مثلت عملية “طوفان الأقصى” علامة فارقة في تاريخ التطبيع بين الدول العربية والإسلامية والكيان الصهيوني؛ فبعد أن عكس اتفاق أبراهام تنازلًا عن الحقوق الفلسطينية، وإهمالًا لمبدأ حل الدولتين الذي أقره اتفاق أوسلو، وصولًا إلى التنازل حتى عن المبادرة العربية التي أطلقها الملك عبد الله بن عبد العزيز، ووافقت عليها القمة العربية في بيروت عام 2002م، والتي تقضي باعتراف الدول العربية بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها مقابل انسحابها من جميع الأراضي المحتلة منذ عام 1967م، وقبولها قيام دولة فلسطينية مستقلة، جاءت هذه الحرب لتعيد القضية الفلسطينية إلى الواجهة من جديد، وتعيد الزخم إليها، وترفع مستوى الرفض الشعبي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتعطل مسار التطبيع الرسمي، ولو بشكل مؤقت؛ حيث بات من الصعب على الدول التي قامت بالتطبيع مع إسرائيل، أو تلك التي كانت على وشك التوقيع على اتفاقيات مماثلة، بدعوى تحقيق المصالح المشتركة، ومواجهة التهديدات أن تبيع هذه الرؤية لجماهيرها.
وينصب أكبر الاهتمام الإسرائيلي بالتطبيع على دولتين بدرجة أساسية، هما السعودية وإندونيسيا، فالأولى لمكانتها الدينية في العالم الإسلامي بحكم مركزية الحرمين الشريفين، وترجيح أن يفتح التطبيع معها آفاقًا أوسع في العالم الإسلامي، وأن تحذو دول أخرى حذوها، علاوة على ثرواتها الكبيرة وموقعها في منطقة الشرق الأوسط. والأخرى باعتبارها الدولة الإسلامية الأكبر من حيث عدد السكان (285 مليون نسمة)، فضلًا عن احتلالها الترتيب السادس عشر في قائمة الدول المصنفة حسب الناتج الإجمالي المحلي.
عوامل مؤثرة في مسار التطبيع
يرتبط مسار التطبيع مع إسرائيل بثلاثة متغيرات حالية مهمة؛ وهي: الحرب في غزة ومدى إمكانية التوصل إلى اتفاق يضع نهاية لها، وفوز ترامب في الانتخابات الأمريكية، ونجاح الثورة السورية في إسقاط نظام بشار الأسد، مع الانتباه إلى أن المتغير الأخير يمكن أن يؤثر فقط على التطبيع مع الدول العربية، وفي مقدمتها السعودية، وليس إندونيسيا. ويشار إلى أن الجهود التي كانت تقودها الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من السعودية وإندونيسيا كانت تسير بخطى حثيثة، غير أن أحداث “طوفان الأقصى” عرقلت هذه الخطى بشكل كبير.
وطبقًا لموقع Jewish Insider فإن إندونيسيا وإسرائيل كانتا ستعلنان تطبيع العلاقات بينهما في أكتوبر 2023م، قبل أن تأتي عملية “طوفان الأقصى” وتعطل هذه الخطوة[1]. ومن المهم هنا التنبيه إلى أن وسائل إعلام إسرائيلية تعمدت نشر أخبار، لا يُعرَف مدى صحتها، حول التطبيع مع إندونيسيا كشكل من أشكال الضغط عليها؛ من ذلك تقرير نشره موقع “تايمز أوف إسرائيل” في أبريل الماضي عن استعداد إندونيسيا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، رغم الحرب الإسرائيلية على غزة، مقابل أن تتوقف الأخيرة عن اعتراضها المتكرر على انضمام إندونيسيا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، مع تأكيد الموقع على أن الأمين العام للمنظمة، ماتياس كورمان، تعهد لإسرائيل بعدم السماح بانضمام جاكرتا للمنظمة حتى تقوم بتطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل[2]. وقد نفت وزارة الخارجية الإندونيسية سعيها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل الحصول على عضوية المنظمة المذكورة[3].
ولكي نعرف تأثير “طوفان الأقصى” على قضية التطبيع تنبغي المقارنة بين استطلاعات رأي قاست الموقف الشعبي من التطبيع في عام 2022م، بين شهري يونية وديسمبر، وعام 2024م؛ وطبقًا لمؤشر الرأي العام العربي، في 2022م، عبَّر 84 بالمئة من المستطلعة آراؤهم في 14 دولة عربية عن اعتراضهم على تطبيع حكوماتهم مع إسرائيل، ولم يؤيد التطبيع حينها سوى 8 بالمئة فحسب؛ مع الانتباه إلى أن الرفض الأكبر كان في الجزائر وموريتانيا بنسبة 99 بالمئة، ثم ليبيا 96 بالمئة، ثم الأردن 94 بالمئة، والعراق 92 بالمئة، وتونس 90 بالمئة، ثم قطر 87 بالمئة، والكويت 85 بالمئة، ثم مصر ولبنان 84 بالمئة، والسودان 72 بالمئة، والمغرب 67 بالمئة. أما في السعودية فلم يؤيد التطبيع سوى 5 بالمئة، ورفضه 38 بالمئة، وامتنعت النسبة الأكبر وهي 57 بالمئة عن الإجابة[4].
أما استطلاع الرأي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في قطر فقد أظهر ارتفاعًا كبيرًا في رفض الشعوب العربية الاعتراف بدولة الاحتلال، بنسبة 89 بالمئة، وتأييد 4 بالمئة فقط الاعتراف بها؛ وارتفعت نسبة الرافضين في المغرب من 67 بالمئة عام 2022م، إلى 78 بالمئة، وفي السودان من 72 بالمئة إلى 81 بالمئة. وكان الارتفاع الأوضح في السعودية، حيث زاد رفض التطبيع ليصل إلى 68 بالمئة (مقارنة بـ 38 في استطلاع 2022م المشار إليه)، مع نسبة امتناع كبيرة عن الإجابة. الأكثر من ذلك أن 70 بالمئة من السعوديين المستطلعة آراؤهم اعتبروا أن هجوم حماس عملية مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي، بل إن 94 بالمئة من هؤلاء قيَّموا الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة تقييمًا سلبيًّا[5].
صحيح أن الطبيعة الاستبدادية للأنظمة العربية تمنع اتجاهات الرأي العام من أن يكون لها صدى كبير على سياسات الدولة، وهذا ما رأيناه عند انضمام المغرب إلى اتفاقية أبراهام التي وقعت عليها الدولة رغم رفض 88 بالمئة من المغاربة التوقيع عليها في ذلك الوقت[6]، لكن تجاهل هذه الاتجاهات بالكامل أمر غير ممكن أيضًا، وهذا أحد الدروس المستفادة من الربيع العربي، الذي أظهر حالة طلاق بائن بين الحكام والشعوب، مع عدم إمكانية تجاهل هذه الشعوب بشكل كامل[7].
هناك موقفان يبرهنان على عدم إمكانية التجاهل الكامل للشعوب؛ أولهما أن الحرب الحالية دفعت المملكة العربية السعودية للإصرار على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة شرطًا من أجل إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل[8]. أما الموقف الآخر فيرتبط بتصريح مهم لوزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في مجلس الأمن، في سبتمبر الماضي، عن أن “57 دولة عربية وإسلامية مستعدة لضمان أمن إسرائيل في سياق إنهائها الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وأن إسرائيل هي التي تخلق هذا الخطر لأنها ببساطة لا تريد حل الدولتين… وأن مقدار الكراهية والمرارة (التي صنعتها إسرائيل في غزة) سيستغرق أجيالًا من أجل تخطيه”، وهو تصريح يعني وجود استعداد للتطبيع لدى كثير من الأنظمة الحاكمة، لكنه يصطدم بتخطي حالة الغضب الشعبي تجاه الجرائم والمذابح الإسرائيلية في غزة، والتي زاد عليها مؤخرًا اعتداؤها على الأراضي السورية.
