مقدمة
تفتح المتغيرات الكثيرة على المستويين الدولي والإقليمي الباب واسعًا أمام تحولات كبرى قد تشهدها منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة؛ فالاتفاق الحالي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، والذي من المحتمل أن يصبح اتفاقًا دائمًا، وسقوط نظام الأسد في سوريا وتولي إدارة جديدة البلاد، وتولي الرئيس الأمريكي ترامب الذي تختلف إستراتيجيته عن سابقه في التعامل مع الملفات العديدة التي تواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، كلها ترجح أن المنطقة سوف تكون أمام أحداث كبيرة خلال الفترة المقبلة.
وهنا يبدو الانشغال بالحديث عن نهاية المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قضية فرعية مقارنة بقضية تبعات معركة طوفان الأقصى، تحديدًا، على مستقبل الكيان الصهيوني كله.
صحيح أن نتنياهو يبدو فعليًّا في أضعف حالاته أمام المجتمع الصهيوني عامة، وفي مواجهة ضغوط شركائه في الائتلاف للعودة لمواصلة الحرب بعد المرحلة الأولى من الاتفاق، وبسبب خيبة الأمل التي تعرض لها نتيجة الضغوط التي مورست عليه من الرئيس الأمريكي الجديد للقبول بالصفقة، وبسبب كثير من الأسئلة التي سوف تطرح داخليًّا نتيجة قناعة إسرائيلية كبيرة أن الحرب لم تحقق النتائج التي أرادها الإسرائيليون، لكن الصحيح أيضًا أن نتنياهو كان دائمًا يملك مخرجًا من الأزمات، كما تقول مجلة “تايم”، وهذا المخرج قد يكون عبر التطبيع مع السعودية، أو عبر ضم مزيد من المناطق في الضفة الغربية من خلال التوسع في الاستيطان فيها، وحرية العمل العسكري في كافة أجزائها، أو حرية عمل أكبر للعمل ضد إيران يحصل عليها من ترامب.
وللتذكير فإن كثيرًا من المحللين السياسيّين الذين أكدوا منذ انطلاق معركة طوفان الأقصى أن ما حدث يعني نهاية المستقبل السياسي لنتنياهو نتيجة الفشل العسكري والسياسي، هم أنفسهم من يعيدون التوقعات نفسها.. والحقيقة أن نتنياهو وإن كان السياسي الأكثر ذكاءً بين منافسيه الحاليّين في الكيان الصهيوني، فإن انشغاله الحصري بحساباته السياسية أكثر من أي شيءٍ آخر يعني ضعف الدولة وتغلغل الفساد في مفاصلها.
تطرح هذه الورقة ثلاث نقاط رئيسة، هي التوقعات المحتملة في الملف الفلسطيني، وتحديدًا في غزة والضفة الغربية، وملف التطبيع بين السعودية وإسرائيل وعلاقته باتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ثم الحديث عن الدور الإسرائيلي في سوريا بعد سقوط نظام الأسد.
ويُلاحَظ هنا أن إسرائيل هي العامل المشترك في الملفات الثلاثة المطروحة، وهي تحاول أن تخرج من كل منها بمكاسب كبيرة، تعوض بها كارثة السابع من أكتوبر، وما ارتبط بها من فشل سياسي وعسكري واستخباري وأزمات مجتمعية كبرى، وهو ما سوف تظهر نتائجه الكارثية على الكيان الصهيوني في المستقبل القريب.
1 – الترتيبات في غزة والضفة الغربية
يأتي تعامل إسرائيل في الملفات الثلاثة وهي تتعرض لأزمات داخلية كثيرة تتمثل في احتمالات تفكك الائتلاف الحاكم وفقدانه الأغلبية، وحالة ضعف غير مسبوقة لم يمر بها نتنياهو عبر تاريخه السياسي الطويل، وطرح أسئلة حول أسباب الكارثة التي تعرَّض لها الكيان، ومطالبات بتشكيل لجان تحقيق لتحديد المسؤولين عن الفشل في مواجهة اجتياح المقاومة في غزة مستوطنات الجنوب الفلسطيني المحتل، والقضاء على فرقة غزة، فضلًا عن مناقشة قضايا تتعلق بالحريات، والفساد، والمشاكل الاقتصادية الناجمة عن حجم إنفاق ضخم على الحرب الأطول منذ تأسست دولة الاحتلال.. وغيرها من القضايا.
