غير مصنفمقالات

الإبادة الإسرائيلية في غزة.. هل تشكل مفتاحًا لتقارب قوى المعارضة في مصر؟

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة وما صاحبها من مشاهد دمار واسع وقتل جماعي للمدنيّين، وَجَد العالم نفسه أمام مأساة إنسانية يصعب على الضمير تحملها. صور الأطفال تحت الأنقاض، وصيحات العائلات المكلومة، والمجازر اليومية التي تستهدف المستشفيات والمدارس، كلها جعلت كلمة “الإبادة” تتردد على ألسنة سياسيّين وباحثين وناشطين في أنحاء مختلفة من العالم.

ولم تكن غزة بالنسبة للمجتمع المصري يومًا قضية بعيدة، فهي الامتداد الجغرافي والإنساني الأقرب لمصر، وهي قطعة تقع في قلب التاريخ المشترك للصراع العربي الإسرائيلي، وهي في الوقت نفسه خط دفاع للأمن القومي المصري الذي كان يمتد يومًا حتى الشمال السوري. لكن ما يثير التساؤل في اللحظة الراهنة هو ما إذا كان هذا الحدث المأساوي يمكن أن يتجاوز حدوده كقضية قومية وإنسانية ليصبح أيضًا عاملًا سياسيًّا يؤثر في السياسة الداخلية. أو بمعنى أدق: هل يمكن أن يشكل محفزًا لتقارب قوى المعارضة في مصر التي تعاني منذ سنوات من التشتت والانقسام والضعف؟

ولكي نفهم طبيعة هذا السؤال، ينبغي العودة إلى العلاقة الوثيقة والمعقدة بين القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي من ناحيةٍ، والحياة السياسية في مصر من ناحيةٍ أخرى. فمنذ ثورة 1952م، شكل الصراع مع إسرائيل أحد أهم مكونات شرعية النظام المصري؛ حيث جعل جمال عبد الناصر من فلسطين والصراع ضد إسرائيل عنوانًا لمشروعه القومي، رغم خسارته الكبرى في عام 1967م، والتي كانت إيذانًا بنهاية عهده، والسبب الأهم في نهاية مرحلته، والانتقال إلى حكم أنور السادات الذي وَظَّف الحرب والسلام مع إسرائيل لإعادة صياغة معادلة الحكم داخليًّا وخارجيًّا.

أما في عهد حسني مبارك، وعلى وقع اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني عقده سلفه، فقد تراجعت القضية تدريجيًّا إلى موقع أقل مركزية، لكنها ظلت، رغم ذلك، ورقة حساسة تستخدم أحيانًا للتعبير عن الموقف الوطني، أو لكسب الشرعية حين تشتد الأزمات.

ومع اندلاع ثورة يناير 2011م، عادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وبرزت مجددًا رمزًا يتقاطع فيه البُعد القومي مع مطلب الكرامة الوطنية، وقد شهدنا حينها كيف عبَّرت القوى المختلفة، من إسلاميّين ويساريّين وليبراليّين، عن دعمها للفلسطينيّين كجزءٍ من شرعية الثورة ذاتها، كما عكس التزام القيادة المنتخبة بالحق الفلسطيني، ووقوفها في صف المقاومة في غزة إبان العدوان الإسرائيلي في عام 2012م، مستوى غير مسبوق من الشعور بوحدة المصير بين مصر وفلسطين.

غير أن السنوات الأخيرة، بدءًا من لحظة الانقلاب العسكري، شهدت انكماش المجال السياسي في مصر إلى حدود غير مسبوقة، وفقدت قوى المعارضة، على اختلاف توجهاتها (إسلامية، أو ليبرالية، أو يسارية) الكثير من قدرتها على التأثير، وتعمقت بينها الشروخ التي ظهرت منذ 2013م. في ظِل هذا المجال المغلق، تبدو غزة وكأنها نافذة وحيدة، وباب أمل أخير يمكن أن يتوافق عليه الجميع، حيث لا يحتاج الموقف من الإبادة التي تنفذها إسرائيل إلى تبرير أو تفسيرات أيديولوجية، فرفض الاحتلال والتنديد بالمجازر موقف بديهي في الوجدان الشعبي الإنساني عمومًا، وفي الضمير المصري على وجه الخصوص.

