مقدمة
بدأت إسرائيل والولايات المتحدة والغرب في الحديث عن مرحلة ما بعد القضاء على حركة حماس، وهو الهدف الرئيس والمُعلَن للعملية العسكرية التي تقوم بها إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. وبهذا تتجاوز إسرائيل وحلفاؤها الواقع إلى مرحلة تبدو حتى الآن مستبعدة، بحكم ما يجري على الأرض من مواجهات تثبت أن المقاومة مازالت صامدة وقادرة على صد الهجوم الإسرائيلي.
وتستعرض هذه الورقة آخر تطورات الصراع، ثم تتناول ما يثار حول مصير حركة حماس، ومستقبل قطاع غزة وفق الرؤى الإسرائيلية والأمريكية والغربية، التي تفترض حتمية القضاء على المقاومة، والانتقال إلى مرحلة جديدة لا مكان فيها لحركة حماس.
وتفرد الورقة مساحة للسيناريوهات المحتملة لنتيجة الحرب الحالية، لترجيح أحدها، مع التفصيل فيما يخص السيناريو الأسوأ بالنسبة للمقاومة، وهو هزيمة حركة حماس وتحقيق إسرائيل لأهدافها، ومآلات هذا السيناريو على القوي المعنية بالصراع العربي الإسرائيلي.
1 – تطورات الصراع
بعد ما يقرب من شهر على بداية عملية “طوفان الأقصى”، مازالت إسرائيل تواصل هجومها على قطاع غزة، دون أن تحقق شيئًا من أهدافها الرئيسة.
تراجع خيار الاجتياح البري الشامل واحتلال قطاع غزة، وحَلَّت محله عمليات التوغل البري المحدودة، لتقليل الخسائر العسكرية، ولكن القوات الإسرائيلية تواجَه بمقاومة شديدة من مقاتلي حماس وسرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، الذين يوقعون خسائر يومية في الأفراد والمعدات الإسرائيلية.
وضع الإسرائيليون سقفًا عاليًا للحرب دون أن تكون لديهم خطة سياسية وعسكرية واضحة، ولهذا فإنهم يهيئون الرأي العام الإسرائيلي بين الحين والآخر لمفاجآت غير محسوبة في حربهم على غزة، بحديثهم عن حرب طويلة ومكلفة وقاسية.
وقد علقت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية على أداء حركة حماس في تصديها للعمليات البرية، فقالت إن “القوات المقاتلة بعيدة جدًّا عن الانكسار، ورغم التصفيات والاغتيالات، تنجح حماس في معظم الحالات في الحفاظ على طريقة قتال منظمة، تستند أساسًا إلى قتال الأنفاق والخروج من المكامن وإطلاق الصواريخ المضادة للدروع بجرأة”[1].
وعلى الجبهة الشمالية، مازال حزب الله اللبناني يتبادل الاستهدافات مع الجيش الإسرائيلي، ولم يتجاوز حتى الآن دور المساندة والإشغال والاستنزاف، للتخفيف عن قطاع غزة، ولكن دون الدخول في حرب شاملة، تمنعه من خوضها الظروف الداخلية في لبنان الذي توشك الأوضاع فيه على الانهيار.
وحتى نهاية الأسبوع الرابع من الحرب، لم تتحقق من “وحدة الساحات”، أو “وحدة جبهات المقاومة”، التي أعلنت عنها إيران، شيئًا، باستثناء عمليات رمزية، قامت بها قوات الحوثي والميليشيات التابعة لإيران، في سوريا والعراق، مستهدفة بها القوات الأمريكية ودولة الاحتلال. ولكنها لا ترقى إلى مرحلة الدخول في حرب شاملة مع إسرائيل، قد تورط إيران أو تعرضها لعمليات انتقامية من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل.
وعلى المستوى الإنساني، مازال قطاع غزة يتعرَّض لحصار شامل، وقطع للإمدادات عن المدنيّين، وهو الوضع الذي قالت عنه الأمم المتحدة إنه يرقى لمستوى العقاب الجماعي، وإن الضربات غير المتناسبة قد ترقى إلى مستوى جرائم حرب.
وَصَلت حصيلة الخسائر الفلسطينية، في 13 نوفمبر، إلى 11240 شهيدًا، وما يزيد عن 29 ألف جريح، وأكثر من 3500 مازالوا تحت الأنقاض، ومليون و640 ألف نازح، وبقاء ما يقرب من ربع السكان بلا مأوى، بعد أن تعرَّضت 50 بالمئة من الوحدات السكنية في قطاع غزة للتدمير، بسبب القصف، الذي استخدمت فيه إسرائيل 32 ألف طن من المتفجرات، وبما يساوي ضعفي قوة القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما. و195 شهيدًا في الضفة الغربية.
أمَّا حصيلة الخسائر في الجانب الإسرائيلي، فوصلت إلى 1538 قتيلًا، وأكثر من 7 آلاف جريح، و242 أسيرًا، و47 قتيلًا في معارك غزة، بحسب بيانات الجيش الإسرائيلي، وتدمير 180 دبابة ومدرعة وجارفة، وهروب 250 ألف مستوطن إلى خارج إسرائيل، ونزوح 500 ألف داخل إسرائيل. بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي يتوقع البعض وصولها إلى 50 مليار دولار.
2 – مصير حركة حماس
حددت إسرائيل أهدافها من عملية “السيوف الحديدية”، التي أطلقتها ضد حركة حماس في قطاع غزة، ردًّا على عملية “طوفان الأقصى”، وهي تدمير القدرة العسكرية للحركة والقضاء عليها، وإنهاء حكمها في غزة، والحصول على العودة الآمنة للأسرى.
ولكن كثيرًا من المتابعين يَرون أنه لا يمكن القضاء على حركة حماس كما أعلنت الحكومة الإسرائيلية، وأن الحركة سوف تبقى وتنهار حكومة بنيامين نتنياهو، وذلك لأسباب عديدة، منها ما يأتي:
- أن حركة حماس أصبحت رمزًا عمليًّا ومعنويًّا لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
- أن المقاومة انتصرت بالفعل، بعد عمليتها المركبة والمتقدمة في 7 أكتوبر.
- أن بقاء حركة حماس، رغم أي خسائر تلحق بها، هو انتصار في حد ذاته.
- أن حديث إسرائيل عن القضاء الكامل على حماس لا يعني بالضرورة تحقيقه على الأرض، لأنها سبق أن تعهدت بالقضاء عليها في 2008 و2014، ولم تستطع الوفاء بتعهدها.