وقد جاء الاتفاق الذي تمَّ توقيعه بين المقاومة وإسرائيل بشروط تتشابه كثيرًا مع الاتفاق الذي تعمد نتنياهو إفشاله في مايو 2024م. ونتيجة هذا التشابه، وعدم تمكُّن الجيش الإسرائيلي من القضاء على حماس، وعدم قدرته على استعادة الأسرى عسكريًّا، كان طبيعيًّا أن تطرح تساؤلات حول أسباب توقيع إسرائيل في يناير 2025م على اتفاق رفضته قبل سبعة أشهر على الأقل، ولماذا، والأمر كذلك، تمَّت التضحية بأرواح جنود وأسرى، كان يمكن توفيرها، على مدار شهور طويلة من الحرب.
مستقبل اتفاق وقف إطلاق النار
كان واضحًا لباحثين ومحللين عسكريّين إسرائيليين أن دولتهم لن تتمكن من تحقيق أهدافها عبر العمل العسكري، وأن عليها أن تسلك مسارًا مختلفًا، وهو معنى عبَّر عنه الباحث الكبير في معهد دراسات الأمن القومي، عوفير شيلح، عقب توقيع الاتفاق مباشرة، بتأكيد قناعته بوجوب تمرير الاتفاق حول تحرير الأسرى مهما كانت كلفته، وما يلحق بها من ألم نفسي، وغضب مكتوم بسبب ما تتضمنه الصفقة؛ لأن إسرائيل من وجهة نظره، ليست قادرة على القضاء على حركة حماس، لأنها لم تكن مؤهلة لفعل ذلك قط، ولأن استخدام القوة، والمزيد من القوة لم يعد يخدم إسرائيل، بل يخدم دوافع ومصالح خاصة، والطريقة الوحيدة الصحيحة التي ينبغي أن تتصرَّف بها إسرائيل هي تقديم بديل عن حماس في غزة، وليس مواصلة الحرب، خصوصًا وأن الجيش استنزف مهامه وأهدافه في غزة، ولم يكن لضرباته أي تأثير في تغيير الواقع السياسي، بل إن حماس تعافت نتيجة هذه السياسة، والأكثر من ذلك أن قيادات حماس المستقبلية سوف تخرج من السجون في الأسابيع المقبلة حتى لو تمَّ ترحيلهم بعيدًا عن فلسطين.
ما قاله شيلح تكرر لدى كثير من السياسيّين والمحللين الإسرائيليّين؛ ما يعكس رغبة لدى قطاع واسع هناك بأن تلتزم إسرائيل بشكل كامل بالصفقة؛ لأن ذلك يمكن أن يؤدي لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهذا يَعني أن ما يطرحه اليمين الحاكم الإسرائيلي يجري بدافع الانتقام، وليس وفق رؤية إستراتيجية فاعلة، وأن هذه الرؤية، حسب المنطق المطروح، يجب أن تتغير حتى تدرك إسرائيل بالسياسة ما لم/ولن تدركه بالحرب، التي أورثت إسرائيل إخفاقًا يضاف إلى إخفاقها في 7 أكتوبر 2023م.
وقد بات من حكم المؤكد أن نتنياهو أجبر على قبول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، وعلى الأرجح، أن هذا الاتفاق سيمضي إلى نهايته، لأكثر من اعتبار؛ أحدها يتعلق بعدم رغبة الجيش الإسرائيلي مواصلة العمل العسكري على قطاع غزة بنفس النمط قبل الاتفاق، وإن كان خضوع الجيش للقيادة السياسية قد يجبره على العودة للقتال في حال قررت الحكومة ذلك.
ويرتبط الاعتبار الثاني برغبة غالبية الإسرائيليّين في المضي قدمًا في استكمال الاتفاق، ووقف الحرب. أما الاعتبار الثالث، وهو الأكثر أهمية، فإنه يرتبط بما يريد الرئيس الأمريكي فرضه من وقف تام لإطلاق النار للتفرغ للقضايا الأكثر إلحاحًا للمصالح الأمريكية، وبسبب طبيعة شخصية ترامب التواقة إلى المجد والاعتداد بالنفس، مما يدفعه إلى محاولة إيجاد حل دائم للقضية على حساب الفلسطينيّين، ويرتبط بالاعتبار السابق عامل آخر يتعلق برغبة الرئيس الأمريكي اتخاذ خطوات فعلية نحو تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، وهي خطوات لا يمكن أن تتم إن لم تتوقف الحرب بشكل كامل في القطاع.
وهذا العامل الأخير، حسب الباحث الفلسطيني، رجا الخالدي، يمكن أن يكون العامل الذي يعادل الحسابات ويحسن الظروف الفلسطينية، لكنه في الوقت نفسه يرتبط بمدى رغبة السعودية وإصرارها على دعم الفلسطينيّين لمقاومة أي حل لا يلبي مطالبهم.
