“في الوقت الذي كان بشار الأسد يغادر فيه العاصمة السورية دمشق، كانت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الوطنية تقول إن سقوط الأسد أمر مستبعد. وفي أخبار الصباح، كانوا يَصفون المعارضين السوريّين بأنهم إرهابيّين، ثم يصفونهم في أخبار الظهيرة بالمعارضين المسلحين”.
هذه العبارة مقتطفة من مقال نشرته صحيفة “جوان” الأصولية، التي انتقدت التغطية الإعلامية الإيرانية للأحداث في سوريا، ووَصَفتها بأنها “فضيحة كاملة”؛ لأن الإعلام الإيراني كان يقول إنه “ليس هناك شيءٌ يحدث في سوريا”.
والواقع أنه ما بين تحرُّك الفصائل السورية المسلحة من المناطق التي كانت تسيطر عليها في الشمال السوري، ضمن عملية ردع العدوان، في 27 نوفمبر 2024م، وسقوط بشار الأسد وإعلان إدارة جديدة للبلاد، برئاسة أحمد الشرع، أو أبو محمد الجولاني، تغيَّر خطاب الإعلام الإيراني عدة مرات، في مظهر من مظاهر التخبُّط الناتج عن الصدمة التي أصابت الدولة الإيرانية كلها، بعد أن سقط الأسد وخرجت إيران من سوريا، وفقدت أهم حلقة في حلقات محور المقاومة، وهي الحلقة التي تصلها بحزب الله اللبناني مرورًا بالعراق.
الإعلام الإيراني وعملية ردع العدوان
فمع بداية تحرُّك الفصائل المعارضة لإسقاط الأسد، كان الخطاب الإعلامي الإيراني يُركِّز على وَصَف المعارضة بأنها جماعات “سلفية تكفيرية”، تضم في صفوفها مرتزقة أجانب، ومدعومة من تركيا، وتتعاون مع الصهاينة، وتمَّ تنشيطها في هذا التوقيت بمخطط أمريكي لخدمة الصهاينة بعد الهزائم التي مُنيت بها إسرائيل في مواجهتها مع محور المقاومة.
في هذا السياق، وَصَفت صحيفة “وطن امروز” المعارضين السوريّين بأنهم “مرتزقة تلأبيب”، وقالت إنهم إرهابيّون وتكفيريّون من جنسيات متعددة، ومدعومون من تركيا، ويهاجمون مدينة حلب بعد أن فشل الصهاينة في مواجهة حزب الله في لبنان، مستغلين انشغال محور المقاومة في الحرب مع الصهاينة والدفاع عن غزة.
كذلك ربطت الصحيفة المذكورة بين المعارضة السورية والكيان الصهيوني، لتشويه صورة المعارضين، فقالت إن ما قامت به الفصائل المسلحة السورية هو “احتلال”، وأن ما فعلته الفصائل خيانة للفلسطينيّين المظلومين في قطاع غزة؛ لأنه جاء في وقت يحتاج فيه محور المقاومة – الذي يحارب إسرائيل – إلى تجديد قواه وأسلحته بعد استهداف حزب الله اللبناني والأهداف الإيرانية في سوريا من جانب الكيان الصهيوني. وزعمت أن هناك تنسيقًا وتعاونًا بين الفصائل المعارضة والصهاينة، بدعم من الحكومة التركية التي تدعي أنها تدعم الفلسطينيّين، ولكنها تقدم خدمة للصهاينة بإضعاف نظام بشار الأسد في سوريا.
وتساءلت صحيفة “آرمان امروز” عن دور إسرائيل في الأحداث السورية، وقالت إن هناك احتمالية لوجود اتفاقيات سرية بين تركيا وإسرائيل بشأن سوريا، تشبه الاتفاقات التي كانت بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي لتقسيم بولندا، حيث يسعى كلاهما لتحقيق مصالح وأهداف محددة.
أما صحيفة “جوان”، فقد وَصَفت تقدم فصائل المعارضة بأنه “غارة سلفية عثمانية على الشام”، تقودها مجموعات من السلفيّين، أغلبها من الأوزبك، وتستهدف المناطق السكنية بقذائف الهاون. وشَبَّهت الصحيفة سقوط إدلب وحلب في يد الثوار السوريّين بسقوط مدينة الموصل العراقية في يد تنظيم داعش.
وفيما يخص العمليات العسكرية، قدَّم الإعلام الإيراني صورة غير صحيحة عن مجريات الأحداث، ونشرت تحليلات تدل على سوء تقدير للموقف.