وتطرح مراكز الدراسات الإستراتيجية الدولية رؤيتين حول احتمالات التطبيع بين السعودية وإسرائيل؛ ترجح أولاهما ألَّا يؤدي تضرر مسار التطبيع (الرسمي) بين البلدين، بسبب الحرب الحالية على غزة، إلى إعاقة التقدم في محادثات التطبيع بشكل كبير؛ خصوصًا أن التطبيع بينهما يُعد بندًا رئيسًا في أجندة الاجتماعات المتكررة بين واشنطن والرياض، حتى بعد أحداث السابع من أكتوبر[9]. لكن على الجانب الآخر هناك مَن يرى أن إقامة علاقات دبلوماسية بين الرياض وتل أبيب ليس متوقعًا أن يحدث في الأمد القريب والمتوسط؛ في ظل استعادة القضية مركزيتها على الساحة الإقليمية والدولية بعد تهميش استمر فترات طويلة حتى من قبل العالم العربي نفسه[10].
تأثير فوز ترامب، والثورة السورية
أما المتغير الثاني فهو فوز دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة، وهو أقرب أن يكون رجل صفقات، لا رجل حرب. وعلى الأرجح أن الرئيس الأمريكي المنتخب يريد أن يدخل الرئاسة وقد انتهت الحرب الإسرائيلية في غزة، وربما كان هذا أحد أهم الأسباب التي أعادت الأمل أخيرًا في إمكانية التوصل لصفقة بين المقاومة والحكومة الإسرائيلية من خلال المفاوضات الدائرة حاليًا، إن لم تعطلها إسرائيل كعادتها في المرات السابقة. وبالتالي فإن وضع نهاية للحرب، وقدوم ترامب قد يدفعان بقوة نحو استئناف مسار التطبيع الرسمي.
وهنا تحديدًا لا بد من الإشارة إلى أن التعاون الكبير بين إسرائيل وبعض الدول التي تسعى تل أبيب للتطبيع معها يؤكد أن الأمر لا يتوقف على التطبيع في حد ذاته، بل على “إضفاء الطابع الرسمي” على ما هو قائم فعليًّا، وليس رسميًّا، في مجالات عديدة، بين الدول العربية أو الإسلامية والكيان الصهيوني، وهذا يتوافق مع تصريح لوزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، عقب انضمام المغرب لاتفاق أبراهام في عام 2020م، حينما قال: “نحن لا نتحدث عن التطبيع، لأن العلاقات كانت طبيعية بالفعل، نحن نتحدث عن إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات بين البلدين، لأن العلاقات كانت قائمة طوال الوقت، ولم تتوقف أبدًا”[11].
أما المتغير الثالث فيرتبط بسقوط نظام الأسد في سوريا، ولا شك أن تأثير هذا المتغير محدود إذا قورن بسابقيه، لكنه قد يتعاظم حسب التطورات هناك، سواء في نجاح الثورة في سوريا، وقدرتها على بناء دولة قوية قد تغري شعوبًا أخرى بتكرار التجربة. ونظرًا للموقف الشعبي الرافض للتطبيع فإن تطورًا كهذا، لن يكون تهديدًا للتطبيع المتوقع فحسب، بل ربما للاتفاقيات الأقدم بين الدول العربية وإسرائيل، وهو تهديد شعرت به إسرائيل في سنوات الربيع العربي. ليس هذا فحسب، فما تقوم به دولة الاحتلال من اعتداء على سيادة سوريا واحتلال أراض جديدة مجاورة للجولان، يفترض أن يؤثر سلبًا على إمكانية التطبيع.
وخلاصة الأمر في هذا المتغير، ترجيح أن يكون تأثيره سلبيًّا، ولو بشكل محدود. وهذا الأمر لا يرتبط برغبة الأنظمة أو تمنعها، بل بالحالة النفسية الشعبية التي صنعها نجاح الثورة السورية في التخلص من بشار الأسد ونظامه.
