ترجماتغير مصنف

رسبونسيبل ستيتكراف: لماذا لا تستطيع مصر انتقاد إسرائيل على مدى عقدين آخرين على الأقل

في الرابع عشر من شهر أغسطس 2025م، نشر موقع “ريسبونسبل ستيتكرافت” الأمريكي مقالًا تحليليًّا بعنوان: “لماذا لا تستطيع مصر انتقاد إسرائيل على مدى عقدين آخرين على الأقل”، للكاتب والمحلل السياسي “الفاضل إبراهيم”، الذي يُعنى بتغطية شؤون الشرق الأوسط وإفريقيا، وله إسهامات في الجارديان، والجزيرة، والعربي الجديد، وأوبن ديموكراسي، وغيرها. يؤكد التحليل أن صفقة الغاز التي عقدتها إسرائيل مع مصر مؤخرًا هي صفقة “قياسية” ولكنها تكشف عن ثغرة إستراتيجية على الجانب المصري، في ظل تخلي القاهرة عن استقلالها السياسي مقابل ضمان أمن الطاقة.

يتناول المقال التحليلي الذي نشره موقع “ريسبونسبل ستيتكرافت”، أو فن الحكم المسؤول، تلك الصفقة القياسية التي كانت شركة الطاقة الإسرائيلية “نيو ميد” قد أعلنت عنها في السابع من أغسطس، بقيمة 35 مليار دولار، لتوريد الغاز الطبيعي “الإسرائيلي” إلى مصر. ويرى التحليل أن هذه الصفقة في الحقيقة تلبي احتياجات سياسية متبادلة لكلا الطرفين، إذ لحكومتي البلدين مصالح مشتركة شديدة التشابك، وإن كانت صفقة “غير متكافئة”.

ويرى تحليل “ريسبونسبل ستيتكرافت” أنه بالنسبة للسيسي، توفر هذه الاتفاقية الطاقة اللازمة للحيلولة دون اندلاع اضطرابات داخلية في البلاد. أما بالنسبة لحكومة نتنياهو، فإنها تجني فوائد هائلة من وراء الصفقة، منها على سبيل المثال لا الحصر أنها توفر تدفقًا هائلًا من الإيرادات الدولارية على المدى الطويل وأنها تعزز مكانة “إسرائيل” كلاعب أساسي في مجال الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.

“وبالإضافة إلى ذلك، فإنها تُعتبر نصرًا إستراتيجيًّا  محقّقًا من خلال ربط الدولة العربية الأكثر سكانًا بالتبعية الاقتصادية العميقة والدائمة لـ ’إسرائيل‘،” وفقًا لتحليل “ريسبونسبل ستيتكرافت”.

وفيما يلي  يقدم ” منتدى الدراسات المستقبلية ” ترجمة كاملة للمقال التحليلي الذي نشره موقع “ريسبونسبل ستيتكرافت” الأمريكي، على النحو التالي:

في أوائل شهر أغسطس 2025م، أعلنت شركة الطاقة الإسرائيلية “نيو ميد” عن صفقة قياسية بقيمة 35 مليار دولار لتوريد الغاز الطبيعي إلى مصر، وهو ما يزيد من وارداتها الحالية إلى ثلاثة أمثالها تقريبًا، ولكنه يربط مستقبل الطاقة في القاهرة بتل أبيب حتى عام 2040م على الأقل.

ورغم أن المسؤولين المصريين سارعوا إلى تأطير الأمر بأنه ليس اتفاقًا جديدًا بل مجرد “تعديل” للاتفاق الذي كان قد تم التوصل إليه عام 2019م، فإن الحجم الهائل للاتفاق – والذي يُعدّ الأكبر في تاريخ صادرات إسرائيل – يشير إلى اعتماد متزايد وخطير من جانب القاهرة على “جارتها” لتلبية احتياجاتها من الطاقة.

