شهد البحر الأحمر خلال عامي الحرب الأخيرة على قطاع غزة تصاعدًا حادًّا في التوترات العسكرية والسياسية، جعل منه واحدة من أكثر المناطق حساسية في النظام الإقليمي الجديد للشرق الأوسط.
فبعد اندلاع هذه الحرب في أكتوبر 2023م، تمددت تداعياتها عبر البحر الأحمر، لتتحول المنطقة إلى ساحة صراع مفتوح على المستويات العسكرية، والسياسية، والاقتصادية. حيث أخذت الهجمات الحوثية ضد السفن التجارية في مضيق باب المندب ومياه البحر الأحمر بُعدًا إستراتيجيًّا تجاوز الصراع اليمني المحلي إلى تهديد مباشر لأمن الملاحة العالمية، ما استدعى تدخلات دولية وإقليمية واسعة النطاق.
وفي ظِل هذه المتغيرات، وجدت مصر نفسها في قلب الأحداث؛ إذ يربط أمن البحر الأحمر بشكل مباشر بين قناة السويس، والاقتصاد القومي، والثقل الإقليمي المصري.
أصبح البحر الأحمر اليوم مزدحمًا بالقوى الدولية البحرية -من الأساطيل الأمريكية والبريطانية إلى الدور الصيني الصاعد- بالإضافة إلى الحضور الفاعل لدول عربية رئيسة، كالسعودية والإمارات.
هذا الحضور المتعدد أنتج توازنات جديدة، قد تميل في أي لحظة نحو التصعيد، ما يجعل من المتابعة المصرية الدقيقة لهذا الملف ضرورة واقعية.
أهمية منطقة البحر الأحمر
يُعد البحر الأحمر محورًا بحريًّا إستراتيجيًّا يربط ثلاث قارات: آسيا، إفريقيا، وأوروبا، ويشكل أهمية كبرى للتجارة الدولية عبر قناة السويس التي يمر بها نحو 12% من حجم التجارة العالمية.
لكن البحر الأحمر تحوَّل اليوم إلى ساحة تنافس بين الدول الإقليمية والقوى الدولية، خصوصًا بعد أن أصبح التحكم في الممرات البحرية سلاحًا سياسيًّا واقتصاديًّا فاعلًا ومؤثرًا في الصراعات الدولية.
ولهذا فإن هذا المقال يحاول الإجابة على سؤال: كيف أعادت التطورات العسكرية والسياسية الأخيرة في البحر الأحمر تشكيل موازين القوى، وما الانعكاسات المباشرة لذلك على الأمن القومي المصري؟
وتنبع أهمية السؤال من أن مصر تعتمد اعتمادًا رئيسًا على استقرار البحر الأحمر، ليس فقط لأسباب اقتصادية (قناة السويس وإيراداتها)، بل أيضًا باعتباره عمقًا إستراتيجيًّا لأمنها القومي من الجنوب الشرقي، وبوابة لمجالها الحيوي البحري العربي والإفريقي.
ولهذا فإن أي خلل في هذا التوازن -سواء نتج عن صراع أو سباق تسلح- ينعكس على الأمن القومي المصري وعلى استقرار مصر الاقتصادي والسياسي.
التحولات في التوازنات العسكرية والسياسية في البحر الاحمر
1 – تصاعد التهديدات غير المتناظرة:
منذ ديسمبر 2023م، شهد البحر الأحمر ارتفاعًا كبيرًا في الهجمات الحوثية ضد السفن التجارية وناقلات النفط، حيث استخدمت الطائرات المُسيَّرة والصواريخ البحرية بشكل متطور وغير مسبوق.
هذه العمليات تحولت إلى تهديد منظم للملاحة الدولية، بعد أن استهدفت سفنًا تحمل أعلام دول أوروبية وآسيوية ضمن صراع مسلح إقليمي.
هذا التصعيد أوجد واقعًا جديدًا من التهديدات غير المُتناظِرة: حيث إن جماعة مسلحة محلية تستخدم وسائل متقدمة لفرض معادلات سياسية على دول كبرى.