التوسع في الضفة الغربية
غير أن يد إسرائيل التي تبدو، حتى اللحظة، مكبلة في غزة بعد الاتفاق الموقع، ليست كذلك في الضفة، كما أن سياسة ترامب فيما يتعلق بالضفة تبدو مشجعة لإسرائيل؛ فمن بين القرارات الأولى التي وقعها ترامب رفع العقوبات عن المستوطنين في الضفة الغربية، وهو ما يَعني إطلاق يد إسرائيل في مناطق السلطة الفلسطينية.
ومن المهم هنا توضيح أن رؤية ترامب اليمينية، وما كان يأمله عند توقيع اتفاق أبراهام في ولايته الأولى، أن تضم إسرائيل جزءًا كبيرًا من الضفة الغربية رسميًّا، قبل أن يتراجع عنه بسبب نصائح مستشاريه، مقابل وعود بتحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيّين، وما صرح به أثناء حملته الانتخابية الأخيرة حول ضرورة زيادة مساحة إسرائيل، فإن هذا يعني رغبته في التوصل عبر صفقات سياسية في المنطقة لفرض رؤيته لصفقة القرن التي تقوم على مقايضة بين الحقوق السيادية الفلسطينية والازدهار الاقتصادي، وسوف تتوقف على إقناع الفلسطينيّين أنه لا يمكن التوصُّل لاتفاق آخر. ويعتقد رجا الخالدي أن الحرب على غزة، والحملات العسكرية الإسرائيلية عليها وعلى فصائل المقاومة في الضفة أضعفت حركة حماس كثيرًا، في نفس الوقت الذي تراجعت فيه شعبية سلطة محمود عبَّاس إلى أقل من أي وقتٍ مضى، ويضيف أن غياب الوحدة الفلسطينية يجعل من الصعب مقاومة أي مقترح بمشروع تسوية نهائية يفرضها ترامب، خصوصًا وأن القادة العرب ليسوا مستعدين لممارسة أية ضغوط تدعم الفلسطينيّين في ظِل استجابتهم الضعيفة للغاية للحرب في غزة؛ أي أن البيئة الإقليمية لا تسمح برفض أي مقترح لترامب.
ما يدعم هذه التوجهات تصريحات جاءت على لسان أفراد ومستشارين في فريق العمل في الإدارة الأمريكية الجديدة من قبيل: “لا وجود للضفة الغربية، بل يهودا والسامرة”، ما يَعني أن هناك دفعًا نحو اعتبار الضفة الغربية تابعة لإسرائيل.
ويدعم هذا التوجه أيضًا رفض غالبية الإسرائيليين في الوقت الحالي (65%) حل الدولتين، مقابل (30%) فقط عام 2012م. علاوة على ذلك كله فإن فشل نتنياهو في غزة، ومحاولة إرضاء تطلعات وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، سوف يدفع إلى محاولة تجنب اللوم عبر المضي قدمًا في الضفة.
تقويض حل الدوليتين
ولا يقتصر الأمر هنا على عملية الجدار الحديدي التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في جنين والتي قد تتمدد خارجها، بل إنه يذهب نحو مزيدٍ من التوسع في الاستيطان، وما ينبني عليه من ضم الضفة أو أجزاء واسعة منها، وما يعنيه ذلك من تقويض تام لمسار أوسلو وحل الدولتين.
والحقيقة أننا حين ننظر إلى واقع المنطقة؛ ندرك أن موضوع حل الدولتين أصبح أبعد من أي وقت مضى، وأن الدولة الوحيدة الموجودة ذات السيادة في فلسطين المحتلة هي دولة الاحتلال، أما بالنسبة للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير فإن ما تفعله هو محاولة اكتساب سمات الدولة على غير ما يقول الواقع في ظِل عدم توفر أي مقومات لهذه الدولة، ولا حتى إمكانية الحفاظ على مناطق الضفة الغربية من التقطيع والاستيلاء والتوسع الاستيطاني من قبل إسرائيل، وصولًا إلى بقاء السلطة رهينة من الناحية الاقتصادية لإسرائيل.
وقد زاد في الآونة الأخيرة على كل ذلك خطوات إسرائيلية محمومة لدمج الضفة الغربية وجعلها جزءًا من دولة الاحتلال. وهذا يعني أن النقاش حول فكرة حل الدولتين كهدف سياسي عفا عليه الزمن، أو لم يعد ذا صلة، وأصبح جزءًا من التاريخ، على الأقل من المنظور الإسرائيلي، وهو التوجه الذي أصبح طاغيًا على الكتابات والتحليلات الصهيونية منذ عدة سنوات في الأوساط الصهيونية، داخل إسرائيل وخارجها.