في الواقع أن هذا الاتفاق تقف وراءه احتياجات سياسية متبادلة، وإن كانت غير متكافئة، لحكومتين تتشابك مصالحهما بشكل معمّق. فبالنسبة للجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر، فإن الاتفاق يُوفر له الطاقة اللازمة لمنع اندلاع اضطرابات داخلية ضد حكومته. وأما بالنسبة لحكومة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، فإن الفوائد التي يجنيها من وراء الصفقة هائلة. حيث يوفر الاتفاق، الذي تبلغ قيمته 35 مليار دولار، تدفقًا هائلًا من الإيرادات الدولارية على المدى الطويل، وهو يُعزز أيضًا مكانة إسرائيل كلاعب رئيس في مجال الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الاتفاق يُعد نصرًا إستراتيجيًّا محقّقًا من خلال ربط أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان بتبعية اقتصادية عميقة ودائمة مع “إسرائيل”.

لكن إذا كان هذا الاتفاق يُعدّ مكسبًا لإسرائيل، فهو في الحقيقة نتاج حالة من اليأس تعيشها مصر (خاصة في مجال الطاقة)، حيث تأتي تحركات القاهرة مدفوعة بضرورات محلية لا غنى عنها، وهي: ضرورة الحفاظ على استمرارية سريان التيار الكهربائي. فعلى مدى السنوات القليلة الماضية، خيّم شبح تقهقر قدرة الحكومة المصرية على إنتاج الطاقة على ربوع البلاد. فبعد أن كانت في السابق مُصدِّرًا صافيًا للغاز الطبيعي المسال، شهدت البلاد انخفاضًا مطّردًا في إنتاجها، بينما يستمر الطلب المحلي على الغاز، الذي يغذّيه عدد سكان يربو على 110 ملايين نسمة، في الارتفاع.

وكانت العواقب المترتبة على ذلك وخيمة، مما دفع الحكومة إلى اتخاذ خيارات سياسية صعبة. فقد أدت الموجات الحارقة لحر الصيف إلى التسبب في انقطاعات متكررة للتيار الكهربائي، مما أدى بدوره إلى شَلّ الأعمال التجارية، وتأجيج استياء شعبي واسع النطاق – وهو في الحقيقة صدى خطير للمظالم التي كانت قد سبقت الانتفاضة التي اندلعت في البلاد عام 2011م.

وتدرك حكومة الجنرال السيسي أن الاستقرار السياسي في البلاد مرتبط بشكل مباشر بشبكة الكهرباء، وكما اعترف رئيس الوزراء مصطفى مدبولي العام الماضي، فإن تجنب انقطاع التيار الكهربائي يشكل ضرورة أساسية للحكومة.

وكما أوردت وكالة بلومبيرج الأمريكية ومبادرة بيانات المنظمات المشتركة، فإن الأرقام ترسم صورة قاتمة لمصر، من حيث: وجود عجز يومي في الغاز بمليارات الأقدام المكعبة، وفاتورة استيراد طاقة متوقَّعة تصل إلى 3 مليارات دولار شهريًّا. وبالنظر إلى أن استيراد الغاز الطبيعي المسال مكلف للغاية، فكما أشار مسؤولون مصريون، يظل الغاز الإسرائيلي المُسلم لمصر عبر خط الأنابيب هو البديل الأرخص والأكثر موثوقية، حتى مع زيادة سعر الغاز بنسبة 14.8% مقارنة بالاتفاق السابق.

لقد فرض هذا المنطق على الحكومة ضغوطًا كبيرة: ففي شهر مايو الماضي، أدى إغلاقٌ مُخططٌ له من جانب “إسرائيل” في حقل “ليفياثان” من أجل الصيانة، بحسب ما تمَّ إعلانه، إلى خفض إمدادات الغاز إلى صناعتي الأسمدة والبتروكيماويات الحيويتين في مصر. وكانت الحكومة قد اختارت المخاطرة بتعطيل الصناعة بدلًا من مواجهة ردة فعل شعبية غاضبة بسبب انقطاع التيار الكهربائي عن المنازل، وهو ما يُشير بوضوح إلى أولوياتها.

هذا الاعتماد المتزايد على الطاقة يُعقّد بطبيعة الحال دور مصر التاريخي كمُحاوِر عربي رئيس في القضية الفلسطينية. فقدرة القاهرة على ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل مُقيّدة أساسًا بحقيقة أن إسرائيل قادرة، بل وقد قامت بذلك بالفعل، بوقف إمداداتها من الغاز الطبيعي إلى مصر لأسباب أمنية وعملياتية.