بالنسبة لمصر، انعكس ذلك في انخفاض ملحوظ في عبور السفن عبر قناة السويس بنسبة قاربت 40% خلال مراحل الحرب، مما شكل ضغطًا مباشرًا على الاقتصاد المصري، وهَدَّد مكانة قناة السويس الدولية كممر آمن للتجارة العالمية.
2 – انخراط دولي واسع في صراع البحر الأحمر:
أمام تصاعد هجمات الحوثيّين، أعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل تحالف بحري واسع لحماية السفن التجارية، بمشاركة دول أوروبية وآسيوية وعربية، في إطار ما سُمِّي بـعملية “حارس الازدهار”.
لكن ظل أداء هذه التحالفات محدود الفاعلية في مواجهة جماعة الحوثي نتيجة تشتت القيادة وتباين الأهداف بين الأطراف المشاركة.
بالتوازي، برزت حرب ظِل بحرية بين قوى كبرى على خطوط الإمداد والاستخبارات، حيث تتنافس الولايات المتحدة، الصين، وروسيا على مراقبة المنطقة وتحليل حركة الملاحة والاتصالات البحرية.
وكذلك برزت دولة جيبوتي كمركز لوجستي رئيس للقواعد العسكرية الأجنبية، مما جعلها نقطة تماس بين المصالح الدولية.
3 – التمدد الصيني وإعادة تشكيل الجغرافيا العسكرية:
الحضور الصيني في البحر الأحمر لم يَعد اقتصاديًّا بحتًا، بل تحوَّل إلى بُعد عسكري إستراتيجي منظم.
فبجانب القاعدة الصينية في جيبوتي، توسعت بكين في تمويل وتطوير واستثمارات ضخمة في البنية التحتية للموانئ على الساحل الإفريقي.
هذا التمدد يعكس رؤية صينية لبناء سلسلة لوجستية متكاملة تربط بين المحيط الهندي والبحر الأحمر وصولًا إلى البحر المتوسط.
بالنسبة لمصر، يَفتح هذا الحضور الباب لتعاون اقتصادي وفرص استثمارية ضخمة، لكنه في الوقت نفسه يفرض تحديًا سياسيًّا في موازنة العلاقات بين واشنطن وبكين، خصوصًا أن أي تمركز عسكري صيني دائم قرب الممرات المتصلة بقناة السويس يمثل عامل توتر للجانب الأمريكي.
4 – إعادة ترتيب المواقف العربية والإقليمية:
مع تصاعد التهديدات، أعادت الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، وعلى رأسها مصر والسعودية، صياغة سياساتها البحرية والأمنية.
فأنشأت السعودية “مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن” ليكون إطارًا لتنسيق الجهود الأمنية والتنموية، وهو ما رحبت به مصر واعتبرته آليَّة ضرورية لتوحيد الرؤية الإستراتيجية.
كما شرعت القاهرة في تنفيذ خطط لتحديث أسطولها البحري، وتطوير القواعد البحرية في سفاجا وبرنيس، بما يعزز قدرتها على مراقبة الممرات وتأمين المداخل الجنوبية.
هذا التوجه العربي يمثل بداية لتشكيل نظام أمني بحري إقليمي جديد، لكنه لا يزال في مراحله الأوليَّة، ويواجه تحديات تتعلق بتعدد المصالح وتباين مستوى القدرات العسكرية بين الدول.
ثانيًا: تأثير التوازنات في البحر الاحمر على الأمن القومي المصري
1 – التأثير الاقتصادي:
تعتمد مصر على إيرادات قناة السويس كأحد المصادر الرئيسة للعملة الصعبة؛ إذ حققت القناة في عام 2023م نحو 9 مليارات دولار، لكن بعد تصاعد الهجمات في البحر الأحمر، تراجع عدد السفن العابرة خلال النصف الأول من 2024م بنحو 45%، وهو ما أدَّى إلى خسائر كبيرة في تدفق النقد الأجنبي.