فقد زعمت صحيفة “وطن امروز” أن الجيش السوري والقوات المساندة له (المقصود القوات الروسية والميليشيات الموجودة في سوريا) يقومون بما يلزم من أجل وقف تقدم الإرهابيّين.
وقالت صحيفة “كيهان” – التي تُعد أكبر الصحف الإيرانية وأعرقها – إن القرى تتحرَّر واحدة بعد أخرى، وأن ألف “إرهابي” قتلوا بعد أربعة أيام من تحرُّك الفصائل.
أما صحيفة “آكاه”، فقد قلَّلت من أهمية الانتصارات التي تحققها الفصائل، ونقلت عن قائدين كبيرين في الحرس الثوري أن النصر في الميدان لقوات المقاومة، في إشارة إلى الجيش التابع للأسد وأعوانه من الخارج، وأن النصر لن يكون للإرهابيّين. كما نقلت الصحيفة عن سفير إيران في لبنان قوله إن الإرهابيّين واهمون إذا اعتقدوا أنهم سوف يكررون ما فعلوه قبل سنوات؛ لأن الحكومة السورية أقوى من ذي قبل، وهناك جبهة من المقاومة وإيران وروسيا تدافع عن سوريا.
جدير بالذكر أن أداء الإعلاميّين والمحللين السياسيّين الذين استعان بهم الإعلام الإيراني للتعليق على الأحداث السورية كان مثار انتقاد كبير، بعدما بدت تحليلاتهم بعيدة عما يحدث على أرض الواقع.
الإعلام الإيراني بعد سقوط الأسد
مع تساقط المدن السورية في يد الفصائل المسلحة واقتراب المعارضة من العاصمة دمشق، تغيَّر أسلوب كثير من وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية، فصارت تنشر أخبار ومشاهد انتصارات المعارضة السورية ودهس صور بشار وتماثيل حافظ الأسد بالأقدام. وبدلًا من استخدام أوصاف من قبيل الإرهابيين والسلفيين التكفيريين في الإشارة إلى الفصائل المعارضة، صارت وسائل الإعلام تصفهم بالمعارضة المسلحة.
فسَّر بعض المتابعين هذا التغيير من جانب الإعلام الرسمي بأنه اعتراف من النظام الإيراني بالأمر الواقع، وإقرار بأن نظام بشار الأسد في سبيله للسقوط، ولهذا لابد من الاستعداد لمرحلة ما بعد الأسد.
ولأول مرة ينشر التلفزيون الرسمي الإيراني أخبارًا حول عدم استهداف المدنيّين الشيعة في مدينة حلب من جانب المعارضة المسلحة، وهو توجُّه مغاير لما كان يتم نشره على التلفزيون الحكومي عن قيام المعارضة المسلحة بعمليات سطو واعتداء وقطع رؤوس و… إلخ.
تغيُّر لهجة الإعلام الحكومي شجع وسائل إعلام أخرى على نشر رواية أكثر واقعية واستقلالية عن الأحداث في سوريا، حتى إن صحيفة “هم ميهن” الإصلاحية نشرت في صدر صفحتها الأولى عنوانًا قالت فيه: “نحو دمشق”، وأرفقته بصورة كبيرة للمقاتلين من المعارضة وهم يشيرون بإشارات النصر، وقالت في عنوان جانبي: “سقطت حماة ودير الزور، وجاء الدور على دمشق”.
كذلك أخذت وسائل الإعلام الإيرانية تحلل أسباب سقوط حكم الأسد، لنرى انتقادات واتهامات لم تكن هناك قدرة على توجيهها لهذا الحليف من قبل، ومنها اتهامه بارتكاب أخطاء أدَّت لإسقاطه، منها الوثوق بوعود الغرب، وابتعاده عن محور المقاومة خلال العام الماضي، وعدم الاستماع لنصائح مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، وأنه كان منعزلًا عن شعبه.
الإعلام الإيراني والإدارة السورية الجديدة
ولكن تغيرًا ثالثًا حدث في تناول الإعلام الإيراني للأحداث في سوريا، ولعل السبب في ذلك هو الرسائل التي بعثت بها الإدارة السورية الجديدة إلى الجانب الإيراني، عبر حوارات قائدها أحمد الشرع، الذي طالب إيران بإعادة النظر في سياساتها بالمنطقة بعد سقوط مشروعها في سوريا، واتهمها بالتسبب في النعرات الطائفية.
بعد أن تبيَّن للإيرانيّين أنه لا مكان لهم في سوريا في ظِل الإدارة السورية الجديدة، وأن هذه الإدارة ماضية في نسج شبكة علاقات إقليمية ودولية سوف تؤثر على نفوذ الإيرانيّين في سوريا، وربما تقضي عليه تمامًا، عاد الإعلام إلى التركيز على فكرة أن الفصائل السورية المنتصرة “إرهابية”، وتحمل الفكر السلفي التكفيري، وبدأ في حملة تشويه وتهديد للإدارة السورية الجديدة.
سارت حملة التشويه في مسارات عديدة، منها وَصْف الإدارة الجديدة بأنها مجموعة من الإرهابيّين المأجورين الذين انشغلوا بتدمير سوريا ونشر الرعب فيها، وأن أحمد الشرع هو قائد مجموعة إرهابية، قام بخلع ملابسه “التكفيرية” والتخلي عن اسمه “التكفيري” بأمر من أجهزة أمنية في دولة مجاورة لسوريا، يقصدون بها تركيا، من أجل إخفاء حقيقته الإرهابية. هذا ما ذكرته صحيفة “كيهان” التي زعمت أن “هيئة تحرير الشام” أمرت عناصرها بالقيام بعمليات الإعدام بحق السوريّين في صمت، حتى لا ينتشر خبر جرائم هذه المجموعة الإرهابية.
وزعم الإعلام الإيراني أن انتصار الفصائل المعارضة جاء في إطار مؤامرة، قال موقع “عصر إيرانيان” الخبري إن وراءها أمريكا وإسرائيل، لضرب محور المقاومة ومساعدة الكيان الصهيوني، وتقليص نفوذ إيران وروسيا في سوريا.
وقالت صحيفة “جوان” إن الإدارة الجديدة تتعاون مع الغرب الذي كان يتهم فصائلها المسلحة بالإرهاب، وتسهم في تفكيك قوة الدول الإسلامية.
كما قالت الصحيفة المذكورة إن القوى الأجنبية تؤثر على قرار الإدارة الجديدة، واستشهدت بما وصفته بالصعود السريع لوزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني، الذي قالت إنه على علاقة بالمخابرات التركية، وأن تركيا صارت اللاعب الأول في سوريا بالإضافة إلى السعودية، وأنها تسعى لتحقيق مصالحها على حساب الشعب السوري.
المسار الآخر لتشويه الإدارة الجديدة، هو الزعم بأن هذه الإدراة بقيادة أحمد الشرع تتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي، وسوف تحمي حدود إسرائيل، والدليل على ذلك أنها تصمت على اعتداءات الكيان الصهيوني على سوريا. ونشرت وكالة أنباء “إيسنا” الحكومية تقريرًا بعنوان “بنيامين الجولاني”، ذكرت فيه إن الجولاني لا يعمل على تحقيق أمن واستقلال سوريا وخلق حرية حقيقية في هذا البلد، وإنما هو بيدق من بيادق تل أبيب في المنطقة.
ثمَّة مسار آخر اتخذته وسائل الإعلام الإيرانية في تعاملها مع الإدارة السورية الجديدة، وهو تخويف القوى الإقليمية والدولية منها وتحريضها ضدها، بحجَّة أنها سوف تكرر تجربة داعش مرة أخرى، وسوف تثير الفوضى في سوريا، وأن هذه الفوضى سوف تنتقل إلى دول الإقليم، خاصَّة السعودية والأردن، وسوف تؤثر على مصالح الجميع.
بل ذهبت صحيفة “كيهان”، في نسختها العربية، إلى حد نشر مقال طويل حول الأثر السلبي لانتصار الفصائل السورية على مصالح القوى الدولية، ومنها الصين التي يمكن أن يشجع انتصار السوريّين الأقلية الأويغورية المسلمة فيها على القيام بعمليات ضد الحكومة الصينية، وزعم كاتب المقال أن مقاتلين من الحزب الإسلامي التركستاني حاربت إلى جانب المعارضة السورية.
لم يتوقف الأمر عند الاتهامات والتخويف، ووَصَل إلى حد تحريض الشعب السوري ضد الإدارة الجديدة والتشجيع على قيام كيانات مسلحة.
فقد دعت صحيفة “سياست روز” الشباب السوري للتحرُّك لتغيير الأوضاع في هذا البلد بعد أن احتله الإرهابيون. وتنبأت صحيفة “وطن امروز” بظهور فصيل مشابه لحزب الله اللبناني بين الشعب السوري، إذا صارت المقاومة عقيدة شعبية.