- أن القوة العسكرية لا تقضي على الجماعات القائمة على الأفكار والأيديولوجيات.
وفي تطور جديد للأحداث، بدأت الولايات المتحدة وإسرائيل في الحديث عن الأوضاع بعد القضاء الكامل على حركة حماس، والانتقال إلى مرحلة ما بعد الحركة في قطاع غزة.
ولكن الوصول إلى هذه المرحلة، يحتاج إلى تحقيق النصر العسكري، وهو أمر لم يتحقق لإسرائيل حتى الآن، وثمَّة شك في إمكانية تحقيقه، للأسباب الآتية:
- أن الجيش الإسرائيلي لم يعد بقوته في الماضي، لينتصر على حركة حماس في حرب مدن، مثل اقتحام غزة بريًّا، وهو ما يحرمه من الانتصار القاطع.
- أن المقاومة استعدت على مدار عامين لهذه المعركة، ولديها خبرة كبيرة في كيفية مقاتلة الإسرائيليّين، وأعدت نفسها لمعركة برية، ولديها ما يكفيها لمواصلة القتال.
- أن الآلاف من جنود الاحتياط الإسرائيليّين لا يتمتعون بالقدرات القتالية المطلوبة.
- أن المقاومة مازالت صامدة، وتقاتل القوات الإسرائيلية التي تحاول اجتياح القطاع من عدة محاور.
هذا بالإضافة إلى أن القضاء على حماس مرهون بفصل الحركة من حاضنتها الشعبية، عن طريق الضغط على الشعب الفلسطيني للانفضاض عن المقاومة، من خلال الوقيعة بين هذه الحاضنة والمقاومة، بالحديث عن تضحيات الشعب الفلسطيني وصموده على أرض غزة، بينما المقاومة تختبئ في الأنفاق. وهو ما تكذبه تضحيات المقاومين وبطولاتهم في القتال.
أو عن طريق تهجير هذ الشعب إلى خارج قطاع غزة، لحرمان الحركة من السكان الذين يخرجون منهم، وهو أمر يصعب تحقيقه عمليًّا، وسوف تظل هذه الحاضنة الشعبية بيئة ملائمة لظهور جيل جديد من المقاومة في حالة القضاء على الجيل الحالي من المقاومين، يستلهم التجربة السابقة ويبني عليها.
وبناءً عليه، فإن القضاء على قدرة حماس العسكرية في قطاع غزة لا يَعني القضاء على الحركة تمامًا، لأنها حركة تقوم على أيديولوجية تعتنقها أجيال متعاقبة، ولها جذور تمتد في أعماق المجتمع الفلسطيني، وتمتلك حاضنة شعبية تسمح لها بالعودة إلى المشهد إذا أقصيت منه في مرحلةٍ ما.
3 – مستقبل قطاع غزة
تسعى إسرائيل والولايات المتحدة والغرب إلى تكوين توافق إقليمي دولي لتغيير شكل إدارة قطاع غزة بعد انتهاء الحرب بين المقاومة وإسرائيل، على افتراض منهم بأن إسرائيل سوف تخرج من الحرب منتصرة انتصارًا كاملًا على حركة حماس، وخوفًا من حدوث حالة فراغ في القطاع في حال انسحاب إسرائيل بعد تحقيق أهدافها العسكرية، وتحوله إلى مصدر تهديد، كما حدث في أفغانستان من قبل.
ولكن هذه المساعي تبدو بعيدة عن الواقعية السياسية، ولا يمكن تطبيقها لأنها تتجاهل أمرين: أولهما هو رأي سكان غزة، الذين هم أصحاب الحق في اختيار مَن يحكمهم ويدير شؤونهم على أرضهم، وثانيهما هو أن سيناريوهات المواجهة العسكرية هي التي سوف تحدد المشهد السياسي المقبل في غزة.
- الرؤية الإسرائيلية
لم تدخل إسرائيل الحرب ضد المقاومة الفلسطينية برؤية واضحة لمستقبل قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، خاصَّة وأن هدفها هو الانتقام من حركة حماس والقضاء عليها وإسقاط حكمها للقطاع.
وبعد ما يقرب من أسبوعين على بداية الحرب، أشار وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، إلى أن الخطوة الأخيرة من الحرب “ستكون إنشاء نظام أمني جديد في قطاع غزة، وإزالة مسؤولية إسرائيل عن الحياة اليومية في القطاع، وخلق واقع أمني جديد لمواطني إسرائيل وسكان غلاف غزة”. ولكنه لم يوضح ما يعنيه بـ”نظام أمني جديد”[2].
يشعر الأمريكيّون بالقلق من عدم وضع إسرائيل استراتيجية للخروج من “مستنقع غزة”، ويختلف الطرفان حول استلام السلطة الفلسطينية للحكم في قطاع غزة، في حال تمكن جيش الاحتلال من القضاء على حركة حماس، بسبب موقف المتطرفين الإسرائيليّين من السلطة.
- الرؤية الأمريكية
تُجرِي الولايات المتحدة مباحثات مع جهات إقليمية ودولية، للتوافق على طريقةٍ لإدارة قطاع غزة، حال “نجاح الكيان الصهيوني في إسقاط حكم حركة حماس للقطاع”.
وثمَّة خيارات أمام الإدارة الأمريكية، التي ترى أن الوضع الذي تتولى فيه حماس المسؤولية في القطاع المزدحم بالسكان لا يمكن أن يستمر، وتنفي وجود خطط لنشر قوات أمريكية على الأرض في قطاع غزة. ولكنها لم تبلور رؤية نهائية واضحة المعالم لكيفية إدارة القطاع بعد القضاء على حماس.
وأول هذه الخيارات هو عودة السلطة الفلسطينية لإدارة قطاع غزة، كما كان عليه الحال قبل سيطرة حماس على القطاع في 2007. ولكن واشنطن تدرك أن هناك عقبات تحول دون الاعتماد على السلطة في خلافة حماس بالقطاع، لأنها ضعيفة وتفتقر إلى المصداقية بين كثير من الفلسطينيّين، الأمر الذي يتطلب تعزيزًا سياسيًّا وماليًّا للسلطة، من خلال إعادة إطلاق عملية سياسية ذات معنى بينها وبين إسرائيل، وتوفير دعم مالي كبير لإعادة إعمار القطاع بعد الحرب.
وفي حالة الفشل في تمكين السلطة الفلسطينية من إدارة قطاع غزة، فإن البديل لدى أمريكا هو إيجاد ترتيبات مؤقتة، تشمل عددًا من الدول الأخرى في المنطقة. وقد تشمل وكالات دولية تساعد في توفير الأمن والحكم.