وكانت مجلة تابلت، التابعة لليهودية المحافظة في الولايات المتحدة نشرت في مارس 2020م مقالًا لأستاذ الدراسات اليهودية الحديثة في كلية اللاهوت بجامعة هارفارد، شاؤل ماجيد، بعنوان “دعونا نتوقف عن الكذب بشأن حل الدولتين” تحدث فيه عن صعوبة تقبل بعضهم نهاية فكرة حل الدولتين، وأنها لم تعد منطقية منذ نشأتها، وهو اتجاه شاع لدى كثير من المنظرين مفاده أن “فكرة الدولتين لشعبين كانت بمثابة الحل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنها لم تعد الحل اليوم”.
وهذا الموقف نفسه عبر عنه قبله أستاذ الدراسات السياسية في جامعة بنسلفانيا، والمتخصص في الصراع العربي الإسرائيلي، يان لوستيك في كتابه “النموذج المفقود؛ من حل الدولتين إلى واقع الدولة الواحدة”، والذي خلص إلى أن إمكانية حل الدولتين لم تكن قابلة للتطبيق حقًا على الجانب الإسرائيلي.. وأن هذه الفكرة سرعان ما تخطاها الزمن بمجرد ظهورها في بداية السبعينيات من القرن الماضي، حتى إن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، ومنظمة كوفي (مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل) المنتمية للصهيونية المسيحية، وغيرهما كانوا يدفعون نحو تقويض نموذج الدولتين لعقود من الزمن، بناءً على طلب الحكومات الإسرائيلية، في حين كانت هذه المنظمات تدعم ظاهريًّا حل الدولتين، بل إن المؤتمر الدولي الثالث للصهيونية المسيحية عام 1996م كان يرفض هذا الحل انطلاقًا من مبدأ “الأرض التي منحها الرب لشعبه إسرائيل، لا يجوز تقسيمها، ومن الخطأ الاعتراف بأي دولة فلسطينية في أي جزء منها”.
ومن المفيد هنا التنبيه إلى أن العملية العسكرية الحالية التي أطلقها الجيش الصهيوني في الضفة الغربية، وتحديدًا في مخيم جنين، باسم “الجدار الحديدي” لم تأخذ هذه التسمية اعتباطًا؛ إذ ترتبط التسمية بالجذور الأيديولوجية لبنيامين نتنياهو، وتستند تحديدًا إلى أفكار زئيف جابوتنسكي، مؤسس الصهيونية التصحيحية، والأب الروحي لحركة “حيروت” التي نشأ عنها حزب الليكود، والذي كان يَرى أن ضفتي نهر الأردن جزء من أرض إسرائيل. وكان جابوتنسكي كتب مقالًا عام 1937م أسماه “الجدار الحديدي” (نفس الاسم الذي أطلق على العملية العسكرية)، وكان تصوره عن الدولة اليهودية فيه يتكون من خمس مراحل: 1 – بناء جدار حديدي للفصل، 2 – سحق أي محاولة لاختراقه، 3 – تهميش المتطرفين وتعزيز المعتدلين بين العرب، 4 – مراقبة الاعتدال العربي، 5 – بدء مباحثات حول استيطان يقوم على حقوق متساوية، لكن في ظِل أغلبية يهودية.. وكان جابتونسكي يَعتقد أن الموقف العربي الرافض للاستعمار الصهيوني موقف غير مفهوم، وأن الحل الوحيد لكسره يتم عبر الحرص على الفشل العربي المتوالي سياسيًّا وعسكريًّا.
الغريب هنا أنه في ظل هذا السيناريو المرسوم تجاه الضفة الغربية، والموافق عليه كما هو واضح من الإدارة الأمريكية، وفي ظِل عدم واقعية حل الدولتين، إسرائيليًّا، على المستوى السياسي والشعبي، اختارت السلطة الفلسطينية سياسة الموت البطيء، أو الانتحار السياسي نتيجة الخوف من عدم تكرار سيناريو غزة، ظنًّا منها أن ذلك قد يَحفظ لها موضع قدم هناك، لكن الحقيقة أن السلطة تفقد بذلك الشعب الفلسطيني؛ حيث تتراجع شعبيتها، وتفقد إمكانية الضغط على إسرائيل.