سُلِّط الضوء على هذه الديناميكية المُحرجة أواخر شهر يوليو الماضي. حيث انضمت مصر إلى المملكة العربية السعودية وقطر في تأييد إعلان نيويورك الخاص بقطاع غزة، وهو إطار دولي رئيس لما بعد حرب غزة، والذي دعا إلى نزع سلاح حماس وتولِّي السلطة الفلسطينية زمام الأمور هناك. ولكن بنيامين نتنياهو قام من جانبه بنسف هذه الخطة علنًا هذا الأسبوع تحديدًا، معلنًا رفضه القاطع لأي دور للسلطة الفلسطينية في القطاع. وهذه الخطوة لا تترك لمصر، الوسيط الرئيس في المحادثات المتوقفة في الوقت الحالي، سوى نفوذ ضئيل لإجبار الدولة التي تتحكم في إمدادات الطاقة (إسرائيل) على تغيير سياستها.

ومع تعثر مفاوضات وقف إطلاق النار، وافتقار الحكومة في مصر للقدرة على التأثير على “إسرائيل” أو حماس، انحصر دور القاهرة في إدارة تداعيات الصراع – وهي مهمة تتطلب بشكل متزايد حملةً قاسيةً للسيطرة على الخطاب السياسي الداخلي وقمعًا سياسيًّا ملحوظًا. وقد تجلّى ذلك بوضوح في رد فعلها على نداءٍ متلفزٍ وجّهه مؤخرًا القيادي البارز في حركة حماس، خليل الحيَّة. حيث خاطب الحيَّة الشعب المصري مباشرةً، متجاوزًا الحكومة. وفسّرَت الدوائر الحكومية دعوته للمصريين بالعمل على ضمان “عدم موت غزة جوعًا” على نطاق واسع على أنها اتهامٌ مبطّنٌ بتواطؤ الدولة مع “إسرائيل” في حملة التجويع التي تقوم بها الأخيرة في قطاع غزة، وأنها محاولةٌ محسوبةٌ لإثارة الضغط الشعبي ضد نظامٍ شديد الحساسية لمثل هذه التحديات.

وبالتالي كان رد القاهرة صارمًا، حيث شنّت على الفور هجومًا إعلاميًّا مضادًا (على خليل الحيَّة وحماس). وأدان ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، خطاب الحيَّة، واصفًا إيَّاه بأنه “خطأ فادح”. وحشد مذيعو التلفزيون الموالون للحكومة وكُتَّاب الأعمدة الصحفية المحسوبون على النظام احتجاجاتهم من حيث إدانة حركة حماس وتوجيه اتهامات لها بـ “الخيانة”.

وكان تدخل الدولة لدى الأزهر الشريف، المرجع الأبرز في العالم للتعاليم الإسلامية السُّنيَّة، ومقره القاهرة، أكثر دلالة على هذا الأمر. فعندما أصدر الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب بيانًا يدين فيه “التجويع والإبادة الجماعية” في غزة، و”التواطؤ” من الدول التي تُمكِّنه، أفادت التقارير بأن مؤسسة الرئاسة في مصر أجبرته على التراجع عن البيان وحذفه من منصات التواصل الاجتماعي.

وتكشف هذه الخطوة بوضوح عن خوفٍ عميق من أي سردية تُشير ولو على استحياء إلى تورط مصر في المعاناة التي يكابدها الفلسطينيون في غزة من خلال سيطرتها الجزئية على معبر رفح. في الوقت الذي تُصرّ فيه القاهرة رسميًّا على أنها لا تستطيع التصرف بشكلٍ منفرد في المعبر بسبب الاتفاقيات الأمنية مع إسرائيل، ولكن مع تفاقم الأزمة الإنسانية، تتزايد الدعوات إلى القاهرة لتحدي هذه البروتوكولات والإسراع في إيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع المحاصر.

ويقود الإحباط الدولي الآن إلى تدفق الناس عبر شوارع العالم للاحتجاج، حيث تستهدف الاحتجاجات السفارات المصرية من لاهاي إلى تل أبيب. وتُعدّ هذه المظاهرات رمزًا قويًّا للضغط الهائل المتزايد على القاهرة، المحاصَرة بين مطالبة الرأي العام الدولي لها بمواجهة إسرائيل، وبين حقيقة أن هذه الدولة نفسها، “إسرائيل”، هي التي تضمن سريان التيار الكهربائي في البلاد (من خلال إمداداتها من الغاز).

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى