في زمن تتغير فيه طبيعة الحروب من ساحات تقليدية إلى ساحات هجينة تتقاطع فيها التكنولوجيا بالسياسة، وتختلط فيه التكتيكات العسكرية بالاستخبارات السيبرانية، أصبح من الضروري إعادة تقييم وسائل الردع التي كانت تُعَد لوقتٍ طويلٍ من ركائز الصراع طويل النفس، وفي مقدمتها “الصبر الإستراتيجي”.
في إطار الحروب الهجينة، تتفوق المبادرة والتوقيت على حجم القوة وعدد المقاتلين، وتُطرَح تساؤلات حول فعالية الصبر كخيار دفاعي وهجومي معًا، وهل له أن يصمد أمام خصم يُتقِن ضرب الأهداف الحيوية دون إعلان الحرب؟ لذلك، يطرح هذا المقال مبادئ الصبر الإستراتيجي وإشكالاته في ظِل تقنيات الحروب الحديثة، بناءً على حدثين بارزين، هما: علمية السابع من أكتوبر2023م، وضرب الكيان الصهيوني لإيران في 13 يونيو 2025م، كمدخلٍ لفهم التحولات في معادلة الردع في القرن الحادي والعشرين.
الصبر الإستراتيجي: المفهوم والأبعاد في العقيدة العسكرية
يُعد الصبر الإستراتيجي أحد أبرز المفاهيم في الفكر العسكري والسياسي المعاصر، ويُقصَد به انتهاج سياسة الانتظار المدروس والمحسوب، التي تهدف إلى كسب الوقت لتحقيق أهداف إستراتيجية بعيدة المدى، أو لامتصاص الهجمات والضغوط المعادية إلى حين تهيئة الظروف المناسبة للرد، سواء كان ذلك على مستوى القوة أو التوقيت أو البيئة السياسية والعسكرية. ونلاحظ أن هذا المفهوم موجود في العقائد العسكرية للقوى التي لا تمتلك تفوقًا تقليديًّا مباشرًا في موازين القوة الشاملة، لكنها تعوِّض هذا الضعف من خلال امتلاك أدوات ردع غير متكافئة، مثل العمق الجغرافي، والمرونة العقائدية، وشبكات النفوذ الإقليمي، والقدرة على إدارة الصراعات طويلة الأمد.
في هذا السياق، برزت إيران بعد الحرب العراقية-الإيرانية كنموذج عملي لهذا المفهوم، متبنيةً سياسة قائمة على ما يُعرَف بـ “النَفَس الطويل”، وشملت أدواتها في دعم حركات المقاومة، وبناء تحالفات إقليمية عبر شبكات بالوكالة، وتطوير نموذج ردع غير مباشر. فلقد مكَّنها هذا المنهج من توسيع نطاق تأثيرها دون الدخول في مواجهات شاملة مباشرة، مع الحفاظ على مستوى عالٍ من المرونة السياسية والعملياتية.
إلا أن التطورات المتسارعة في طبيعة الصراعات المعاصرة، خصوصًا مع تصاعد نماذج “الحروب السيبرانية” و”الحروب الهجينة” التي تجمع بين القوة الصلبة والناعمة، والعمليات السيبرانية والمعلوماتية، فرضت تحديات عميقة على مفهوم الصبر الإستراتيجي. فقد أصبح البطء النسبي لهذه السياسة الإستراتيجية يمثل نقطة ضعف محتملة في بيئة تتطلب التحرُّك السريع، والردع الوقائي، وتكتيكات استباقية مدروسة. حيث تتطلب التحولات في الحروب، لا سيما بعد صعود الحروب ما دون التقليدية وحروب “الجيل الخامس”، إعادة تقييم دور الصبر الإستراتيجي بوصفه أداة إستراتيجية، وتحويله من انتظار سلبي مدروس إلى أداة ديناميكية متكاملة تُدار فيها الموارد والسياسات والمعارك ضمن إطار شامل يتناسب مع التغيرات السريعة في بيئة التهديد.
