسرائيلية لدول الخليج المشاركة في اتفاق أبراهام، إلى جانب المغرب والسودان، وصلت قيمتها إلى 1.7 مليار دولار، بنسبة 24 بالمئة من إجمالي الصادرات العسكرية الإسرائيلية الخارجية في عام 2022م، والذي كان يقدر بسبعة مليارات دولار، وهذه النسبة تراجعت في عام 2023م إلى 3 بالمئة فقط، رغم تضاعف الصادرات العسكرية الإسرائيلية والتي وصل إجماليها إلى 13 مليار دولار[6].
ويَحكي شموئيل بار، عميل المخابرات الإسرائيلية السابق، ومالك شركة IntuView الإسرائيلية المتخصصة في مجال الأمن السيبراني ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي، عن تلقيه اتصالًا هاتفيًّا في عام 2015م من شخصية سعودية نافذة عبر سكايب يطلب خدمات شركته. وعلى إثر ذلك قامت شركته باستخدام برنامج مراقبة يسمى IntuScan كان يتعامل مع أربعة ملايين منشور في فيسبوك وتويتر يوميًّا لمواجهة خطر “الإرهابيّين” في المملكة. ولاحقًا تمَّ توسيع المهمة لتشمل مراقبة الرأي العام حول العائلة المالكة في السعودية. وأكد بار أنه التقى مرارًا بمسؤولين سعوديّين وخليجيّين من أجل مزيد من التعاون في هذا المجال الاستخباري. ويؤكد أنه لا يوجد ما يسمى بمقاطعة العرب لإسرائيل[7].
وفي السياق نفسه، وصفت تقارير استخبارية إسرائيلية العلاقات بين إسرائيل والسعودية بقولها: “لم يكن هناك أبدًا تعاون فعَّال بين البلدين مثلما هو حاصل اليوم، في مجال التحليل، والاستخبارات والتعاون ضد إيران والحركات الموالية لها”[8]. ولا يبتعد عن هذا السياق ما أكدته مصادر كثيرة حول استخدام عدد من الدول الخليجية برامج إسرائيلية للتجسس على هواتف المعارضين؛ وأن دولة الاحتلال شجَّعت شركة NSO الإسرائيلية على بيع برنامج بيجاسوس المخصص لهذا الغرض لكل من الإمارات والسعودية والبحرين وسلطنة عمان مقابل مئات الملايين من الدولارات[9].
وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أشارت منذ عامين إلى تعاون استخباري بين إسرائيل ودول الخليج ضد “العدو الإيراني المشترك”، حسب لفظ الصحيفة، يضاف إلى ذلك ما نقلته يديعوت عن صحيفة “وول ستريت جورنال” عن تبني الأمريكيّين لتحالف دفاعي إقليمي ضد التهديدات الإيرانية، عقد في شرم الشيخ مارس 2022م، كان جمع رئيس الأركان الإسرائيلي السابق أفيف كوخافي، بقادة عسكريّين عرب بينهم نظيره السعودي فياض بن حامد الرويلي، ناقشوا فيه التهديدات التي تمثلها المُسيرات الإيرانية[10]، فضلًا عن وثائق أمريكية تحدثت عن تعاون عسكري بين إسرائيل والإمارات والبحرين[11]. ومشاركة القوات الجوية الإماراتية، أكثر من مرة، في تدريبات مع سلاح الجو الإسرائيلي، وتبادل الوفود العسكرية بين البلدين من أجل تطوير التعاون العسكري بينهما[12].
الشاهد هنا هو أن حجم التعاون بين إسرائيل وجيوش دول الخليج المنتمية لما يُسمَّى “محور الاعتدال العربي” كبير للغاية، وفقًا لكبير الباحثين ورئيس برنامج الخليج في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يوئيل جوزانسكي، وهو تعاون تغلب عليه السرية، قامت فيه إسرائيل، حتى قبل اتفاق أبراهام، ببيع أسلحة لهذه الجيوش. من ذلك مثلًا أن إسرائيل باعت للإمارات أنظمة دفاع جوي في عام 2021م، كما باعتها صواريخ اعتراضية متنقلة من طراز سبايدر من صنع شركة رافائيل الإسرائيلية[13]. وفي يناير 2022م، باعت بعض الجيوش الخليجية أنظمة دفاع جوي من نوع “باراك 8”[14]. يضاف إلى ذلك كله أن نقل إسرائيل من القيادة المركزية الأمريكية الأوروبية إلى القيادة المركزية الأمريكية أدَّى إلى توفير منصة لمزيد من المباحثات الأمنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج[15].
ولا شك أن هذا التعاون في هذه المجالات الحساسة يعني فتح الباب واسعًا في هذه البلدان أمام العسكريّين الإسرائيليّين ورجال الاستخبارات، وهو ما يشكل خطرًا على الأمن القومي العربي عمومًا، وليس على هذه البلدان فحسب، وهذا ما ظهر واضحًا في الحرب الدائرة حاليًا.
“طوفان الأقصى” ووحدة المصالح الإستراتيجية
أدَّى وصول التعاون بين بعض دول الخليج وإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة إلى انسجام الموقف الخليجي في الحرب الحالية مع المصالح الإسرائيلية انسجامًا غريبًا، وهو أمر يمكن ملاحظته في مناسبات كثيرة خلال معركة “طوفان الأقصى”؛ فمنذ اتخاذ الحوثيّين قرارهم المساند للمقاومة وتأثيره السلبي الكبير على توفير الحاجات الضرورية لإسرائيل والتي كانت تأتيها عبر ميناء إيلات على البحر الأحمر، تحولت بعض دول الخليج لتصبح شريان حياة لإسرائيل؛ حيث أنشأت أبو ظبي طريقًا بريًّا يمتد من موانئها ثم يسير برًّا مرورًا بالسعودية ثم الأردن إلى أن يصل إلى إسرائيل، لمساعدتها في تعويض الخسائر التجارية الناجمة عن الحصار البحري الذي فرضه الحوثيون على السفن المتجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر.
ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ بل امتد لاستخدام المجال الجوي لبعض هذه الدول لتوفير الحماية اللازمة لإسرائيل ضد الهجمات الإيرانية أو الحوثية؛ وطبقًا لصحيفة “لوموند” الفرنسية فإن دولًا خليجية سمحت للولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا باستخدام مجالها الجوي لتزويد طائراتها بالوقود، وصولًا إلى استخدام أنظمة الرادار المتطورة في قواعد هذه الدول لرصد الصواريخ والمُسيَّرات الإيرانية ليلة الهجوم الإيراني الأول على إسرائيل في 13 أبريل الماضي، بل إن الصحيفة المذكورة، ومصادر إسرائيلية أخرى ذكرت أن دولًا خليجية، بينها السعودية، قامت باعتراض لهذه الصواريخ والمُسيَّرات[16]. يضاف إلى ذلك تقارير أخرى أكدت قيام السعودية في 19 أكتوبر الماضي باعتراض صواريخ أطلقها الحوثيون تجاه إسرائيل، ونتيجة لذلك سقط حطام هذه الصواريخ داخل الأراضي السعودية[17].
وعلاوة على ذلك فإن ما أورده الصحافي الأمريكي بوب وودوارد في كتابه “الحرب” من أحاديث منسوبة إلى مسؤولين سعوديّين وإماراتيّين وبحرينيّين، ومصريّين وأردنيّين، تحث إسرائيل على القضاء على حركة حماس، إضافة إلى تبني قنوات فضائية مملوكة للسعودية والإمارات لخطاب إعلامي صهيوني يصف المقاومة وقادتها بالإرهاب، وهو خطاب لم يكن من الممكن تبنيه لولا رضا قادة هذه الدول عن رسالته.
هذه الشواهد السابقة وغيرها دفعت كُتَّابًا غربيّين للقول إن المملكة العربية السعودية ومعها الإمارات والبحرين أصبحت تشارك إسرائيل في نفس التهديدات والمصالح الملحة في الشرق الأوسط، وهو تحول لم يكن بنفس درجة الوضوح قبل “طوفان الأقصى”[18].
[1] – Adam Hanieh: Framing Palestine, Israel, the Gulf States, and American power in the Middle East. Transnational Institute (tni) 13 June 2024. https://tinyurl.com/26s8uyjg
[2] – Dina Esfandiary and Dialla Jandali: The UAE, Israel and a Test of Influence. International Crisis Group, 14 June 2024. https://tinyurl.com/2dpd7ss6
[3] – Adam Hanieh: Ibid
[4] – Dina Esfandiary and Dialla Jandali: Ibid
[5] – J. Ferziger and P. Waldman: How Do Israel’s Tech Firms Do Business in Saudi Arabia? Very Quietly. Bloomberg Bussinessweek, 2 February 2017. https://tinyurl.com/zzdexvp
[6] – אלישע בן קימון: שיא נוסף בייצוא הביטחוני, בזמן המלחמה: ישראל מכרה נשק לעולם ב-13 מיליארד דולר. ידיעות אחרונות. 17 June 2024. https://tinyurl.com/26hkbjx3
[7] – J. Ferziger and P. Waldman: Ibid
[8] – GIP Leads Pack in Cooperation with Israel,” Intelligence Online, 12 October 2016.
[9] – Chaim Levinson: With Israel’s Encouragement, NSO sold Spyware to UAE and other Gulf States. Haaretz, 25 August 2020. https://tinyurl.com/2hlk7vb3
[10] – איתמר אייכנר: שיתופי פעולה היסטוריים ואוייב משותף אחד, שנתיים להסכמי אברהם. ידיעות אחרונות 22. 08. 13.
[11] – Y. Guzansky: Israel and the Arab Gulf states, from tacit cooperation to reconciliation. Israel Affairs, Vol. 21, No. 1, 2015. p. 139
[12] – M. Zaga: Israel and the United Arab Emirates: The Axis of Precedents. In: Israel’s Relations with Arab Countries: The Unfulfilled Potential. Ed. R. Kibrik, N. Goren and M. Kahana-Dagan. Mitvim 2021. p. 81.
وانظر كذلك:
“Exclusive: Israel Hosted UAE Military Delegation to Review F-35s, Sources Say,” i24News, 4 July 2018. https://tinyurl.com/ybtvtoxn
[13] – Dina Esfandiary and Dialla Jandali: Ibid
[14] – ליקור בן ארי: צבאות ערב, הדול, הקטן, המיומן – והחסות האמריקנית. הסיפור של צבאות המפרץ. ידיעות אחרונות 6. July. 2024. https://tinyurl.com/2xphr69o
[15] – Dina Esfandiary and Dialla Jandali: Ibid
[16] – Helen Sallon: The balancing act of the Gulf States in the face-off between Israel and Iran. Le monde April 18, 2024. https://tinyurl.com/2ydauz2a.
وانظر كذلك: ליקור בן ארי
[17] – Eleonora Ardemagni: In the Red Sea and Beyond, Gulf Arab States and Israel share Security Threats. The Arab Gulf States Institution in Washington. Nov 28, 2023. https://tinyurl.com/2x5tyyn5
[18] – Ibid