هذا الانخفاض لم يؤثر فقط على الموازنة العامة، بل مسَّ ثقة المستثمرين الدوليّين في استقرار مسارات التجارة عبر مصر، وأدى إلى تحركات عاجلة من الحكومة المصرية لتعويض الخسائر عبر محاولة تطوير الموانئ وتوسيع النشاط الصناعي والتجاري في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس.
2 – التأثير العسكري والأمني:
من منظور عسكري، وطبقًا لما هو معلن، دفعت التطورات الأخيرة مصرَ إلى تحديث عقيدتها البحرية الدفاعية، والانتقال من مفهوم «الأمن الساحلي» إلى «الأمن البحري العميق»، بحيث تمتد قدرة المراقبة والتأثير إلى ما وراء مضيق باب المندب في جنوب البحر الأحمر.
هذا يتطلب تعزيز قدرات الإنذار المبكر والاستخبارات البحرية، والتعاون مع الحلفاء الإقليميّين والدوليّين لتبادل المعلومات حول النشاطات غير النظامية في البحر الأحمر والقدرة على التعامل معها.
تعمل مصر أيضًا على موازنة وجودها العسكري بما لا يجرها إلى مواجهة مباشرة مع فاعلين عرب في الإقليم، مثل جماعة الحوثي، لذلك فهي تعتمد على مبدأ الردع الوقائي عبر الوجود والجاهزية وليس الاشتباك.
3 – التأثير السياسي:
على الصعيد السياسي، تواجه القاهرة معضلة دقيقة: فهي مطالبة بحماية مصالحها في البحر الأحمر، دون أن تتهم بالانحياز لطرفٍ ضد آخر في الصراعات الإقليمية، لذلك تبنت سياسة «الحياد الإيجابي» القائمة على الوساطة والتدخل السياسي المحسوب.
كما تحافظ مصر على قنوات تواصل مفتوحة مع القوى الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، وروسيا)، مع الحرص على ألا تتحول المنطقة إلى ساحة صراع بالوكالة بين هذه القوى؛ لأن أي احتكاك عسكري كبير قد يُعطِّل التجارة العالمية ويُقوِّض مكانة قناة السويس كممر آمن للملاحة الدولية.
التوصيات الإستراتيجية لمصر
1 – تعزيز قدرات الاستطلاع والمراقبة: عبر تطوير الاتصال مع أقمار صناعية وأجهزة استطلاع بحرية لمراقبة الممرات البحرية الحيوية.
2 – بناء تحالف عربي قوي وفاعل للأمن البحري: يضم الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، بهدف تقليل الاعتماد على التحالفات الأجنبية.
3 – تنويع الشراكات العسكرية ومصادر التسليح: بحيث لا تقتصر على الولايات المتحدة فقط، بل تمتد إلى فرنسا، الصين، إيطاليا، وروسيا مع الحفاظ على استقلالية القرار المصري.
4 – حماية قناة السويس اقتصاديًّا: عبر خطة طوارئ مالية لتعويض التراجع المؤقت في الإيرادات، وتوسيع الأنشطة اللوجستية والصناعية في شرق القناة.
خاتمة
إن البحر الأحمر اليوم تحول لصراع إرادات بين القوى الإقليمية والدولية، حيث تتقاطع فيه مصالح القوى الكبرى والطموحات الإقليمية، وتنعكس نتائجه على أمن واستقرار المنطقة بأسرها.
بالنسبة لمصر، يمثل البحر الأحمر اتجاهًا إستراتيجيًّا لا يمكن التهاون في التعامل معه لما له من تأثير مباشر على الأمن القومي، فكل اضطراب فيه هو تهديد مباشر لقوتها الاقتصادية ولمكانتها الإقليمية.
من هنا، فإن حماية البحر الأحمر يجب أن تكون عبر رؤية شاملة تمزج بين الردع العسكري، والدبلوماسية المؤثرة، والتنمية الاقتصادية المستدامة.
القدرة المصرية على التعامل الاحترافي في ملف توازنات البحر الأحمر سوف تبقى المحدد الأهم للحفاظ على أمن البحر الاحمر ومكانتها في الشرق الأوسط.




