مقدمة
تعكس وثيقة الأمن القومي الأمريكي لعام 2025م تحولًا نوعيًّا في إدراك واشنطن لطبيعة مصالحها العالمية وكيفية إدارة أعبائها الإستراتيجية.
فبَعد عقدين من التورط العسكري الواسع في الشرق الأوسط، تسعى الإدارة الأمريكية إلى إعادة صياغة مقاربة جديدة تقوم على تقليص الالتزامات الميدانية مع الإبقاء على قدرة التأثير عبر أدوات أكثر مرونة.
تؤكد الوثيقة أن المرحلة المقبلة سوف تعتمد على مبدأ “النفوذ منخفض التكلفة” الذي يوازن بين الحفاظ على الردع وبين الحد من التدخل العسكري طويل الأمد.
ومن هذا المنطلق، يَهدِف هذا التقرير إلى قراءة التحولات الأساسية التي تطرحها الوثيقة تجاه المنطقة، سواءً في المجالين العسكري والأمني، أو التنافس الدولي، أو مستقبل الاقتصاد الإقليمي، أو إعادة تقييم خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أولًا: إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في وثيقة 2025م
تضع وثيقة الأمن القومي أسسًا جديدة لإدارة المصالح الأمريكية وفق محددات نحو التقشف ونزعة أكبر للتركيز على التهديدات الكبرى، خاصَّة التنافس مع الصين وروسيا.
تعتمد الوثيقة على رؤية أكثر براجماتية للانتشار العسكري؛ إذ تربط حجم القوات الأمريكية في أيّ ساحة بحجم الخطر المباشر على الأمن القومي لا بموروثات السياسة الخارجية الأمريكية السابقة.
كما تؤكد الوثيقة على ضرورة تعزيز القدرات التقنية وأساليب الحرب غير المتماثلة في الردع، بما في ذلك الحرب السيبرانية والطائرات بدون طيار، باعتبارها أدوات فعالة لتقليل المخاطر.
وفي هذا الإطار، يصبح الشرق الأوسط في الإستراتيجية الأمريكية المستقبلية مجالًا لإدارة المخاطر أكثر منه مجالًا لبناء مشاريع أو ترتيبات طويلة الأجل.
ثانيًا: الشرق الأوسط ضمن الأولويات الجديدة للأمن القومي الأمريكي
لا تقصي الوثيقة الشرقَ الأوسط من ترتيب الأولويات، لكنها تخفض وزنه النسبي مقارنة بما كان عليه في السابق، حيث تتصدر آسيا وأوروبا درجات الأولويات.
ومع ذلك، تشدد التوجهات الأمريكية على ضرورة الحفاظ على استقرار الممرات البحرية وتدفقات الطاقة ومنع القوى المنافسة من استغلال التراجع الأمريكي النسبي لتحقيق مكاسب إستراتيجية.
تُظهِر الوثيقة إدراكًا أمريكيًّا بأن هشاشة السيطرة على المنطقة قد تولد تهديدات عابرة للحدود، الأمر الذي يجعل “إدارة الاستقرار” جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي الأمريكي.
وبالتالي فإن المنطقة تظل ذات حساسية عالية رغم تراجعها عن مركزية الأولويات؛ لأن أي انهيار واسع قد يَفرض على واشنطن العودة إلى الانخراط المُكلِّف في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي تسعى لتفاديه.
ثالثًا: طبيعة دور الولايات المتحدة في المنطقة: “تدخل مباشر أم إدارة نفوذ”؟
يتضح من الوثيقة أن السياسات الأمريكية تتجه نحو نموذج إدارة النفوذ عبر ترتيبات عسكرية وأمنية وشراكات إقليمية بدلًا من التدخل المباشر.
فالولايات المتحدة باتت تركز على دعم الحلفاء لرفع كفاءة جيوشهم وأجهزتهم الأمنية، لتمكينهم من مواجهة التهديدات الداخلية والإقليمية دون الحاجة إلى دعم ميداني أمريكي واسع.
في الوقت ذاته، تظل واشنطن مستعدة لاستخدام القوة المحدودة في حال اقتربت التهديدات من مصالحها الحيوية، لكنها ترفض العودة إلى مشاريع فرض تغييرات داخلية أو إعادة تشكيل الأنظمة.
هذا المزيج من الردع المدروس والابتعاد عن التدخلات المباشرة هو ما تحدده الوثيقة كإطار للدور الأمريكي في الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة.
رابعًا: التهديدات الإقليمية من منظور الولايات المتحدة
تَنظر الوثيقة إلى التهديدات في الشرق الأوسط من زاوية مختلفة، تشمل التهديدات التقليدية وغير التقليدية والتهديدات المرتبطة بالقوى الكبرى.
وهي تعطي أهمية خاصَّة للتهديدات السيبرانية، وأنشطة الميليشيات العابرة للحدود التي قد تؤثر على استقرار الحلفاء في الشرق الأوسط أو أمن الممرات البحرية.