وبالتالي، يجب أن يتحول الصبر الإستراتيجي من كونه مجرد “رد فعل مؤجل” إلى “إدارة إستراتيجية للوقت” قائمة على القدرة لضبط وتوجيه وتيرة الفعل السياسي والعسكري، بما يضمن استباق المبادرة دون المساس في توازنات الردع والتكلفة.
من الصبر إلى المباغتة: كيف تجلّت الحروب الذكية في 7 أكتوبر وضرب الكيان الصهيوني لإيران؟
مزجت الحروب الحديثة بين القوة الخشنة والناعمة، مستفيدةً من تقنيات كالاستخبارات الدقيقة، والحرب السيبرانية، والذكاء الاصطناعي، والطائرات المُسيَّرة، حيث تُدار الحروب بالمعلومات قبل الرصاص، وبالخداع الإستراتيجي قبل الإنزال العسكري.
فلقد جسّدت معركة 7 أكتوبر 2023م (عملية طوفان الأقصى) منعطفًا إستراتيجيًّا في أسلوب المقاومة الفلسطينية، حيث تحولت من مفهوم “الصبر الإستراتيجي” إلى نموذج أكثر إقدامًا وذكاءً يعتمد على المباغتة المركّبة. فقد مكّنتها المعلومات الاستخباراتية، والتحضير السيبراني، والإدراك العملياتي من تحقيق اختراق نوعي مباغت في بيئة محصنة، مما شكّل نموذجًا حيًّا على استغلال عناصر الحرب الحديثة في سياق مقاومة غير تقليدية؛ فالمقاومة الفلسطينية لم تعتمد فقط على تراكم القوة والصبر، بل وظّفت التمويه، الاستخبارات الدقيقة، والتحضير الميداني المنسق لتنفيذ عملية واسعة ومفاجئة كسرت أنماط الردع التقليدي الإسرائيلي.
في المقابل، جسدت الضربة الإسرائيلية لإيران في 13 يونيو 2025م، استعراضًا مضادًا لقوة الحرب الحديثة الإسرائيلية، إذ استهدفت العمق الإيراني عبر ضربات استخباراتية وجوية، طالت القيادة، والعلماء، والدفاعات، والمنشآت النووية بعمليات دقيقة اعتمدت على اختراق استخباراتي متقدم، وتفوق سيبراني، ومعلومات تمَّ تحليلها مسبقًا واتخاذ القرار بشأنها في وقت قصير.
لم ينتظر الكيان الصهيوني إعلان تهديد مباشر، بل صنع توقيت الضربة بناءً على مؤشرات غير ظاهرة للعلن.
تُظهر هاتان المحطتان أن الحروب الحديثة لم تعد ساحة لصبر طويل وتراكم بطيء فحسب، بل لساحة تُدار بها المعركة على أساس المباغتة المعلوماتية والتفوق في سرعة القرار والتنفيذ. في ظِل بيئة مشبعة بالتكنولوجيا والرقابة، يصبح التأخير ضعفًا، وتصبح المبادرة المدروسة سلاحًا حاسمًا.
لقد تخطّت الحرب الحديثة حدود الجيوش النظامية لتصبح أداة فعل فعّالة بيد الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية على حدٍّ سواء، بحيث تُدار المعركة بالمعلومات والخداع والضربة الدقيقة، لا بمجرد الانتظار أو الرد المتأخر. وهكذا، شكّلت معركة 7 أكتوبر، وضربة يونيو 2025م، علامتين فارقتين في تطور مفهوم الحرب المعاصرة.
في الحالتين، يتضح أن البيئة الإستراتيجية لم تعد تستوعب منطق التراكم الزمني فقط، بل باتت تفرض أولوية التحرك السريع المدعوم بالبيانات، والمبادرة القائمة على إمكانية صنع الفرصة، لا انتظارها. لقد تجاوزت الحرب الحديثة زمن رد الفعل، لتصبح فعلًا تأسيسيًّا مبكرًا يُدار مِن غرف عمليات رقمية، ويُنفَّذ عبر أدوات منخفضة الكلفة وعالية التأثير.