والحقيقة أن حرب طوفان الأقصى كان لها تأثيران في القضية الفلسطينية يبدوان متناقضين؛ فمن ناحيةٍ كشفت بوضوح أن إسرائيل لم تكن يومًا معنية بحل الدولتين، وأنها تفضل إخضاع الفلسطينيّين لتصورها هي للحل، عبر نموذج الدولة الواحدة ذات الأغلبية اليهودية، وإن كان هذا التصور لا يمكن أن يستوعب فلسطينيي الضفة جميعًا، لأسباب تتعلق بالديموغرافيا وتأثيره على فكرة وجود أغلبية يهودية كبيرة، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن إسرائيل وظفت هذه الحرب من أجل توطيد “واقع الدولة الواحدة” بشكل متزايد، واستغلال الحرب حافزًا لنشرها، حتى لا يفسر قبولها، الافتراضي، حل الدولتين واعترافها بدولة فلسطينية مكافأة للهجوم الذي شنته حماس، كما يقول ناتنيئيل شيلز.
غير أن فكرة الدولة الواحدة، ورغم تحولها لتصبح محور الندوات العلمية والكتب الأكاديمية، وفي مراكز الدراسات والأبحاث، إسرائيليًّا ودوليًّا، تبقى فكرة غير واضحة؛ إذ لا يوجد اتفاق على ماهيتها، أو الآثار المترتبة على وجودها في الداخل الإسرائيلي أو على المستوى الإقليمي والدولي، وتأثيراتها الديموغرافية، وهل يضم المصطلح الضفة الغربية وغزة معًا لتصبحان جزءًا من إسرائيل، أم الضفة الغربية وحدها، وغير ذلك من أسئلة كثيرة تؤكد أن ما يحدث في الضفة الغربية حاليًا، وما فشلت إسرائيل في تحقيقه، حتى اللحظة في قطاع غزة، من إعادة الاستيطان، يسير نحو مفهوم الدولة الواحدة، التي أصبحت واقعًا فعليًّا في السنوات الماضية، وليس مجرد ترتيبات مؤقتة. وكأن هذا يعني أن التطبيق في هذه الحالة أصبح يتم حتى قبل وضوح تفاصيل الفكرة نفسها والإجابة عما يرتبط بها من أسئلة.
2 – مسار التطبيع مع السعودية
لا يبدو اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، واحتمال إتمام وقف دائم للحرب منعزلًا عن الحديث الدائر في إسرائيل حول التطبيع مع السعودية؛ فخلال الأيام الأخيرة تراكمت التصريحات والمقالات حول مسألة تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب؛ بشكل يجعل من الاتفاق خيارًا ضروريًّا من أجل التمهيد لهذه الخطوة الخطيرة في تاريخ الصراع العربي الفلسطيني.
وقف إطلاق النار والصفقة مع السعودية
تحدث الصحافي في هآرتس، حاييم ليفنسون، عن العلاقة الواضحة بين اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى في غزة، والتطبيع السعودي الإسرائيلي المحتمل؛ وأن نتنياهو وشركاءه في الحكومة المصرين على تصريحات العودة للحرب يطلقون تصريحات لا علاقة لها بحقيقة ما يحدث؛ ويقول ليفنسون إن الاتفاق الحقيقي لا يرتبط بتحرير الأسرى، بل بصفقة تاريخية مع السعودية، تأتي على رأس أولويات الرئيس الأمريكي ترامب.
وفي هذا السياق، لم يكن من الغريب أن يتحدث زعيم المعارضة الإسرائيلية، يائير لبيد، في 23 يناير 2025م، عن “الفرصة التاريخية” لتعزيز وضع إسرائيل في المنطقة، وما يتضمنه أي اتفاق إقليمي مع السعودية من إمكانات كامنة كبيرة، وما يمكن أن يحققه لإسرائيل من إنجازات غير مسبوقة في جميع المجالات.
وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت نشرت في 9 يناير 2025م حوارًا مع الصحافي السعودي، عبد العزيز الخميس، الذي وصفته بالمقرَّب من العائلة المالكة، والذي أكد أن المستقبل القريب سيشهد اتفاقًا بين السعودية وإسرائيل، وأن مطالبة السعودية بحل الدولتين بشكل فوري ليس في الحقيقة شرطًا للتطبيع، فما تريده السعودية أن تكون هناك خارطة طريق مستقبلية، بمعنى أن يكون هناك التزام إسرائيلي يساعد الرئيس ترامب على التوصُّل للتطبيع بين البلدين.