كما ترى واشنطن أن بعض الجهات الفاعلة، خصوصًا إيران، تمثل تهديدًا يمكن السيطرة عليه وليس مواجهة وجودية تتطلب حربًا شاملة، وهو تحوُّل كبير في خطاب الأمن القومي الأمريكي.
وتؤكد الوثيقة على ضرورة دعم آليَّات مكافحة الإرهاب دون التورط في عمليات ميدانية طويلة الأمد، أو تحمُّل مسؤوليات تصحيح أوضاع محلية معقدة.
خامسًا: موقف الولايات المتحدة من بؤر الصراع في الشرق الأوسط
تعكس توجهات الولايات المتحدة نحو بؤر الصراع في الشرق الأوسط تحوُّلًا واضحًا من سياسات “إدارة الأزمات النشطة” إلى نهج أكثر براجماتية وانتقائية، يقوم على مواءمة التدخل الأمريكي مع أولوياتها الإستراتيجية العالمية، لا سيما التنافس مع القوى الكبرى، وفي مقدمتها الصين وروسيا.
تُظهِر وثيقة إستراتيجية الأمن القومي لعام 2025م أن واشنطن لم تعد ترى في تسوية الصراعات الإقليمية هدفًا بحد ذاته، بل مسألة تدار ضمن سقف منع الانفجار الشامل أو تحوُّل تلك الساحات إلى منصات تهديد مباشر للمصالح الأمريكية أو لحلفائها في المنطقة.
في سوريا يَظل الحضور الأمريكي محصورًا في أهداف محددة، تتمثل في تثبيت مناطق النفوذ شرق نهر الفرات، وضمان عدم عودة التنظيمات الإرهابية، واحتواء النفوذ الإيراني دون التورط المباشر في مسار إعادة بناء الدولة أو إعادة تشكيل السلطة المركزية.
أما في اليمن فتتبنَّى واشنطن سياسة إدارة الصراع وليس حسمه، من خلال دعم مسارات التهدئة المؤقتة ومنع انهيار شامل قد يُهدِّد أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر وباب المندب، دون التوجُّه الجاد نحو تسوية سياسية نهائية.
ويُلاحَظ أن الاهتمام الأمريكي باليمن بات مرتبطًا بشكل وثيق بأمن توريد الطاقة والممرات البحرية وسلاسل الإمداد العالمية، وبالحد من قدرة الخصوم على توظيف الصراع كورقة ضغط إستراتيجية.
في العراق، تُركِّز التوجهات الأمريكية على الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار المؤسسي والأمني، بما يمنع عودة التنظيمات المتطرفة ويَحد من تغوُّل النفوذ الإيراني، مع تجنب الدخول في صدامات مباشرة حول بنية النظام السياسي أو موازين القوى الداخلية. ويأتي ذلك في إطار إدارة دقيقة للتوازن بين الانسحاب التدريجي والاحتفاظ بأدوات تأثير غير مباشرة.
أما ليبيا فتدار كملف احتواء أكثر منه ملف تسوية نهائية، حيث تسعى واشنطن إلى منع تحول الصراع إلى ساحة نفوذ روسي أو مصدر تهديد لأمن المتوسط، دون قيادة مسار سياسي حاسم، مكتفية بدعم جهود أممية محدودة الأثر حتى الآن.
في السودان، يبدو الموقف الأمريكي أكثر حذرًا؛ إذ تنظر واشنطن إلى الصراع باعتباره أزمة إنسانية وأمنية خطيرة، لكنها تتعامل معها عبر الضغط السياسي والعقوبات المحدودة، دون استعداد لتحمُّل تكلفة التدخل المباشر في إعادة بناء الدولة أو فرض تسوية بالقوة.
أما في غزة ولبنان فتبرز بوضوح معادلة الاحتواء دون الحسم. ففي غزة يتركز الدور الأمريكي على منع اتساع رقعة الصراع إقليميًّا، مع ضمان أمن إسرائيل، وإدارة الأزمات الإنسانية ضمن سقف سياسي ضيق لا يصل إلى معالجة جذرية للصراع.
وفي لبنان تكتفي واشنطن بدعم الاستقرار الاقتصادي والأمني النسبي ومنع الانهيار الكامل، مع استخدام أدوات الضغوط السياسية والاقتصادية لاحتواء نفوذ حزب الله دون السعي لتغيير المعادلة الداخلية جذريًّا.
في المحصلة العامة، تكشف هذه التوجهات عن إدراك أمريكي متزايد بأن تحويل بؤر الصراع في الشرق الأوسط إلى نماذج مستقرة يتطلب تكلفة سياسية وعسكرية واقتصادية لا تتناسب مع العائد الإستراتيجي، وأن البديل الأكثر واقعية يتمثل في إدارة الصراعات والتحكُّم في مستوياتها بما يمنع الانهيار الشامل، ويَحد من توسُّع نفوذ الخصوم الدوليّين، بحيث تبقي المنطقة ضمن هامش قابل للضبط ولا يمثل عبئًا إستراتيجيًّا على أولويات واشنطن الكبرى.