فمِن بين الخيارات البديلة التي تدرسها واشنطن، تشكيل حكومة فلسطينية مؤقتة، مدعومة بدور من دول عربية، لملء الفراغ الأمني والإداري، أو نشر قوة متعددة الجنسيات، تشمل مزيجًا من دول أوروبية وعربية، وقد تضم قوات أمريكية، أو وضع غزة تحت إشراف الأمم المتحدة بشكل مؤقت قبل أن تتولى سلطة فلسطينية فعَّالة ومتجددة حكم القطاع[3].
- الرؤية الأوروبية
اقترحت وثيقة ألمانية تشكيل تحالف دولي يُدير قطاع غزة، بالتعاون مع الأمم المتحدة، وجاء في الوثيقة التي وزعت على عدد من الدول الأوروبية أن التحالف الدولي سوف يتولى مسؤولية تأمين غزة بعد الحرب، وتفكيك أنظمة الأنفاق وتهريب الأسلحة إلى القطاع وتجفيف منابع دعم حركة حماس ماليًّا وسياسيًّا[4].
4 – المواقف الفلسطينية والعربية
عبَّرت حركة حماس والسلطة الفلسطينية عن موقفين متباينين في جوهرهما، تجاه ما يَدور من مباحثات حول مستقبل قطاع غزة بعد القضاء على المقاومة وإسقاط حكمها في القطاع. بينما لم يَصدر رد فعل رسمي أو علني عن الأنظمة الحاكمة في مصر وأغلب العالم العربي، والتي لا ترغب في بقاء حماس، ولكن لا يمكنها في الوقت نفسه التصريح بموقفها من الحركة، وبما يَدور بينها وبين الولايات المتحدة من مباحثات حول استبدال حكمها في القطاع.
- موقف حركة حماس
رفضت حركة حماس التقارير التي تحدثت عن وجود مفاوضات تقودها الولايات المتحدة لبحث مستقبل قطاع غزة بعد إنهاء سيطرة الحركة عليه، ووَصَفت الأمر بأنه “وصاية وقحة وتدخل” من واشنطن في الشؤون الفلسطينية.
واستبعدت الحركة إمكانية تحقيق المساعي الأمريكية لانتزاعها من أرضها، لأن ذلك يرتبط بهزيمتها في الحرب، وهو ما لم يحدث، لأنها مازالت تقاتل على جميع الجبهات، وتوقع خسائر كبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية التي لم تتمكن من شيء باستثناء قتل المدنيّين وقصف القطاع من الجو.
وقد أدخلت الحركة الشعب الفلسطيني في مواجهتها للمخططات الأمريكية حول تقويض تواجدها في القطاع، فأعلنت أن الشعب سوف يتصدى لهذه المحاولات – التي تحاول صناعة واقع جديد على مقاس الاحتلال – بكل قوة. وأكدت أن قرار ترتيب الوضع الفلسطيني “هو قرار الشعب الفلسطيني، وهو وحده القادر على تحديد مصيره ومستقبله ومصالحه”[5].
كذلك، حذرت الحركة من التورط في هذه المخططات، لأن الشعب الفلسطيني لن يقبل بحكومة عميلة، تأتي على دبابة إسرائيلية أو أمريكية[6]. وهي رسالة موجهة إلى السلطة الفلسطينية، التي استقبلت وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، وتباحثت معه حول تولي مسؤولية إدارة قطاع غزة.
- موقف السلطة الفلسطينية
على الرغم من تأييد السلطة الفلسطينية حق الشعب الفلسطيني “في الدفاع عن نفسه في مواجهة إرهاب المستوطنين والقوات الإسرائيلية، إلَّا أنها لن ترفض المشاركة في أي سيناريو لإعادة تشكيل وضع القطاع، إذا توفر لهذا السيناريو شرطان يُحققان لها مصلحتها: أولهما القضاء على حركة حماس أو إضعافها، والتخلص منها كمنافس قوي على زعامة الشعب الفلسطيني وتمثيله، وثانيهما ضمان رجوعها إلى حكم القطاع والسيطرة عليه ضمن دولة فلسطينية، بغض النظر عن الحقوق السيادية لهذه الدولة.
ويمكن استنتاج موقف السلطة من خلال ردود أفعال مسؤوليها على المقترحات التي تحدثت عن مستقبل قطاع غزة بعد القضاء على سلطة حماس، والذين تجاهلوا موضوع القضاء على المقاومة الفلسطينية وتدمير القطاع وقتل المدنيّين، واهتموا بتوضيح أحقية السلطة في التواجد ضمن أي حوار حول مستقبل القطاع، وعرضوا شرطهم لإدارته.
جاء أول رد فعل للسلطة من خلال سفيرها لدى الاتحاد الأوروبي، عبد الرحمن الفرا، الذي أكَّد رفض الفلسطينيّين لما يُثار عن وجود مخطط أوروبي لتدويل القطاع.
واستند السفير الفلسطيني في رفضه للمخطط الأوروبي إلى أن الأوربيّين لم يتشاوروا مع السلطة الفلسطينية، ولم يرجعوا إلى “منظمة التحرير”، بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني[7].
كذلك، تجاوز رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد أشتية، موضوع المقاومة، ووافق على عودة السلطة إلى غزة، ولكن من خلال اتفاق يشمل الضفة الغربية ضمن دولة فلسطينية[8].
وكان الرئيس الفلسطيني، محمود عبَّاس، قد ربط بعد لقائه بوزير الخارجية الأمريكي، بين عودة السلطة لإدارة القطاع ووجود حَلّ سياسي، يضمن للسلطة حكم دولة فلسطينية تتكون من الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة.
وقد بدأت السلطة في تسويق موقفها كعمل وطني لخدمة أهل غزة، ينبع من موقع مسؤولية منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف الدولي بها كممثل للشعب الفلسطيني، وفق قرارات الشرعية الدولية، وهو ما ذكره ياسر أبو سيدو، عضو المجلس الاستشاري لحركة فتح، الذي قال إن موقف محمود عبَّاس محل توافق عربي، باعتباره حلًّا لمواجهة سيناريوهات تواجد قوات أجنبية في قطاع غزة.
ولهذا؛ من المتوقع أن تتجاوب السلطة الفلسطينية مع أي طرح من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، وتنتهز الفرصة للحلول محل حماس في قطاع غزة، خاصَّة أنها لا تمتلك الشعبية التي تعيدها لحكم القطاع على أساس الانتخابات والإرادة الشعبية، بحسب إحصائية صادرة عن المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، في سبتمبر 2023، أظهرت أن 62 بالمئة من الفلسطينيّين يَرون أن “السلطة الفلسطينية أصبحت عبئًا على الشعب الفلسطيني”، بينما أعرب 58 بالمئة عن تأييدهم “العودة إلى المواجهات والانتفاضة المسلحة”[9].