تبقى هنا ملاحظتان: الأولى أن إصرار السعودية على ربط تطبيعها الرسمي مع إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية، ونفي إندونيسيا استعدادها للتطبيع، ووقف تركيا كامل تعاملاتها التجارية مع إسرائيل هي جميعها من تأثيرات “طوفان الأقصى”، وهي مواقف جيدة ينبغي البناء عليها من أجل وقف كل أشكال التعاون مع الكيان الصهيوني. مع الوضع في الاعتبار أن استمرار بعض الدول العربية أو الإسلامية في التطبيع مع إسرائيل، أو تفكير بعضها الآخر في التطبيع الرسمي معها يبدو غريبًا في ظل الجرائم الإسرائيلية المستمرة؛ في غزة وفي سوريا، بل وانقلاب إسرائيل على اتفاق أوسلو نفسه عبر مصادرة أراض فلسطينية في الضفة الغربية، والتوسع في الاستيطان، ورفض غالبية الإسرائيليّين (64 بالمئة) إقامة دولة فلسطينية حتى لو كان الثمن إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الرياض وتل أبيب[12]، وقبل كل ذلك موافقة الكنيست على رفض حل الدولتين في يوليو الماضي[13]، والذي يصطدم مع اشتراط بعض هذه الدول ربط التطبيع مع الاحتلال بإقامة دولة فلسطينية.
والملاحظة الأخرى أن نضع في الحسبان أن الأنظمة العربية حين تختار التطبيع الآن وتستمر في نفس المسار؛ خصوصًا بعد حجم القتل والمجازر والتدمير الصهيوني في غزة، في تهديد لأي نظام عربي يختار مواجهة إسرائيل عسكريًّا، فهي تختاره من باب الضعف، وتجنب أي احتمال للمواجهة مع هذه الآلة العسكرية الغاشمة. وإذا أضفنا إلى ذلك سكوت هذه الأنظمة، أو تنديدها الخجول باحتلال القوات الصهيونية مساحات جديدة من الأراضي السورية في أعقاب سقوط نظام الأسد، فإن هذا يدل على الأسلوب الذي تنتهجه الأنظمة العربية، أو ما تبقى منها، إذا قررت المضي قدمًا في خطواتها تجاه التطبيع أو تعميقه مع الكيان.
[1] L. Harkov: Israel, Indonesia were on track to normalize ties before Oct. 7. Jewish Insider Feb. 28 2024. https://tinyurl.com/23z4849u
[2] J. Davidovich: Indonesia ready to normalize ties with Israel as part of bid to join OECD. The Times of Israel 11 April 2024. https://tinyurl.com/275jkdnh
[3] صهيب جاسم: إندونيسيا تنفي السعي للتطبيع مع إسرائيل مقابل عضوية منظمة التعاون الاقتصادي. الجزيرة.نت 12/4/2024. https://tinyurl.com/2y3ywznu
[4] Arab Opinion Index 2022: Executive Summary. Arab Center Washington DC. Jan. 19 2023. https://tinyurl.com/2hdvzlty
[5] Arab Public Opinion about the Israeli War on Gaza. Arab Center for Research – Policy Studies. 10 January 2024. https://tinyurl.com/ywbagbr6
[6] Adil Faouzi: One Year after October 7, Normalization Has Fallen Popularly and Must Fall. Morocco World News, Oct. 6 2024. https://tinyurl.com/ykd4p689
[7] I. Alvarez-Ossorio Alvarino: Israeli-Saudi Normalization, A Collateral Victim of 7 October. European Institute of the Mediterranean July 2024. https://tinyurl.com/224ntu5f
[8] R. Barron, C. Dibble – L. Kurtzer-Ellenbogen: A year After October 7, the Middle East Crisis Has No End in sight. United States Institute of Peace. Oct. 10 2024. https://tinyurl.com/2amfzvz2
[9] IntelBrief: After October 7th, Is Saudi-Israeli Normalization just a Mirage? The Soufan Center. Feb. 14. https://tinyurl.com/25noowq6
[10] I. Alvarez-Ossorio Alvarino: Ibid
[11] Adil Faouzi: Ibid
[12] המרכז הירושלמי: גם נורמליזציה עם סעודיה, 64 بالمئة מהישראלים מתנגדים למדינה פלסטינית. המרכז הירושלמי לענייני חוץ וביטחון. 3 יוני 2024. https://tinyurl.com/2bcw6ay4
[13] בנצי רובין: “זה יהיה פרס לטרור” הכנסת אישרה נוסח התנגדות להקמת מדינה פלסטינית. מעריב 18/ 7/ 2024. https://tinyurl.com/2a7fs22c