ومن الواضح حسب ما تضمنه الحوار، أن نموذج الحل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، عند الخميس، يجب أن يقوم على تقدير الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية، وتوفير الرفاه للفلسطينيّين، في نفس الوقت الذي يرجح فيه أن السعودية إذا اقتنعت أن الفلسطينيّين لا يريدون مساعدة أنفسهم، فإنها لن تنتظرهم طويلًا. خاصة وأن بناء مدينة نيوم بالقرب من فلسطين المحتلة لم يكن من قبيل الصدفة، بمعنى أن المملكة ستكون في حاجة للاستقرار والتعاون مع إسرائيل.
غير أن تصريحًا لوزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، رون درمر، في جلسة الكنيست، 22 يناير 2025م، قال فيه “إن إسرائيل لم تتعهد بقيام دولة فلسطينية في المباحثات مع السعودية” يتناقض حتى مع ما عبَّر عنه الخميس في حواره مع الصحيفة الإسرائيلية حول رغبة الرياض بمجرد تعهد إسرائيلي بدولة فلسطينية تبرر مضيها قدمًا في التطبيع.
وعلى هذا الأساس يبدو أن قدوم ترامب وإدارته، وتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى أديا إلى رفع سقف طموحات الإسرائيليّين حول التطبيع مع السعودية؛ حتى إن القناة 12 الإسرائيلية تحدثت عن اكتمال الأعمال التحضيرية في إسرائيل لاتفاق التطبيع مع السعودية، كما توقع موقع القناة 2000 الحريدي بدء دفع عملية التطبيع مع السعودية خلال ثلاثة أشهر، لكن رسائل إدارة ترامب تشير إلى أن الرياض لن توافق على التوصُّل إلى اتفاق رسمي مع إسرائيل من دون وقف الحرب في غزة، أي إتمام الصفقة برمتها، وليس المرحلة الأولى منها فقط.
ولا شك أن الصحافة الإسرائيلية حين تتحدث عن اتفاق تطبيع مع السعودية فإنها تتحدث عن آفاق أوسع نحو اتخاذ دول عربية وإسلامية أخرى خطوات مماثلة؛ وفي مقدمتها إندونيسيا، الدولة الإسلامية الأكبر من حيث عدد السكان، والتي كانت خطوات التطبيع معها قد تعطلت نتيجة اندلاع الحرب في غزة.
وهكذا سوف يكون نتنياهو أمام القرار الأكبر في حياته السياسية، والاختيار بين العودة إلى الحرب للإبقاء على ائتلافه الحاكم، أو التطبيع مع السعودية. وعلى هذا الأساس يصبح من المحتمل تقديم مسار التطبيع، إن تمَّ، في صورة أخلاقية، وتصويره على أنه الثمن الذي وجب دفعه لوقف حرب الإبادة في غزة، وهذا هو المعنى الضمني الذي اشتملت عليه مقالة الصحافية في موقع القناة 12 الإسرائيلية، دانا فايس. وبذلك يكون التطبيع بين الرياض وتل أبيب هو الهدف التالي لإدارة ترامب بعد أن تتمكن من إتمام اتفاق لوقف كامل للحرب في غزة.
3 – الدور الإسرائيلي في سوريا
يمثل الواقع الجغرافي، والوقائع التي تفرضها إسرائيل على الأرض في سوريا مدخلًا لها لتكون أحد اللاعبين المهمين في هذه الساحة. كما أن سقوط نظام الأسد، وتولي إدارة جديدة ذات طابع إسلامي الحكم في دمشق يحمل في طياته عددًا من التحديات والفرص. وهو ما كان مثار اهتمام من جانب المحللين الإسرائيليّين الذين تحدثوا عن هذه النقاط.
الفرص والتحديات
من الذين تحدثوا في هذا الشأن كبيرة الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي، كارميت فالنسي، التي نشرت مقالًا في 16 ديسمبر 2024م، حول المتغيرات في سوريا، تذهب الباحثة فيه إلى أن المتغيرات في سوريا تقدم فرصًا أكثر مما تحمل من تهديدات، كما أنها تعطي إسرائيل إمكانية التأثير في الواقع المستقبلي في سوريا لصالحها.
تعتمد فالنسي في جانب من طرحها على أن القوى الثورية في سوريا غير متحدة، وأن إسرائيل ستبقى خارج حسابات هذه القوة فترة طويلة ممتدة لانشغالها بمحاولة إحكام السيطرة على سوريا وإدارة الدولة. وهذا يعني أنه كلما تمكنت سوريا من تجاوز حالة السيولة، وكلما تمكنت القوى السورية المختلفة من الاتحاد وإعادة بناء مؤسسات الدولة كان ذلك مقلقًا أكثر لإسرائيل، على أساس أن قدرة القوى المسيطرة في سوريا على تجاوز الأزمات الناتجة عن سقوط نظام الأسد قد يجعلها تتفرغ للانتهاكات الإسرائيلية، وهكذا يبرز اتحاد القوى السورية تحديًّا بالنسبة لإسرائيل.