- الموقف المصري
لم يصدر رد فعل رسمي من القاهرة على ما أثير حول عودة قطاع غزة إلى الإدارة المصرية، أو مشاركة مصر في إدارة دولية مقترحة للقطاع. وذلك على الرغم من أن هذا الأمر طرح بعد 10 أيام فقط من الحرب، على لسان مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، جون بولتون، الذي قال إن حماس ستدمر من قبل إسرائيل، وحينها ستتدخل القيادة الفلسطينية لإدارة غزة وتعمل مع الحكومة المصرية، لإيجاد طريقة لإدماج سكان غزة في الاقتصاد المصري[10].
ولكن قناة “العربية” نقلت عن مصادر قولها إن الحكومة المصرية “رفضت مقترحًا بأن تتم إدارة غزة بمشاركة إسرائيلية – دولية في المستقبل”، ثم ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن السيسي رفض خلال لقائه مدير وكالة المخابرات المركزية، وليام بيرنز، مقترح مراقبة الأمن في قطاع غزة. ونقلت عن مصادر أن السيسي أبلغ بيرنز أن بلاده لا تعتزم المشاركة في القضاء على حماس، لأنها تحتاج إلى هذه الجماعة المسلحة لحماية حدودها مع قطاع غزة[11].
وكانت دعوات قد ظهرت في الإعلام العبري، تطالب بإعادة إدارة قطاع غزة لمصر، كبديل لتهجير الفلسطينيّين إلى شمال سيناء؛ لأن المصريّين هم الوحيدون الذين عرفوا كيف يفرضون الحكم في غزة، كما عرفوا كيف يُحيّدون الإخوان المسلمين في مصر نفسها.
وللتغلب على الرفض المتوقع من القاهرة لاستلام إدارة القطاع، يقترح إسرائيليون استغلال الأزمة الاقتصادية في مصر، وتحويل القضية إلى مفاوضات “تجارية”، حول تقديم مساعدات مالية كبيرة[12].
- الموقف الأردني
رفض الأردن، على لسان وزير خارجيته، أيمن الصفدي، أي حديث عن إدارة غزة ما بعد الحرب عبر قوات عربية أو غير عربية، مشددًا على أن حماس فكرة لا تنتهي، ومَن يريد وضعًا مغايرًا عليه تلبية حقوق الشعب الفلسطيني[13].
وأضاف الصفدي أن الأردن يرفض أي حديث أو سيناريوهات يتحدث بها البعض عن مرحلة ما بعد غزة وانتهاء الحرب عليها، معتبرًا أن ما يطرح من سيناريوهات في هذا السياق “غير واقعي ومرفوض ولا يتعامل معها الأردن”.
- الموقف العربي
لم يصدر عن الدول العربية ردود فعل رسمية على ما يصدر من تقارير حول مباحثات بين الولايات المتحدة ودول المنطقة من أجل تغيير شكل السلطة في قطاع غزة، ورغبة واشنطن في الاستعانة بدول من المنطقة في مساعدة السلطة الجديدة بالقطاع.
لن تخرج هذه الدول بموقف رسمي تعلن من خلاله موافقتها على مخططات الولايات المتحدة، لأن هذا يعني موافقتها الضمنية على استمرار الحرب إلى أن يتم القضاء على حركة حماس، وهو شرط تكوين سلطة جديدة في قطاع غزة.
ولكن صمت الدول التي ورد اسمها في مباحثات الولايات المتحدة حول مستقبل القطاع، ومنها الإمارات والسعودية، يؤكد أنها لن ترفض المشاركة في ترتيبات وضع القطاع إذا ما استطاعت إسرائيل القضاء على حماس، رغم إعلانها الوقوف مع الشعب الفلسطيني ضد العدوان.
وقد كشف الدبلوماسي الأمريكي السابق، دنيس روس، أن إسرائيل وأمريكا ليستا الوحيدتين اللتين ترغبان في تدمير حركة حماس، وأشار إلى أنه قد لمس خلال محادثات مع مسؤولين بدول عربية رغبة لدى قادة عرب في القضاء على الحركة. ونقل روس عمَّن التقاهم قولهم إنه “إذا اعتبرت حماس منتصرة، فإن ذلك سيُضفي الشرعية على أيديولوجية الرفض التي تتبناها الجماعة، ويُعطِي نفوذًا وزخمًا لإيران والمتعاونين معها، ويَضع حكوماتهم في موقف دفاعي”[14].
5 – سيناريوهات المواجهة
على ضوء المعطيات الراهنة، والتي يمكن أن تتغير في أي لحظة، يمكن القول إن مستقبل حركة حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، ومِن ثمَّ مستقبل قطاع غزة، يَرتبطان بأحد السيناريوهات المحتملة الآتية:
سيناريو (1): انتصار حركة حماس
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
انتصار حركة حماس على إسرائيل. | صمود المقاومة وعدم انكسارها أو تخليها عن مواقعها، وامتلاكها عناصر للمناورة والمفاجأة والمبادرة.إحداث خسائر كبيرة في القوات المتوغلة في قطاع غزة، وإحداث أزمة في الجيش الإسرائيلي والجبهة الداخلية المنقسمة داخل دولة الاحتلال.بقاء الجبهة الداخلية للفلسطينيّين في قطاع غزة متماسكة، ورفض النزوح الجماعي إلى خارج القطاع.زيادة الضغوط العالمية على إسرائيل من أجل وقف استهداف المدنيّين.تمكن الدول المتعاطفة مع الفلسطينيّين من إيصال المساعدات إلى قطاع غزة.اشتباك باقي جبهات المقاومة بالمنطقة مع إسرائيل، خاصَّة حزب الله، اشتباكًا حقيقيًّا وتهديد أمن إسرائيل ومصالح الولايات المتحدة تهديدًا جادًّا. | فشل إسرائيل في تحقيق هدفها المعلن وهو القضاء على المقاومة. توقف الحرب، والدخول في مفاوضات، تعقبها هدنة بين الطرفين.بقاء الوضع على ما هو عليه في قطاع غزة واستمرار سيطرة حركة حماس على السلطة.تشديد الحصار على القطاع، والعمل على تقليص قوة حماس ومحاصرة مصادرها وأنشطتها على مستوى العالم. |
سيناريو (2): انتصار إسرائيل
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
انتصار إسرائيل على المقاومة الفلسطينية. | انكسار المقاومة وتخليها عن مواقعها وحدوث خسائر كبيرة في صفوفها.تطوير الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، واحتلال أجزاء منه.تدمير البنية التحتية للمقاومة وتكبدهاخسائر تفقدها القدرة على المواجهة.اضطرار الفلسطينيّين إلى النزوح خارج القطاع، وحرمان المقاومة من الغطاء الشعبي.تشديد حصار القطاع وحرمانه من احتياجاته الضرورية، وعدم تمكن المقاومة من تعويض خسائرها.تخلي إيران وجبهات المقاومة عن نصرة المقاومة الفلسطينية واكتفائها بالمشاركة الرمزية في الأحداث.استمرار الدعم الغربي لإسرائيل، وإيغال الجيش الإسرائيلي في قصف غزة واستهداف المدنيّين.صمود الجبهة الداخلية في إسرائيل ووقوفها خلف حكومة بنيامين نتنياهو، وتقبل خسائر المواجهة مع حماس في سبيل القضاء على خطر المقاومة. | تحقيق إسرائيل لهدفها المعلن من الحرب وهو القضاء على المقاومة. انهيار صمود المقاومة وتوقفهاعن القتال.إسقاط سلطة حماس في القطاع، والبدء في إقامة سلطة جديدة. |
سيناريو (3): الحرب المفتوحة
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
الدخول في حرب مفتوحة، أو حرب استنزاف طويلة الأمد. | فشل إسرائيل في تحقيق هدف القضاء الكامل على المقاومة الفلسطينية.فشل المقاومة في تكبيد إسرائيل خسائر فادحة تجبرها على إيقاف الحرب.عدم إقدام إسرائيل على اجتياح كامل لقطاع غزة، والاكتفاء بالتوغل الجزئي السريع.تمكن المقاومة من التصدي للعمليات الإسرائيلية واحتفاظها بالقدرة على المناورة والمفاجأة.استمرار المناوشات من جانب جبهات المقاومة بالمنطقة، وبقائها على استعداد للدخول في حرب مع إسرائيل والولايات المتحدة.قدرة المقاومة على التمسُّك بأوراق الضغط، وأهمها الاحتفاظ بالأسرى، وفشل إسرائيل والولايات المتحدة في الوصول إليهم.فشل إسرائيل في تهجير الفلسطينيّين من قطاع غزة، وبقاء الكتلة السكانية التي تدعم المقاومة وتعيق الاجتياح البري.وجود حالة من التوازن بين الدعم الدولي الحكومي لإسرائيل والدعم الدولي الشعبي للمقاومة، وهو ما يمكن أن يَحد من تغوُّل إسرائيل في استهداف المدنيّين.رغبة بنيامين نتنياهو في إطالة أمد الحرب، حتى لا يصل إلى مرحلة المحاسبة التي تنتظره، والتي سوف تقضي على مستقبله السياسي. | استمرار الحرب بين الطرفين.تمسُّك إسرائيل والولايات المتحدة برفض التهدئة والهدنة الطويلة.بقاء الوضع على ما هو عليه بقطاع غزة، واستمرار سيطرة حركة حماس على السلطة فيه.تشديد الحصار على القطاع، والعمل على تقليص قوة حماس ومحاصرة مصادرها وأنشطتها على مستوى العالم. |
سيناريو (4): التهدئة والهدنة الطويلة
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
الدخول في مفاوضات تسفر عن تهدئة وهدنة طويلة بين المقاومة وإسرائيل. | صمود المقاومة، وعجز إسرائيل عن تحقيق نصر حاسم يستحق تحمل الخسائر التي تؤثر على سمعة الجيش الإسرائيلي والجبهة الداخلية في دولة الاحتلال.اقتناع إسرائيل والولايات المتحدة بأن المواجهة العسكرية لن تقضي على حركة أيديولوجية، والبدء في إجراءات جديدة للحد من قوة حماس، تشتمل على تشديد الحصار على قطاع غزة، وتجفيف منابع الحركة، والضغط على الدول المتعاطفة معها أو المساعدة لها، مثل قطر وتركيا.نجاح الجهود المبذولة من جانب الدول الساعية للتهدئة، وعلى رأسها قطر.موافقة إسرائيل والولايات المتحدة على الهدنة، وعدم التمسُّك بالهدنة الإنسانية التي يعقبها استئناف القتال.موافقة حركة حماس على الشروط الإسرائيلية والأمريكية للهدنة، وأهمها الإفراج عن الأسرى.الضغوط التي تتعرض لها الولايات المتحدة من الداخل والخارج من أجل وقف إطلاق النار في غزة. | توقف الحرب، والدخول في هدنة.فتح المعابر لدخول المساعدات إلى قطاع غزة.بقاء الوضع في قطاع غزة على ما هو عليه من حيث شكل السلطة وسيطرة حماس عليها.تشديد الحصار على القطاع، والعمل على تقليص قوة حماس ومحاصرة مصادرها وأنشطتها على مستوى العالم. |
يُمكن القول إن السيناريو الثالث، وهو الدخول في حرب مفتوحة، تحاول إسرائيل من خلالها إطالة أمد المواجهة، من أجل إنهاك المقاومة الفلسطينية واستنزافها، وتكبيدها خسائر لا يمكن تعويضها في ظِل الحصار المفروض على قطاع غزة، هو السيناريو الأرجح والأقرب للحدوث حتى الآن.
فهذا السيناريو يُجنب إسرائيل مخاطر الهجوم البري الشامل، ويُتيح لها الفرصة للضغط على حماس، وتدمير أكبر قدر ممكن من قدراتها وإمكانياتها، لمنعها من القيام بأي عمل ضد إسرائيل على المدى البعيد، أو المتوسط على أقل تقدير.
وبالتوازي مع الحرب المفتوحة في ميادين القتال، سوف تشن الولايات المتحدة وإسرائيل حربًا أخرى، تستهدف بها حركة حماس، على المستويين الإقليمي والدولي، لمحاصرة مصادر تمويل الحركة وتسليحها، وتجفيف منابع المساعدة بكل أشكالها، ومنها المساعدة السياسية، عبر “دعشنة” الحركة ووَصمها بالإرهاب، وتكوين جبهة إقليمية ودولية ضدها.
ولكن استمرار هذا السيناريو مرهون بتراجع قدرة المقاومة على تهديد أمن إسرائيل، وحجم الخسائر الاقتصادية والأمنية التي سوف تتكبدها دولة الاحتلال، والتي يمكن أن تزيد من الانقسامات والاضطرابات الداخلية.