سادسًا: توظيف المنطقة في صراع الولايات المتحدة مع روسيا والصين
تُظهِر الوثيقة أن واشنطن تسعى لقطع الطريق على نفوذ الصين في مجالات البنية التحتية والتكنولوجيا وربط المنطقة بمبادرة “الحزام والطريق”، كما تعمل على منع روسيا من توسيع وجودها العسكري والسياسي عبر سوريا أو شمال أفريقيا.
لذا تعتمد الولايات المتحدة على مزيج من الشراكات الاقتصادية والتكنولوجية لتثبيت وجودها وتعويض تقليص حضورها العسكري.
حيث ترى واشنطن أن الحفاظ على نفوذها في المنطقة يمنحها قدرة تفاوضية أكبر في الملفات العالمية ويمنع تشكل محيط إستراتيجي مؤيد لخصومها.
سابعًا: مستقبل النموذج الاقتصادي الشرق أوسطي في ضوء الوثيقة الجديدة
تولي الوثيقة أهمية خاصَّة للتحولات الاقتصادية في المنطقة، معتبرة أن مستقبل الشرق الأوسط لم يَعد مرتبطًا بالموارد النفطية فحسب، بل بقدرته على الاندماج في اقتصاد التقنية والتطور التكنولوجي.
تطرح الوثيقة رؤية أمريكية لتعزيز الشراكات في مجالات الطاقة المتجددة، والذكاء الاصطناعي، والبنى التحتية الرقمية، والصناعات الدفاعية المتقدمة، كوسيلة لتوسيع النفوذ الأمريكي عبر أدوات غير عسكرية.
كما ترى أن التنافس الاقتصادي الجديد سوف يُعيد تشكيل خريطة التحالفات في المنطقة، حيث سيتقدم الوزن النسبي للدول القادرة على الاستثمار في التكنولوجيا والمعرفة، فيما سيتراجع وزن الدول التي تظل رهينة للموارد التقليدية.
ثامنًا: التحولات في الخطاب الأمريكي تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة
تكشف الوثيقة عن انحسار واضح لمكانة قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ضمن أولويات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط لصالح اعتبارات الأمن، والاستقرار، وإدارة السيطرة.
فلم تعد واشنطن تنظر إلى نشر التحول الديمقراطي بوصفه هدفًا إستراتيجيًّا قائمًا بذاته، كما كان الحال في العقدين الماضيين، بل أعادت تعريف الخطاب الحقوقي ضمن حدود تخدم الاستقرار الإقليمي وحماية المصالح الأمريكية.
وعلى ذلك سوف يكون التعامل الأمريكي مع ملف حقوق الإنسان انتقائيًّا ووظيفيًّا، يُستخدَم كورقة ضغط تكتيكية في إدارة العلاقات الثنائية، أو كأداة سياسية في سياق التنافس مع الصين وروسيا، دون التزام فعلي بفرض إصلاحات سياسية عميقة أو تغييرات بنيوية في أنماط الحكم.
ويعكس هذا التحوُّل توجهًا براجماتيًا متزايدًا في السياسة الأمريكية، حيث تُقدِّم استمرارية الأنظمة الشريكة والحفاظ على معادلات الاستقرار الإقليمي على أي مساع للضغط الجاد باتجاه التحوُّل الديمقراطي أو توسيع هامش الحريات السياسية وحقوق الإنسان.
الخاتمة
تشير وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2025م إلى نموذج جديد من التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط: تواجد أقل، وشراكات إقليمية أوسع، وتكاليف أدنى، واهتمام بفرض الاستقرار دون خوض صراعات طويلة الأمد.
في ضوء هذا التحوُّل، يُعاد رسم موقع المنطقة في خريطة المصالح الأمريكية، بحيث تبقى مهمة ولكن ليست مركزية، ويتم التعامل معها بمرونة مدروسة تتيح لواشنطن التركيز على منافستيها الأكبر: الصين وروسيا.
في هذا المشهد الجديد، تتقدم القوى الإقليمية (تركيا وإيران ودول الخليج) لملء الفراغ النسبي، مما يَدفع المنطقة إلى ترتيبات مغايرة جديدة سوف تعيد تشكيل موازين القوى الإقليمية في السنوات القادمة.
المصادر
– National Security Strategy, The White House (2025), 4 December 2025.
– Trump’s new national security strategy: Cut deals, hammer Europe, and tread gently around autocrats – Chatham House. 9 December 2025.
– Opinion: Trump is sending a clear message to the free world – The Washington Post. 8 December 2025.
– Analysis and commentary on the NSS and its implications – The Guardian (opinion/analysis) 10 December 2025.
– “الإستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي والشرق الأوسط”، الـعربية نت، 7 ديسمبر 2025م.
– “إستراتيجية ترامب الجديدة تقوم على تعديل الحضور الأمريكي في العالم”، الشرق الأوسط، 5 ديسمبر 2025م.
– “وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2025 القيادة من وراء الستار”، المركز الديمقراطي الـعربي، 7 ديسمبر 2025م.
– “قراءة تحليلية مركبة لإستراتيجية الأمن القومي الأمريكي”، مركز حمورابي للبحوث والدراسات الإستراتيجية، 8 ديسمبر 2025م.