ثمة تحدٍّ ثان يتمثل في الدور المحوري الذي تلعبه تركيا في تشكيل مستقبل سوريا؛ إذ يتطلع الرئيس أردوغان لجعل تركيا قوة إقليمية عبر تعزيز نفوذها في سوريا من خلال دعم العمليات العسكرية، وبناء الجيش، والمساهمة في إعادة التأهيل الاقتصادي لسوريا، بل وأن تقوم بلاده بتصدير المعدات العسكرية التركية لسوريا، وتأسيس تحالف عسكري وإستراتيجي مع الإدارة السورية الجديدة. وعلى الرغم من توقع الإسرائيليّين أن يتوسع الوجود التركي في سوريا بمرور الوقت من خلال ما قد يطلق عليه مستشارين عسكريّين، وما يسببه ذلك من قلق لدى دولة الاحتلال، فإن هناك توصيات كثيرة أن تتجنب إسرائيل وضع تركيا في موقف الخصم، وأن تحرص على تخفيف التوتر معها، بوصفها حليفًا سابقًا لإسرائيل. والأغلب أن التدخل التركي في سوريا بشكل مباشر، أو بالوكالة عبر دعم قوى الثورة السورية المسلحة، يمثل هاجسًا لأنظمة عربية كثيرة، وعلى هذا الأساس قد يفسر تقارب أنظمة عربية بعينها، عرفت بمواقفها المعادية للربيع العربي، أنه محاولة لاستيعاب التغيرات في سوريا واحتواء الإدارة الجديدة، وصناعة توازن يمكن أن يحد من دور تركيا التي يمكن اعتبارها اللاعب الأكبر في سوريا. وهذا الأمر يتزامن مع مستوى تنديد عربي متدن بالانتهاكات الإسرائيلية، وعدم اتخاذ مواقف قوية في هذا المسار، مما يتيح لإسرائيل لعب دور المعوق أمام قيام نظام إسلامي في سوريا، لن ترضى هي بوجوده، ولن تتقبله أيضًا أنظمة عربية عديدة، ومِن ثمَّ فإنه على الرغم من أن تغلغل إسرائيل في سوريا هو تهديد للأمن القومي العربي عمومًا لدى بعض الدول العربية، فإن ذلك ربما يكون أقل من تهديد قيام نظام إسلامي لدى أغلب الأنظمة العربية.
أما التحدي الثالث فيرتبط بعودة ترامب إلى البيت الأبيض؛ والتي تثير الشكوك حول مستوى الاهتمام الأمريكي بسوريا، خصوصًا أنه سعى في ولايته الأولى لإخراج القوات الأمريكية من سوريا، لكنه تراجع بسبب ضغوط مستشاريه، ومِن ثمَّ فإن أي انسحاب سريع للقوات الأمريكية، مثلما أراد من قبل، قد يؤدي إلى انهيار المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد.
وفي مقابل هذه التحديات، تبرز فرص أكبر، طبقًا للرؤية الإسرائيلية، من بينها إمكانية التأثير الإسرائيلي في الوضع السوري بالطريق المباشر من خلال إبقاء سيطرتها على المناطق الجديدة التي احتلتها من سوريا، وأن يكون خروجها منها، وهو أمر لا يبدو محتملًا في المنظور القريب، خروجًا مشروطًا. يضاف إلى ذلك استمرارها في قصف المواقع التي يحددها الجيش الإسرائيلي على انها تحوي أسلحة يمكن أن تشكل خطرًا على إسرائيل مستقبلًا، بمعنى أنها تريد دولة سورية منزوعة السلاح.
التأثير في الشأن السوري
يعتمد جانب من الرؤية الإسرائيلية للتأثير غير المباشر على أكثر من مسار، أحدها يمكن أن يتم عبر أطراف عربية؛ وتقدر مراكز الأبحاث الإسرائيلية أن بعض الأنظمة العربية، وتحديدًا الأردن، مصر، الإمارات والسعودية، تشعر بالقلق إزاء النوايا المستقبلية لأحمد الشرع وإدارته الجديدة في دمشق، وتنظر إليه باعتباره “ذئبًا في ثوب حمل”، وأن ظهوره على حقيقته مسألة وقت فحسب، مع تخوف أن يصبح مصدر إلهام لجماعات إسلامية تصبح تهديدًا لإسرائيل في الجولان، وكذا الأردن ومصر، بحيث تتشكل شبكة من الدول الموالية للإخوان المسلمين تشمل تركيا وقطر وسوريا الجديدة، تكون منافسة مع شبكة الدول البرجماتية كالأردن والسعودية ومصر. وهذا يلزم إسرائيل أن تعزز فرصها في سوريا عبر دعم الولايات المتحدة، ومن خلال التعاون والحوار مع الدول العربية المعنية التي لا تريد وجود نظام إسلامي يحكم دمشق، ولا تريد توسع النفوذ التركي هناك.