ويُعزز من اختيار هذا السيناريو وترجيحه، عدة معطيات، قد تتغير بتغير الأوضاع الميدانية والخيارات المتاحة لدى القوى المعنية بالصراع، لننتقل منه إلى سيناريو آخر، ومنها ما يأتي:
- صعوبة تحقيق السيناريو الأول، وهو الانتصار الكامل للمقاومة، وإجبار إسرائيل على وقف القتال، في ظِل محاصرة قطاع غزة، واستمرار جيش الاحتلال في قصف القطاع واستهداف كل شيء فيه، بغطاء أوروبي ودولي، وربما بمساعدة إقليمية وعربية غير معلنة.
- صعوبة تحقق السيناريو الثاني، وهو الانتصار الكامل لإسرائيل، نظرًا لصمود المقاومة بعد ما يقرب من شهر على بدء القتال، ومنذ أن قامت بعملية “طوفان الأقصى”، وقيامها بعمليات تدل على احتفاظها بقدرتها على المناورة والمفاجأة والتصدي للجيش الإسرائيلي حتى الآن.
إضافة إلى أن إسرائيل لم تتمكن – حتى الآن – إلَّا من “الانتقام” من المدنيّين الذين لم يستجيبوا لدعوات النزوح من القطاع، وهو ما يؤثر على الدعم الدولي لها، الأمر الذي لا يمكن استمراره مع زيادة أعداد الشهداء من المدنيّين في الجانب الفلسطيني، وزيادة الدعم الشعبي والنخبوي للفلسطينيّين في أمريكا وأوروبا.
- صعوبة تحقق السيناريو الرابع، حتى الآن، وهو الهدنة الدائمة، لتمسُّك كل طرف بشروطه. فإسرائيل والولايات المتحدة يريدان هدنة “إنسانية”، لعدة ساعات، يسبقها الإفراج عن أسرى، من أجل إدخال المساعدات إلى قطاع غزة، بشرط التدقيق في كيفية توزيعها، خاصَّة الوقود، حتى لا يصل إلى المقاومة لاستغلاله في العمليات الحربية، وعدم انتقال الفلسطينيّين من جنوب القطاع إلى شماله، لإبقاء المناطق الشمالية خالية من السكان، لتسهيل مهمة القوات الإسرائيلية والضغط على المناطق الجنوبية التي نزح إليها الفلسطينيون.
أما سيناريو الهدنة “الطويلة”، فهو ليس مطروحًا الآن من جانب إسرائيل والولايات المتحدة، لاشتراط إسرائيل عودة جميع الأسرى لدى المقاومة، دون التزام منها بأي شيء، ولعدم قدرة الحكومة الإسرائيلية على اتخاذ قرار بإيقاف الحرب قبل تحقيق نصر ملموس، يمكن تسويقه داخليًّا، لإنقاذ الحكومة وقيادات الدولة من المحاسبة على التراجع أمام المقاومة.
6 – السيناريو الأسوأ ومآلاته
لا شك أن السيناريو الأسوأ بالنسبة للمقاومة هو السيناريو الثاني، الذي يدور حول انتصار إسرائيل؛ لأن هذا الانتصار يَعني تدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، وإفقادها القدرة على مواجهة قوات الاحتلال، وتغيير شكل السلطة في قطاع غزة.
والانتصار الذي تريده إسرائيل انتصار صفري، يهدف إلى إغلاق ملف المقاومة، وتستند في محاولة تحقيقه إلى وجود ضوء أخضر أمريكي وغربي باستخدام القوة ضد قطاع غزة دون خطوط حمراء، وجسر جوي ينقل إليها الأسلحة المتطورة والخبراء والمتطوعين، وتواجد غربي لردع أي جهة إقليمية تريد التدخل في الحرب، ودعم مالي كبير، وماكينة إعلامية غربية متعاطفة مع الاحتلال.
ويمكن أن نضيف إلى كل ذلك، التواطؤ العربي المتمثل في مواقف الحكومات العربية الضعيفة، التي تريد القضاء على المقاومة المسلحة، وتتهاون في الضغط من أجل وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لسكان القطاع.
ولهذا، يَرى البعض أنه يمكن لإسرائيل من خلال هذا السيناريو، تكرار ما فعلته بعد غزو لبنان، في 1982، والوصول إلى اتفاق بين الدول المعنية، يقضي بخروج قادة حركة حماس من القطاع إلى دولة أخرى، كما تمَّ ترحيل قادة منظمة التحرير الفلسطينية في الماضي إلى تونس. وقد تكون هذه الدولة قطر، وعبر مساعدة مصرية[15].
لا توجد دلائل حتى الآن على إمكانية تحقق هذا السيناريو، بسبب صمود المقاومة في مواجهتها للقوات الإسرائيلية، واحتفاظها بمَن في يدها من الأسرى، وتراجع إمكانية الاجتياح البري الشامل لقطاع غزة، واستبعاد خيار احتلال القطاع، ورفض مصر والأردن تهجير الفلسطينيّين خارج أرضهم حتى الآن.
ولكن انتصار إسرائيل وتحقيقها الأهداف التي تسعى لتحقيقها يَعنيان خروج المقاومة من المعركة مع إسرائيل لأجل غير مسمى. وفي هذا الحالة، سوف يكون لتحقق هذا السيناريو مآلات، وسوف تطال آثاره جميع الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية في المنطقة.
- حركة حماس
سوف تظل الحركة موجودة، ومن غير المنتظر أن تنتهي مواجهتها للاحتلال بالكلية، وهو ما يمكن أن نستدل عليه بشواهد، منها أن الحركة موجودة في الضفة الغربية رغم تواجد قوات الاحتلال والتضييق الذي تمارسه ضدها السلطة الفلسطينية. وكذلك كان الأمر في الماضي، حينما كانت الحركة تواجه قوات الاحتلال داخل القطاع قبل 2005.
ولكن القضاء على قوة حماس بقطاع غزة، سوف يُفقِد الحركة القدرة على القيام بعمليات مؤثرة ضد الاحتلال، ويشغلها بنفسها فترة من الوقت، تحتاج فيه إلى إعادة التموضع.
ومن المنتظر أن تواجه حركة حماس حالة من الحصار غير المسبوق، على المستويين: الداخلي والخارجي، ضمن سياسة تجفيف المنابع، التي سوف تنتهجها إسرائيل والولايات المتحدة والغرب، بالتعاون مع السلطة الفلسطينية والقوى الإقليمية، لمنع الحركة من استعادة قوتها والوصول إلى الحالة التي كانت عليها قبل عملية “طوفان الأقصى”.