كيف تُبطِل الحروب الحديثة مفاعيل الصبر الإستراتيجي؟
بات واضحًا أن هناك تعارضًا جوهريًّا بين منهج الصبر الإستراتيجي ومنطق الحروب الذكية، يتمحور حول فهم الزمن ودوره في إدارة القوة. هذا التناقض المفاهيمي لم يَعد مجرد إطار نظري، بل انعكس ميدانيًّا في أبرز حدثين إستراتيجيين، هما: معركة 7 أكتوبر 2023م، عندما تمكنت المقاومة الفلسطينية من قلب معادلة الانتظار، حيث لم تُراكِم قوتها فقط للصمود، بل حوَّلت الصبر إلى مباغتة مركبة استخدمت فيها وسائل التمويه والاختراق المعلوماتي وتفكيك بنية الاستشعار الإسرائيلي، مما شكّل صفعة مباغتة لمنظومة الأمن الإسرائيلي التي تعتمد على الإنذار المسبق.
حوّلت المقاومة الفلسطينية الصبر إلى مقدمة للمباغتة المركبة؛ فتمَّ الاستعداد والتجهيز المستمر على مدى سنوات، لكن لحظة التنفيذ جاءت خاطفة، دقيقة، ومدروسة، مما جعل الكيان الصهيوني، رغم تفوقه الاستخباراتي، عاجزًا عن الاستجابة الفورية لمواجهة المقاومة الفلسطينية.
في المقابل، شكّلت الضربة الإسرائيلية لإيران في 13 يونيو 2025م دليلًا ميدانيًّا على: كيف يمكن للحرب الذكية أن تبطل فعالية الصبر الإستراتيجي طويل الأمد. فبينما انشغلت إيران بتوسيع نفوذها الإقليمي وبناء توازنات عبر وكلائها، كان جهاز الموساد والأجهزة السيبرانية تُراكِم معلومات دقيقة وتخترق البنية الأمنية الداخلية، وصولًا إلى تنفيذ ضربة جوية دقيقة أربكت الحسابات وأفرغت سياسة الصبر من مضمونها، وأربكت توازن الردع.
في السياق ذاته، يبدو أن التمسُّك بمنهج الصبر، في بيئة تشترط التحرك السريع والاستباقي، قد يتحوَّل من ميزة استراتيجية إلى نقطة ضعف هيكلية. لقد باتت الحرب، في صورتها الحديثة، تدار بمنطق المبادرة المعلوماتية والضربات الوقائية، لا الانتظار العقائدي الطويل. ولهذا، فإن الصراع بين المنهجين لا يدور فقط حول الوسائل، بل حول الزمن نفسه: مَن يمتلكه ومَن يتحكم فيه.
تؤكد هذه النماذج أن مَن يمتلك الزمن ويُحسِن إدارة أدواته هو مَن يملك زمام المبادرة. وفي زمن الحروب الحديثة، يصبح الصبر الإستراتيجي، إذا لم يتطوَّر، عبئًا أكثر من كونه رصيدًا. فالحسم بات يصنع في ثوانٍ، لا في سنوات.
الرد الإيراني: تحوُّل من الصبر إلى المباغتة المضادة
جاء الرد الإيراني المباشر على الضربة الإسرائيلية لطهران يوم 13 يونيو الماضي عبر إطلاق صواريخ دقيقة من الأراضي الإيرانية نحو أهداف في العمق الإسرائيلي، ليشكِّل تحوُّلًا لافتًا في العقيدة الإيرانية، وتحديًا مباشرًا لمعادلات الحرب الذكية التي لطالما حاول الكيان الصهيوني امتلاك زمامها. ولم يكن الرد عبر وكلاء أو في ساحات ثالثة، بل جاء بشكل مباشر، محسوب، ومعلَن، ما يمثل تطورًا في إستراتيجية “النفس الطويل” التي اتبعتها إيران منذ عقود.