ومن هنا، تطرح الحرب الحالية سؤالًا منطقيًّا: هل يمكن أن تتحول هذه اللحظة إلى مساحة يلتقي فيها المختلفون، فيُعيدون اكتشاف ما يجمعهم بعد أن أضاعوا الكثير من المشتركات في صراعاتهم الداخلية؟

تشير التجارب التاريخية إلى أن القضية الفلسطينية كانت دائمًا عاملًا جامعًا حين يُراد توحيد الصفوف، لكنها في الوقت ذاته لم تنجح وحدها في بناء مشروع سياسي متماسك داخل مصر. صحيح أن التضامن مع غزة أو القدس قد يُخرِج عشرات الآلاف إلى الشوارع في لحظة معينة، لكن تحويل هذه المشاعر إلى تنظيم مستدام يحتاج إلى أكثر من غضب أخلاقي أو رفض وجداني. المطلوب أن تترجم المعارضة هذه اللحظة إلى خطاب سياسي يربط بين الدفاع عن فلسطين والدفاع عن الحقوق والحريات في الداخل، بحيث يصبح المطلب واحدًا: الكرامة الوطنية لا تنفصل عن الكرامة الإنسانية، والتحرر القومي لا يتحقق من دون تحرر ديمقراطي.

إن أحد أسباب ضعف المعارضة المصرية خلال العقد الماضي هو انشغالها بخلافات أيديولوجية عميقة، ما بين إسلاميّين في حاجة إلى تحديد أولوياتهم، وقوى ليبرالية ويسارية تخشى هيمنة الإسلاميّين أكثر مما تخشى انسداد الأفق الديمقراطي، وجماعات شبابية تفتقر إلى أدوات تنظيم قوية. لكن حرب غزة أعادت طرح سؤال الهوية الوطنية بطريقة مختلفة؛ إذ ينظر المصري إلى صور الإبادة وما يجري في القطاع من جرائم بوصفه قضية إنسانية، وتمس الأمن القومي في الوقت نفسه، خصوصًا حين توضع في الاعتبار تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية حول “أرض الميعاد” و”إسرائيل الكبرى”، ورد الفعل الرسمي المصري الضعيف تجاهها. هذه النظرة يمكن أن توفر أرضية جديدة لخطاب معارض يخفف من حدة الانقسامات القديمة ويعيد تعريف الأولويات، بحيث يضع الكرامة الوطنية في مواجهة الاحتلال، جنبًا إلى جنب مع الكرامة الإنسانية في مواجهة الاستبداد.

لكن لا بد من الانتباه إلى أن النظام المصري يُدرك هذه الديناميكيات بدقة، وقد حاول في أكثر من مناسبة احتواء الغضب الشعبي عبر إجراءات رمزية، مثل فتح معبر رفح بشكل محدود إذا تزايدت الضغوط عليه، أو لعب دور الوسيط في المفاوضات بين الكيان الصهيوني والمقاومة، أو إصدار بيانات تستخدم لغة مخففة عند نقد إسرائيل… بهذا المعنى لا يترك النظام لقوى المعارضة فرصة كبيرة لاستثمار القضية الفلسطينية كرافعة سياسية، ولا يسمح في الوقت نفسه بمظاهرات شعبية حاشدة لدعم المقاومة، وانتقاد إسرائيل، بل يحاول أن يَبقى هو الفاعل الرئيس الذي يَملك حق التعبير عن الموقف الوطني، كما أنه لا يتوانى، بذريعة حماية الأمن القومي، عن ممارسة مزيدٍ من التضييق في مواجهة أية محاولة من المعارضة لتبني خطاب أكثر جذرية.

في ضوء ذلك، يمكن القول إن الإمكانية الحقيقية لنجاح المعارضة في جعل مأساة غزة مدخلا للتقارب فيما بينها تكمن في قدرتها على تجاوز منطق رد الفعل اللحظي إلى منطق البناء الإستراتيجي. أي أن المطلوب ليس الاكتفاء ببيانات تنديد أو فعاليات رمزية، بل في إيجاد اتصال سريع وفعَّال بين قوى المعارضة لصياغة مشروع يربط بين الموقف من الإبادة في غزة ومطلب الإصلاح الداخلي.

فكما أن الفلسطيني محروم من حقه في تقرير مصيره، فإن المصري أيضًا محروم من حقه في تقرير مصيره عبر انتخابات حرة ومؤسسات شفافة. وكما أن غزة تُعاقَب لأنها ترفض الانصياع للاحتلال، فإن المعارضة المصرية أيضًا تُعاقَب لأنها ترفض الانصياع للاستبداد. هذا الربط بين القضيتين قد يكون هو الخيط القادر على تحويل التعاطف إلى قوة سياسية.

من جهةٍ أخرى، ينبغي ألا نغفل حجم التحديات أمام هذا المسار؛ فالمجال العام في مصر مغلق، والفضاء الإعلامي مُحتكَر، وأي نشاط سياسي مستقل قد يُعرِّض أصحابه للملاحقة. كما أن انعدام الثقة بين مكونات المعارضة لم يختفِ، بل ربما تعمق. فهل يمكن لغزة وحدها أن تمحو آثار عشر سنوات من الانقسام والاتهامات المتبادلة؟ لا شك أن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية نادرة، وقدرة على التنازل المتبادل، ووَعْي بأن الخطر الأكبر ليس في هيمنة طرف على آخر، بل في تلاشي الجميع أمام دولة مركزية قوية.