- السلطة الفلسطينية
تعد السلطة الفلسطينية أحد المستفيدين من القضاء على حركة حماس، لأن انتصار الحركة يعني تفكك السلطة وانهيارها، بعد أن فقدت مشروعيتها القائمة على المسار السلمي، الذي لم يحقق شيئًا للقضية الفلسطينية، وتحولت إلى أداة أمنية لردع حِراك الشارع الفلسطيني ومحاصرة المقاومة.
وسوف تُمهد إزاحة حركة حماس الطريق للسلطة الفلسطينية للعودة إلى قطاع غزة والسيطرة عليه، رغم تراجع شعبيتها، بسبب عجزها عن تقديم أي إنجاز للفلسطينيّين، وتعاونها الأمني مع تل أبيب، في مقابل المقاومة المسلحة التي تتعامل مع الاحتلال معاملة الأنداد.
ومع رجوع السلطة إلى غزة، سوف تتحول إلى بديل للاحتلال، من خلال التعاون الأمني معه، لمنع حركة حماس من إعادة بناء قوتها والدخول في مواجهة مع الاحتلال مرة أخرى، وضبط الشارع الفلسطيني والسيطرة عليه من خلال القمع.
وفي سبيل إضعاف دور حماس، سوف تتخذ الولايات المتحدة وإسرائيل إجراءات من أجل تقوية دور السلطة الذي تمَّ تهميشه في الفترة الماضية، خاصَّة في ظِل الحكومات اليمينية في إسرائيل، والتي لا تؤمن بحَل الدولتين الذي قامت عليه عملية التسوية السلمية.
وقد يكون تسليم القطاع إلى السلطة الفلسطينية بداية لتنفيذ بنود صفقة القرن بالقوة، وبفرض الأمر الواقع، وذلك بضم غور الأردن والمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية التي تستحوذ على أكثر من 43 بالمئة من أراضي الضفة لإسرائيل، وإقامة حكم ذاتي فلسطيني يسيطر على كنتونات جغرافية غير متصلة[16].
- إسرائيل
سوف يؤدي انتصار إسرائيل إلى تشديد قبضة اليمين الإسرائيلي لسنوات قادمة، وهو ما يعني استمرار الانتهاكات التي يتعرَّض لها الفلسطينيون والأماكن المقدسة، واستبعاد الوصول إلى حل الدولتين الذي يرفضه المتطرفون الإسرائيليون.
وقد ذكر مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، جون بولتون، أن مقاربة حَل الدولتين فشلت، وأن من مصلحة الفلسطينيّين – بعد الانتهاء من أمر حماس – أن تكون لهم فرص اقتصادية وبعض الحرية السياسية، وهذا يَعني إدماجهم ضمن سيادات دول أخرى.
ويمكن لإسرائيل أن تستغل تحييد دور المقاومة في تحقيق خطة التقسيم المكاني للمسجد الأقصى، وتوسيع التقسيم الزماني للمتشددين اليهود، وتسريع خطة تهويد المسجد الأقصى.
وعلى مستوى الإقليم، سوف تستعيد إسرائيل صورتها كدولة قادرة على الردع، بعد استخدامها لأقصى درجات العنف العسكري في تعاملها مع حركات المقاومة.
وفيما يخص التطبيع، فإن خروج المقاومة من المشهد، سيمهد الطريق لاستئناف عملية التطبيع، ودمج إسرائيل في المنطقة، بعد الترويج من جانب الأنظمة العربية لفشل حَل المقاومة.
- إيران ومحور المقاومة
بَنت إيران دعايتها حول دعم محور المقاومة، على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وتحرير القدس. وقد سَنحت لها الفرصة لإثبات جدية هذه الدعاية من خلال المشاركة الكاملة في الحرب التي تشن على قطاع غزة، عبر أذرعها المسلحة، وعلى رأسها حزب الله اللبناني، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
وإذا ما وقفت إيران موقف المتفرج إلى أن تنتصر إسرائيل على حركة حماس، فسوف تسقط الدعاية الإيرانية، وهو ما سوف يؤثر على مصداقية إيران ومكانتها الإقليمية، ويقوض بشكل كبير الاستراتيجية التي تتبعها طهران منذ أكثر من أربعة عقود، والمتعلقة ببسط نفوذها وتعزيزه في المنطقة بواسطة الجماعات المسلحة التي تعمل بالوكالة، من حزب الله في لبنان إلى الحوثيّين في اليمن. وذلك بعد أن تلتفت إسرائيل لحزب الله، لمنعه من تكرار ما فعلته حركة حماس.
كذلك، سوف تزيد الولايات المتحدة وإسرائيل من جهودهما في مواجهة الميليشيات الشيعية المسلحة في العراق وسوريا والحوثيّين في اليمن، بعد أن أثبتت قدرتها على القيام بعمليات تهدد أمن دولة الاحتلال.
وسوف يؤدي ذلك إلى تراجع المشروع الإيراني، في مقابل المشروع الإسرائيلي الذي سوف يتمدد بالمنطقة، من خلال التطبيع، ليصل إلى حدود إيران ويحاصرها عن قرب، من خلال التطبيع مع الدول الخليجية، وعلى رأسها الإمارات والسعودية، وهو ما يمكن أن يحيي مشروع التحالف الإقليمي المضاد لإيران، بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة إسرائيل.
وعلى المستوى الداخلي، سوف يؤدي سقوط حماس إلى حدوث خلافات داخلية في إيران، بعد أن يتعرض النظام الإيراني لاتهامات من جانب المعارضة والشارع الإيراني المضطرب بإنفاق الأموال الإيرانية على جماعة لم تستطع الصمود في وجه إسرائيل.
- مصر
لا يمكن تنفيذ السيناريو الأسوأ بالنسبة للفلسطينيّين بدون أن تتداخل مصر في تنفيذه، أو أن تتأثر به، لأنه يعتمد في جزء منه على محاصرة قطاع غزة، وتهجير الفلسطينيّين إلى شمال سيناء، أو إشراك مصر في تحمل مسؤولية إدارة القطاع.
وعلى الرغم من خطورة الدور المطلوب من مصر في حالة انتصار إسرائيل، والتهديد الذي يمكن أن يواجه الأمن القومي المصري في حالة خروج حماس من المشهد، فإن النظام الحالي يمكن أن يتجاوب مع ترتيبات ما بعد الحرب، لحاجته إلى الدعم السياسي والاقتصادي الخارجي من ناحيةٍ، وللقضاء على حركة حماس التي تعد امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين من ناحيةٍ أخرى.