ومن الأفكار المطروحة كذلك للتأثير غير المباشر الاعتماد على قوى الثورة السورية المسلحة الموجودة بالقرب من فلسطين المحتلة والتي تنتمي للجيش السوري الحر، والدروز وهؤلاء لديهم موقف إيجابي تجاه إسرائيل، أو من تتعامل معهم، ومِن ثمَّ فإن تعزيز الاتصال مع هذه المجموعات على الأرض قد يساعد في تأمين المصالح الصهيونية؛ خصوصًا وأنه سبق لإسرائيل بين عامي 2016 – 2018م تقديم مساعدات طبية وغذائية للسوريّين في المناطق الجنوبية من سوريا، وبالتالي فإن الآليَّات المطلوبة، وكذا مفاتيح الاتصال ما زالت متاحة.
وإذا كان الطرح السابق هو طرح يقوم على فكرة تقسيم سوريا، فإن طرحًا أخطر يروج لتقسيمها عبر جعلها مناطق نفوذ وتسويق ذلك من خلال مبادرة دولية تقودها الولايات المتحدة لإنشاء لجنة مكونة من أربعة أعضاء تضم إلى جانب أمريكا تركيا وروسيا وإسرائيل، وهدف هذه اللجنة ضمان حماية الأقليات؛ بحيث تكون الولايات المتحدة مسؤولة عن الأكراد، وإسرائيل عن الدروز، وروسيا عن العلويّين، وتركيا عن الجماعات السُّنيَّة.
ويبدو كثير من الاحتمالات السابقة خشنة مقارنة مع محاولات ناعمة مكثفة لاحتواء الإدارة الجديدة، تشترط ربط الاعتراف الدولي وتقديم المساعدات ورفع العقوبات بتعهدات وضمانات يقدمها السوريون؛ ترتبط بتأمين الحدود، ووقف إعادة تأسيس “محور المقاومة”، والتعهد بأن تتم عملية انتقال السلطة وإعادة البناء تحت إشراف دولي.
خلاصة
تكشف الملفات الثلاثة أن إسرائيل، منذ بدأت معركة طوفان الأقصى، لم تعد قادرة على الفعل وحدها، وأنها تعتمد اعتمادًا كليًّا على الولايات المتحدة، وعلى ضعف النظام العربي وطبيعته المعادية للحركات الإسلامية التي دفعته إلى التشارك في الأهداف مع إسرائيل.
ومِن ثمَّ فإن إسرائيل تتحرك عسكريًّا واستيطانيًّا في الضفة برضى أمريكي كامل، ومن دون أي موقف عربي يوقف سياسة الأمر الواقع التي يفرضها الاحتلال، وسلطة فلسطينية تلعب دورًا مساندًا لإسرائيل ضد المقاومة في الضفة، وتمارس عملية انتحار سياسي لا تضرها وحدها، بل تضر الشعب الفلسطيني كله.
أما في غزة فإن إسرائيل التي أجبرت من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة، على اتفاق تعتبره الحكومة مذلًا، قد تجد نفسها مضطرة، نتيجة ضغط أمريكي، إلى جعل الاتفاق كاملًا ووقف تام للحرب، وهو ما تعوضه حاليًا في الضفة الغربية بوتيرة أسرع عن ذي قبل، وما قد تعوضه كذلك من خلال فتح ملف التطبيع مع السعودية، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك لا ينفي احتمال عودتها للقتال في غزة، لاعتبارات تلافي سقوط الحكومة، واعتبارات أخرى أيديولوجية ترتبط بطريقة تفكير مكونات الائتلاف الحكومي الإسرائيلي.
أما في سوريا فإن إسرائيل لديها تحديات وفرص، وطرق تأثير مباشرة وغير مباشرة للتأثير في المشهد السوري، وما يفيد السوريّين هنا في مواجهة التأثير الإسرائيلي، هو إنجاز الوحدة الداخلية، وإظهار مؤشرات سريعة للنجاح في بناء مؤسسات الدولة، لغلق الباب أمام فكرة اللعب على وتر الأقليَّات واستغلال الخلافات والانشقاقات.