رغم أن هذا الرد كان محدودًا من حيث الأثر العملياتي حتى اللحظة، لكنه حمل رسالة إستراتيجية مركبة: أولًا، أن طهران لم تعد ملتزمة بمنطق الصبر التقليدي، وثانيًا، أنها باتت مستعدة لاستخدام أدوات الهجوم المباشر إذا تمَّ استهداف سيادتها. وهو ما يعكس محاولتها الدخول في ميدان المباغتة والمواجهة ضمن شروطها الخاصَّة.
كما يُعَد الرد الإيراني محاولة لاستعادة زمام المبادرة، وتأكيدًا على أن طهران قادرة على تفعيل الردع بأسلوب هجومي سريع، ولو في نطاق محسوب. إلا أن التحدي الحقيقي يبقى في قدرة إيران على تحويل هذا الفعل التكتيكي إلى نمط عملياتي دائم، يُوازِن الحرب الحديثة التي تُدار بمنطق المعلومات والتوقيت، لا فقط بالصواريخ.
أبرز ما يميّز هذا الرد الإيراني المتواصل أنه لا يهدف إلى خلق معركة شاملة، بل إلى فرض “معادلة ردع جديدة” تعيد ترسيم خطوط الاشتباك، وتمنع الكيان الصهيوني من التصرُّف باعتباره الطرف الوحيد القادر على المبادرة. ومع أن هذه الإستراتيجية لا تزال قيد الاختبار، إلا أنها تعبّر عن محاولة إيرانية للخروج من دائرة الصبر الإستراتيجي السلبي إلى صيغة رد هجيني، تتداخل فيها أدوات الضغط، وتسعى لإطالة أمد المواجهة بشكل يُرهِق الكيان الصهيوني أكثر من أن يُشعِل حربًا واسعة.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة في المنطقة، وتحديدًا بعد معركة “طوفان الأقصى” والضربة الإسرائيلية لإيران، أن منطق الصراعات تغيَّر بشكل جذري، وأن أدوات المواجهة التقليدية لم تعد وحدها كافية لضمان الردع أو تحقيق التوازن. لقد أصبح الزمن نفسه ساحة للصراع، تتحكَّم فيها التقنيات الحديثة والمعلومات الاستخباراتية والمباغتة المدروسة.
في الإطار ذاته، باتت إستراتيجيات الصبر الطويل، التي اعتمدت عليها إيران لسنوات، بحاجة إلى مراجعة عميقة. فلم تعد الحروب تُخاض بالسلاح فقط، بل تُدار بالقرارات السريعة، والاختراقات السيبرانية، والتحكم بالإعلام والاقتصاد. فمَن لا يمتلك زمام السرعة والمباغتة، يجد نفسه في موقع دفاعي دائم، حتى وإن امتلك ترسانة كاملة.
يشير الرد الإيراني المباشر على الضربة الإسرائيلية إلى بداية تحوّل في عقلية الردع لدى طهران، وانتقالها من إستراتيجية النفس الطويل إلى نمط من “الرد السريع” – محسوب، ومباشر، ومتعدد الأدوات. لكن يظل هذا التحول مرهون بالقدرة على الاستمرار والمراكمة، وتحويل الردود المحدودة إلى منهج ردعي متكامل. كما تواجه ايران اليوم تحديًا كبيرًا، ليس فقط في الرد على التهديدات الآنية، بل في قدرتها على تحويل سياسة “النَفَس الطويل” إلى ردع هجومي متطور، يزاوج بين الاحتواء والمباغتة، وبين الصبر والضربات المحسوبة. فالحروب الحديثة لن تنتظر مَن يتهيأ، بل تكافئ مَن يسبق.
فهل تنجح إيران في أن تخرج من عباءة الصبر الإستراتيجي، وتأسيس منظومة ردع هجينة تواكب منطق الحروب الحديثة، دون أن تخسر توازنها الإقليمي؟