وفي المقابل، هناك عوامل قد تساعد في اتجاه التقارب: أولها أن المزاج الشعبي المصري في لحظات الأزمات الكبرى يميل إلى الوحدة أكثر من الانقسام. فالتاريخ يذكر كيف وحد العدوان الثلاثي عام 1956م القوى السياسية رغم خلافاتها، وكيف أعادت حرب أكتوبر بعض التوازن الوطني. وقد يكون ما يحدث في غزة اليوم، وما يتعرض له الأمن القومي المصري من تهديدات متعاظمة من العدو الإسرائيلي، الفرصة التي تدفع المصريّين إلى إعادة النظر في أولوياتهم، خصوصًا أن مشاهد الإبادة تجاوزت قدرة أي خطاب رسمي على تبرير الصمت أو التردد. وثانيها أن القضية الفلسطينية تتمتع بقدرة على كسر الحواجز الأيديولوجية بين أصحاب الأيديولوجيات المختلفة. وهذا المشترك يمكن أن يشكل نقطة بداية إذا ما أراد المعارضون البناء عليه، وإذا خلصت النوايا.

والحقيقة أن التخوف من أن تتحول الإبادة في غزة إلى مجرد شعار، يُستخدَم في بيانات مشتركة، أو وقفات محدودة ثم يتلاشى مع الوقت هو أمر مشروع. غير أن الجديد هذه المرة هو أن مستوى العنف الإسرائيلي بلغ درجة غير مسبوقة، ولم يَعد يختلف عن أفعال النازية في شيء، بل تخطاها فعليًّا، وأصبح مجمع عليه بأنه إبادة جماعية على مستوى الشعوب، بل وعلى مستوى سياسيّين وفنانين وإعلاميّين غربيّين، ومِن ثمَّ فإن الرهان على أن تنطفئ المشاعر مع الوقت قد يكون هذه المرة أضعف من أي وقت مضى، خصوصًا في ظِل تزامنه مع انتفاضة شعبية عالمية، وتحرر واضح من السردية الصهيونية، ودعم غير مسبوق للقضية الفلسطينية، وهو ما يعيد بعض الثقة في أن صوت الشعوب ما زال قادرًا على التأثير. وهذا زخم يمكن أن يكون مدخلًا للمعارضة المصرية لإعادة طرح قضية الديمقراطية في مصر كجزء من المشهد الأوسع للعدالة وحقوق الإنسان في المنطقة، خصوصًا وأن المناخ الديمقراطي الذي نعمت به مصر في عامي ثورة يناير، كان أكبر دليل على قوة العلاقة بين الحرية والديمقراطية والقضية الفلسطينية. وبمعنى أوضح؛ فإن الدفاع عن حقوق الفلسطينيّين لا يمكن أن ينفصل عن الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية؛ وأكبر شاهد على ذلك هو حجم التفاعل الشعبي، والمظاهرات التي يتم تنظيمها في عواصم الغرب ومدنه الكبرى ضد الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة، مقابل غياب شبه تام في العالم العربي؛ في ظِل أنظمة لا تكتفي بممارسة الاستبداد الداخلي، بل تتعاون مع إسرائيل، وتوفر احتياجاتها، وتعقد صفقات بمليارات الدولارات تدعم اقتصادها.

الخلاصة أن الإبادة الإسرائيلية في غزة فتحت جرحًا عميقًا في الضمير الإنساني، وأعادت إلى السطح أسئلة قديمة حول معنى الوطنية والتحرر والعدالة. وهذه اللحظة، بالنسبة لمصر، يمكن أن تشكل فرصة نادرة لإعادة بناء تقارب بين قوى المعارضة إذا ما أحسنت قراءة اللحظة وربطت بين التضامن مع غزة ومطلب الإصلاح الداخلي. لكن هذه الفرصة ليست مضمونة، وهي مهددة بأن تتبدد إذا اكتفت المعارضة بردود فعل آنية أو بقيت أسيرة انقساماتها القديمة. فالمطلوب منها إذا أن تدرك أن فلسطين ليست قضية خارجية فقط، بل هي مرآة لواقع داخلي، وأن كرامة غزة وكرامة القاهرة وجهان لعملة واحدة. حينها فقط يمكن أن تتحول هذه المأساة إلى بداية جديدة، بدل أن تكون مجرد محطة أخرى في تاريخ طويل من الخيبات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى