في السابع من نوفمبر 2025م، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تقريرًا بعنوان: “الأزمة الاقتصادية في مصر تثير معضلة أخرى: الإكراميات” لـ “فيفيان يي”، وهي مراسلة صحيفة نيويورك تايمز في القاهرة التي تُغطي شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط؛ و “رانيا خالد”، وهي باحثة ومراسلة لصحيفة نيويورك تايمز من القاهرة.
يقول التقرير إنه في ظِل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر، وحقيقة أن التقدم الذي تحرزه الدولة في مسار الإصلاحات الاقتصادية لا يزال بطيئًا، فقد طال التضخم كلَّ شيء، حتى تلك الإكراميات التي يحصل عليها النُدُل وعمال التوصيل وموظفو الاستقبال والموظفون الحكوميون والممرضات بالمستشفيات، مما يشكل عبئًا إضافيًّا على جيوب المصريين.
فبينما كان بإمكان الناس دفع من عشرة جنيهات إلى عشرين جنيهًا على سبيل الإكرامية، وكان ذلك كافيًا تمامًا، بل ومُجزٍ أيضًا، إلا أن الوضع الآن مختلف تمامًا، فإذا دفعت لشخص عشرة جنيهات فقط على سبيل الإكرامية، فلن يتمكن المسكين من فعل أي شيء بها.
وبعد أن كان بإمكانك الحصول على حوالي ثمانية عشر دولارًا أمريكيًّا مقابل مائة جنيه مصري فقط في عام 2010م، فليس بإمكانك اليوم الحصول سوى على دولارين اثنين فقط تقريبًا مقابل نفس المائة جنيه، وذلك بعد عدة أزمات اقتصادية شهدتها البلاد وانخفاضات متعددة في قيمة العملة المحلية خلال تلك الفترة.

ملحوظة: تُظهر صفحة الغلاف للتقرير حلاقًا يُعنى بأحد الزبائن في سوق شعبي بالقاهرة. والعديد من الخدمات الأخرى، مثل المساعدة الطبية الخاصة والكتبة الحكومية، تتطلب إكراميات أيضًا. حقوق الصورة ترجع لـ: “موريسيو ليما”، صحيفة نيويورك تايمز.
وفيما يلي يقدم “منتدى الدراسات المستقبلية” ترجمة كاملة لتقرير صحيفة “نيويورك تايمز“، وذلك على النحو التالي:
الأزمة الاقتصادية في مصر تثير معضلة أخرى – الإكراميات
يحصل النُدُل وعمال التوصيل على إكراميات؛ وكذلك الحال بالنسبة لموظفات الاستقبال والموظفات الحكوميات وممرضات المستشفيات. ومع الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعيشها مصر، فحتى تكلفة تلك الإكراميات في ازدياد مستمر.
عندما يعود “مصري”، وهو اسم بطل الفيلم المصري الكلاسيكي “عسل إسود“، إلى القاهرة في زيارة إلى موطنه بعد عشرين عامًا قضاها في الولايات المتحدة الأمريكية، يجد نفسه مضطرًا للعمل على التأقلم مجددًا مع قسوة الحياة اليومية في مصر. لكن إحدى أكبر صدماته كانت عندما ذهب إلى مكتب حكومي لاستخراج جواز سفر جديد له.
ولإتمام معاملة طلبه، يطلب الموظف المسؤول من مصري كوب “شاي” مع 100 ملعقة سكر، وهو طلب يُحيّر “مصري”، حتى يشرح له صديقه أن الموظف يريد (100 جنيه مصري) على سبيل الرشوة.
يقول المسؤول لـ “مصري” الذي أصابه الفزع من مسألة الرشوة، “هل تريد أن تدفع لأساعدك وأنجز لك المعاملة، أم ترغب في الذهاب إلى نهاية الصف بـضمير مرتاح؟”
يُعتبر دفع النقود (كإكرامية أو بالأحرى رشوة) لتخطي طابور الانتظار الطويل مساعدة إضافية أو عربون شكر أمرًا لا مفر منه في مصر، حتى إن الشركات تعتبر أحيانًا هذه “الإكراميات” نفقات عمل روتينية. حيث يحصل على هذه الإكراميات موظفو صف (رَكْن) السيارات، والنُدُل، وحراس البوابات، وعمال التوصيل، تمامًا كما يحصلون عليها في دول أخرى.
وينطبق الأمر نفسه على موظفي الاستقبال في العيادات الطبية الخاصة، والموظفين الحكوميين، وحتى ممرضات المستشفيات، حيث يطلب بعضهن دفع “إكراميات” لهم مقابل مهام أو خدمات مثل إحضار الماء لمرضاهن، على سبيل المثال.
بالنسبة لأي شخص يشاهد فيلم “عسل إسود“، بطولة الفنان أحمد حلمي، في مصر في عام 2025م، أي بعد 15 عامًا من عرضه، فإن حجم الرشوة الهائل هو أول ما يبرز في ذهنه.
كان سعر الـ 100 جنيه مصري في عام 2010م يُقدَّر بحوالي 18 دولارًا أمريكيًّا. أما اليوم، وبعد عدة أزمات اقتصادية عانت منها البلاد وانخفاضات عديدة في قيمة العملة المحلية في مصر، فلم يعد مبلغ الرشوة التي طُلب من “مصري”، بطل الفيلم، دفعها للموظف لإنجاز معاملته (100 جنيه) يساوي حاليًا سوى دولارين تقريبًا.

وسط القاهرة في شهر إبريل. على الرغم من أن أحدث الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن ما يقرب من 30% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، إلا أن الرقم قد يكون أعلى بسبب سلسلة من الأزمات الاقتصادية. حقوق الصورة لـ: لودوفيك مارين / وكالة فرانس برس – صور جيتي
وحتى هذا الأمر (القدرة على دفع الإكراميات لإنجاز معاملاتهم) قد يبدو حلمًا بعيد المنال بالنسبة للطبقة المتوسطة أو الفقيرة الآن في مصر. فقد عَلَق معدل التضخم عند مستوى الخانتين منذ بدء الأزمة الاقتصادية الأخيرة في البلاد مطلع عام 2022م، ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 38% في شهر سبتمبر 2023م.
وبعد أن حصلت مصر على حزم إنقاذ بمليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي ودولة الإمارات العربية المتحدة وكذلك الاتحاد الأوروبي، انخفض معدل التضخم إلى 11.7 في المائة في شهر سبتمبر الماضي وتحركت البلاد نحو استقرار الاقتصاد.
لكن التقدم في الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة لا يزال بطيئًا. وفي نفس الوقت لا يزال المصريون يعانون من الآثار المترتبة على سنوات من التضحيات، و التقشف، و تفاقم الفقر.
وقالت مارينا كالداس، 29 عامًا، وهي مديرة مبيعات دولية على مواقع التواصل الاجتماعي في القاهرة: “امتد التضخم إلى كل شيء، حتى طال الإكراميات”. وأضافت: “في الماضي، كان بإمكان الناس دفع من عشرة جنيهات إلى عشرين جنيهًا (كإكرامية)، وكان هذا المبلغ كافيًا تمامًا. أما الآن، فإذا دفعتَ لشخص عشرة جنيهات فقط، فلن يستطيع فعل أي شيء بها”.
وتقول السيدة كالداس إنه عندما ذهب والدها إلى المستشفى في شهر مارس الماضي بسبب معاناته من مرض الفشل الكلوي، تجاهلت الممرضات تلبية طلباته في الحصول على الماء أو حتى المساعدة في تغيير ملابسه حتى بدأت هي في إعطائهم الإكراميات، وهي تكلفة باهظة، حتى لو كانت حوالي دولار واحد فقط في اليوم لكل ممرضة.
وقالت السيدة كالداس إنها تتفهم الوضع بسبب الوضع الاقتصادي. وأضافت: “انخفاض الأجور يُجبر الناس على الاعتماد على الإكراميات. إنهم بحاجة إلى أي مال إضافي”.

بلغ التضخم مستوى قياسيًّا مرتفعًا وصل إلى 38% في عام 2023م. حقوق الصورة لـ: هناء حبيب/رويترز
ربما يكون نظام دفع الإكراميات هو عادة متأصلة في مصر، ولكن الآراء تتباين على نطاق واسع حول الوقت المناسب لتقديمها وما إذا كان الدفع مقابل بعض الخدمات هو رمز للتعبير عن الامتنان أم هو مجرد رشوة (يكون مضطرًا لدفعها لإنجاز أعماله).
قبل عامين، وجدت السيدة كالداس نفسها عالقة في طابور طويل أمام أحد المكاتب عندما كانت في حاجة ملحة إلى تجديد رخصة قيادتها على عجل. وأثناء انتظارها في الطابور، رأت آخرين يرشون موظفًا حكوميًّا للحصول على رخصهم دون حتى اجتياز اختبار القيادة، وذلك على حد قولها.
وعلى الرغم من أن السيدة كالداس أبدت استياءها وعدم موافقتها على هذا السلوك، متسائلة – وماذا عن السلامة على الطرق؟ – لكنها لم تتردد في إعطاء إكرامية لنفس الموظف بعد أن سمح لها بالوقوف في مقدمة الصف، حيث أعطته 1,000 جنيه مصري (حوالي 33 دولارًا) بالإضافة إلى الرسوم المعتادة لتعبر له عن امتنانها، وذلك على حد قولها.
وقالت السيدة كالداس إنه إذا حدث نفس الشيء اليوم، فسوف تضطر إلى إعطائه إكرامية قد تصل إلى 1,800 جنيه مصري (أي حوالي 38 دولارًا).
وتزداد صعوبة تحمل كُلفة الإكراميات المرتفعة بالنسبة لكثير من المصريين. ومع ذلك، يرى البعض أن التبرع بدفع مال إضافي هو واجب ديني أو عمل خيري، قد يكون وسيلة لسد الفجوة الهائلة بين مَن يملكون ما يتبرعون به ومَن لا يملكون شيئًا تقريبًا.
ورغم إعلان مصر عن توسيع نطاق برامج الرعاية الاجتماعية، تشير أحدث الإحصاءات الرسمية الصادرة في عام 2019م إلى أن ما يقل قليلًا عن 30% من المصريين يعيشون في الفقر. ومع تفشي جائحة فيروس كورونا والتباطؤ الاقتصادي الأخير، فإن هذه النسبة تكون قد ارتفعت بشكل شبه مؤكد. وفي نفس الوقت، تعمل الحكومة على خفض دعم الخبز والغاز والكهرباء، وهي سلع أساسية للعديد من الفقراء المصريين.

حمل الخبز في أحد أحياء القاهرة عام 2023م. بالنسبة للبعض، يُعدّ البقشيش هو الحل الوحيد لتجاوز صرير عجلة الحياة المصرية المُتهالكة. حقوق الصورة لـ: موريسيو ليما، صحيفة نيويورك تايمز.
وقالت مي محمد صادق، وهي مُعلمة لغة إنجليزية تعيش في القاهرة، إنها جرَّبت أن تعطي ما بين عشرة إلى خمسة عشر جنيهات مصرية (حوالي 20 إلى 30 سنتًا) للسايس الذي يقوم بصَفْ (رَكْن) السيارات ولعامل تعبئة الأكياس في متاجر البقالة، كبقشيش أو إكرامية، مُقارنةً بخمسة جنيهات فقط عادةً ما كانت تُدفع لنفس الغرض قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية الراهنة.
وقالت السيدة صادق إنه “لطالما كان هذا جزءًا من ثقافتنا، لكن ربما تختلف نوايانا قليلًا الآن، فأنت تفعل هذا لأنك تعلم مدى صعوبة المعيشة، لذا فأنت تساعده بدفع الإكرامية بدلًا من أن تقول له شكرًا”.
ولكن بغض النظر عن احتياجات المتلقي للبقشيش أو الإكرامية، قالت السيدة صادق إنها كانت تشعر بالانزعاج كلما توقفت في موقف سيارات عام في الشارع، وفجأة يظهر أحد ساسة مواقف السيارات المعينين ذاتيًّا (فرضوا أنفسهم للقيام بهذا الأمر) في القاهرة “للمساعدة” – ثم يوضح لها، من خلال لغة الجسد أو من خلال التعبير عن تمنياته الطيبة لها بقضاء عطلة سعيدة، أنه من المنتظر أن يحصل منها على إكرامية، على الرغم من أنها هي مَن وجدت المكان الذي سوف تصف فيه سيارتها بنفسها وقامت بالفعل بإنهاء الأمر بنفسها.
وقالت: “ماذا فعل لكي يستحق الإكرامية؟ لا شيء!”. وأضافت أن المزايا التي تمنح دافع الإكرامية أفضلية على الآخرين، مثل السماح له بتجاوز الخط على سبيل المثال، لا تُشعِر السيدة صادق بالارتياح، لافتقار ذلك إلى مبدأ العدالة (المستحقة للجميع).
وبالنسبة لبعض مَن يدفعون تلك الإكراميات، فإن مثل هذه التبادلات تُعدُّ بمثابة الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تعبيد دروب الحياة المصرية المتهالكة. أما بالنسبة لمَن يتلقون الإكراميات، فإنَّ تحصيل هذه الإكراميات هو وسيلة مقبولة اجتماعيًّا من أجل البقاء، في ظِل اقتصاد قاسٍ.
في وقت سابق من هذا العام، كان المواطن المصري عمرو أحمد، البالغ من العمر 55 عامًا، وهو فني كمبيوتر مقيم في القاهرة، يجلس في عيادة طبية مكتظة للغاية بالمرضى حتى إنه كان يعلم أنه سوف ينتظر لساعات طويلة حتى يأتي دوره للفحص من الطبيب. ولما شعر به من اللطف الذي أبداه موظف الاستقبال بالعيادة بأنه يستطيع تقديم المساعدة – مقابل مبلغ من المال يعطيه له – دفع له السيد أحمد في نهاية الأمر 50 جنيهًا مصريًّا، أي حوالي دولار واحد، ليَحجز له موعدًا مبكرًا ليَرى الطبيب. وقبل بضع سنوات، ربما كان سيعطيه خمس جنيهات فقط (لإنجاز نفس الخدمة)، وذلك على حد قوله.

مكتب صرافة في القاهرة. تصوير: عمرو نبيل/أسوشيتد برس
وقال السيد أحمد: “أحيانًا تشعر بالحرج عندما تدفع مبلغًا زهيدًا لأحدهم، لأنك في الحقيقة تعلم مدى قلة قيمة ذلك المبلغ. وعندما تُعطي الناس المال، فأنت ترغب في منحهم شيئًا يُمكنهم تقدير قيمته”.
ملحوظة: نُشرت نسخة من هذا التقرير في طبعة صحيفة نيويورك الورقية بتاريخ 3 نوفمبر 2025م، القسم أ، الصفحة 5، بعنوان: “في مصر، يتوقع الكثيرون الإكراميات. لكن التضخم جعل كُلفة ذلك مُعضلة”.