شغل موضوع مستقبل سوريا بعد الأسد حيزًا كبيرًا في الإعلام الإيراني، حيث ركز الإعلام الأصولي على رسم مستقبل مظلم لسوريا بعد الأسد، حيث رأت صحيفة “جوان” أن هناك دلائل على أن سوريا سوف تدخل حقبة من الفوضى التي سوف تؤثر على وضع ومصالح الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية.
وفي تحليلها لمستقبل سوريا، قالت صحيفة “روزكار” إن نهاية الأسد لن تكون نهاية مشاكل سوريا، وظهور الجولاني لا يعني بداية مستقبل مشرق للسوريّين؛ لأن سوريا سوف تدخل في حقبة من الأزمات التي لن تتمكن الإدارة السورية الجديدة من حلها لعقد من الزمن، ويمكن أن تدخل البلاد في حرب أهلية لسنوات عديدة إذا تقرر نزع السلاح من الفصائل المختلفة.
أما وكالة أنباء الحوزة فقد تنبأت بمظاهرات شعبية قريبة الوقوع في سوريا، بسبب سوء الأوضاع والتحديات الواسعة.
وتوقعت صحيفة “كيهان” أن سوريا تسير في طريق الانهيار والفوضى الكاملة بعد أن تسلطت عليها حفنة من الإرهابيّين المأجورين. وشكّكت الصحيفة في قدرة الإدارة الجديدة على بناء سوريا، معللة ذلك بأن البناء ليس من قاموس الإرهابيّين؛ لأنهم مدربون على التدمير فقط وليس على البناء. وقالت إن هؤلاء الإرهابيّين الذين يحملون الأفكار السلفية التكفيرية لن يفعلوا شيئًا سوى تأسيس “حكم الرعب”.
في مقابل هذا التناول الإعلامي من جانب الأصوليّين، كان هناك تناول أكثر واقعية في البحث في مستقبل سوريا بعد الأسد، وهو ما ظهر في ابتعاد الإعلام الإصلاحي عن الجزم بدخول سوريا في حالة فوضى وانهيار وحرب أهلية، وتقديمه سيناريوهات عديدة لهذا المستقبل، تتراوح بين الفوضى والاستقرار وإقامة دولة قوية إذا توفرت الظروف المناسبة.
فقد رأت صحيفة “تجارت” أن مستقبل سوريا محصور بين مجموعة سيناريوهات، هي: التقسيم، والاحتلال، والفوضى المستدامة، واندلاع حرب أهلية، والحكم الفيدرالي.
في هذا السياق أيضًا، لم تستبعد صحيفة “آرمان ملي” قيام حكم ديموقراطي في سوريا، ولكن رأت أن هذا الأمر سوف يستغرق وقتًا طويلًا، ومشروط بعدم دخول الفصائل المسلحة في صراع.
كذلك، كانت الصحيفة أكثر براغماتية في تناولها لكيفية التعامل مع الإدارة الجديدة في سوريا، حيث رأت ضرورة تبني نهج متوازن من جانب إيران في التعامل مع الفصائل السورية المسلحة لتجنب زيادة التوتر وللبقاء ضمن عملية إعادة تشكيل ديناميات الصراع.
وحذرت الصحيفة من اتهام الإدارة السورية الجديدة بالعمالة لإسرائيل؛ لأن ذلك قد يدفعها إلى التقارب مع تلأبيب فعلًا. ورأت أن العمالة لإسرائيل لا محل لها؛ لأن أي حكومة في دمشق سوف تكون معادية لإسرائيل التي تحتل جزءًا من سوريا، كما أن إسرائيل ترى في سوريا مصدر تهديد، ولن تسمح بظهور حكومة قوية ومستقرة فيها.
أما صحيفة “هم ميهن” فقد دعت الدبلوماسية الإيرانية إلى تغيير أسلوبها في سوريا، ورأت أنه حان الوقت للتخطيط لعقد لقاء علني مع كافة الفصائل السورية.
وعللت الصحيفة ذلك بأن إيران لها مصالح مشروعة في سوريا، يمكن متابعتها بشكل قانوني إلى جانب الدبلوماسية النشطة والمبتكرة. ونصحت الصحيفة بتأجيل البحث عن بعض المصالح في مقابل حماية مصالح حيوية أخرى، وهو ما يحد من المشاكل، ويؤسس لتواجد إيراني في سوريا بعد الأسد.
في هذا الإطار، رأت الصحيفة أن مجال الطاقة يمكن أن يحافظ على التواجد الإيراني في سوريا؛ لأن استبدال مصدر طاقة جديد بالطاقة الإيرانية سوف يستغرق وقتا طويلًا، وهو ما يتيح فرصة للدبلوماسية التجارية بين البلدين.