ولكن قبول مصر بالمشاركة في إدارة القطاع، أو تهجير الفلسطينيّين إلى شمال سيناء، سوف يجعلان النظام المصري في مواجهة مع المقاومة الفلسطينية، سواء داخل القطاع، الذي سوف تكون أولى المهام لأي سلطة جديدة فيه هي وأد المقاومة، ومنعها من استعادة قوتها، أو في سيناء، التي سوف تكون نقطة انطلاق للمقاومة في مهاجمة دولة الاحتلال، الأمر الذي سوف يجعل السلطات المصرية في مواجهة مع المقاومة، أو مع إسرائيل التي سوف تحمل مصر مسؤولية الهجوم عليها من داخل الأراضي المصرية.
وقد كشفت دراسة مسربة عن خطة إسرائيلية لتوطين مليوني فلسطيني في مصر، بقيمة 8 مليارات دولار، لبناء مدن للفلسطينيّين في سيناء ودفع تعويضات قد تصل إلى 30 مليار دولار للدولة المصرية، على أن يتم تجريف قطاع غزة بالكامل وبناء مستوطنات إسرائيلية عليه[17].
- الحركة الإسلامية
من المنتظر أن تتعرَّض المقاومة الفلسطينية لعملية تجفيف للمنابع وتقطيع لشبكة علاقاتها، وهو ما يعني استهداف الحركة الإسلامية التي تتعاون مع حركة حماس، وتمثل الحاضنة التنظيمية للحركة، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
وفي هذا السياق، بادرت فرنسا، بعد عملية “طوفان الأقصى”، إلى قيادة حملة ضد تنظيم الإخوان المسلمين في دول الاتحاد الأوروبي، عبر شخصيات سياسية وبرلمانية وإعلامية ومنظمات غير حكومية فرنسية، دعت إلى حظر نهائي لجماعة الإخوان، وتصنيفها كتنظيم إرهابي، بالإضافة إلى حَلّ جميع الجمعيات المُرتبطة بها.
وبَرَّر القائمون على الحملة مطالبهم بأن الإخوان من الجماعات المتعاونة مع حركة حماس، وطالبوا بأن يكون التعامل الأوروبي مع الإخوان مثل تعامل إسرائيل مع حماس، أي التعامل الجذري وبقسوة. وحَثوا الدول الأوروبية على طرد الإخوان، واصفين الاتحاد الأوروبي بأنه متواطئ معهم.
من جهتها، أطلقت عدّة منظمات أوروبية، منها منظمة “كريتيانتي- سوليداريتي” الفرنسية السويسرية، حملة شعبية ورسمية للتوقيع على عريضة تُطالب بحظر تنظيم الإخوان في كافة دول الاتحاد الأوروبي، مُحذّرة من استمرارية الدعم المالي الذي تُقدّمه مؤسسات بروكسل لمنظمات وشبكات تتبع للإخوان في الدول الأوروبية.
ودَعا المُشاركون في الحملة إلى فصل الإخوان عن الاتحاد الأوروبي، وإلى أن يكون ذلك بمثابة التزام واضح من المرشحين الذين سيخوضون الانتخابات الأوروبية المقبلة، بالإضافة إلى منع تقديم أي أموال أو تسهيلات لأي جمعية يُشرِف عليها تنظيم الإخوان[18].
خاتمة
ثمَّة سيناريوهات عديدة لمستقبل المواجهة العسكرية بين حركة حماس ودولة الاحتلال، لعل أقربها حتى الآن هو سيناريو إطالة أمد الحرب، وعدم حسمها بشكل كامل لمصلحة أحد الطرفين، وهو ما يُعد في حد ذاته انتصارًا للمقاومة، التي تواجه حرب استئصال من جانب إسرائيل والولايات المتحدة والدول الغربية، ولا تحظى بمساعدة حقيقية من محيطها العربي، الذي تتعاون دول منه مع إسرائيل للقضاء عليها.
ولكن، لابد من أخذ باقي السيناريوهات في الحسبان، ومنها سيناريو انتصار إسرائيل، وتمكنها من تحقيق هدفها، وهو القضاء على المقاومة، وإنهاء تواجدها في قطاع غزة، وهو السيناريو الأسوأ، لأنه سوف يلقي بظلاله السلبية على منطقة الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية، والأطراف المعنية بالصراع العربي الإسرائيلي.
[1] – الغد، الاحتلال يبحث عن نصر سريع في غزة يبدو بعيد المنال، 7 نوفمبر 2023، https://cutt.us/dG69P
[2] – وكالة الأناضول، رغم مرور شهر.. سؤال “اليوم التالي” لحرب غزة مازال يحير تل أبيب وواشنطن، 6 نوفمبر 2023، https://cutt.us/C0N78
[3] – Bloomberg, US and Israel Weigh Peacekeepers for the Gaza Strip After Hamas, 01-11-2023, https://cutt.us/6UWyE
[4] – صحيفة الشروق، التصور الغربي لليوم التالي في قطاع غزة، 5 نوفمبر 2023، https://cutt.us/3nP1u
[5] – القدس العربي، حماس: نرفض فرض أي وصاية أمريكية على غزة، 2 نوفمبر 2023، https://cutt.us/eESkF
[6] – الشرق الأوسط، «حماس» لن تقبل بـ«وصاية على مقاس» إسرائيل، 2 نوفمبر 2023، https://cutt.us/gVPCr
[7] – العربية، سفير فلسطين بالاتحاد الأوروبي: لا يمكن قبول تدويل قطاع غزة، 31 أكتوبر 2023، https://cutt.us/w3ahp
[8] – الشرق الأوسط، أشتية: السلطة لن تحكم غزة دون اتفاق يشمل الضفة في دولة فلسطينية، 6 نوفمبر 2023، https://cutt.us/SuBbM
[9] – العرب اللندنية، وضع عباس على المحك مع تصاعد الغضب الشعبي، 22 أكتوبر 2023، https://cutt.us/ahD9R
[10] – سكاي نيوز عربية، جون بولتون: يجب إعادة الحكم في غزة إلى مصر، 18 أكتوبر 2023، https://cutt.us/49P2h
[11] – The Wall Street Journal, Egypt Opposes Helping Manage Security in Gaza After Hamas, 10-11-2023, https://cutt.us/sJAjc
[12] – RT عربي، رجل أعمال إسرائيلي يقترح ضم قطاع غزة لمصر، 20 أكتوبر 2023، https://cutt.us/WCJvy
[13]– الجزيرة، حماس فكرة لا تنتهي ونرفض سيناريوهات ما بعد الحرب، 8 نوفمبر 2023، https://cutt.us/R8f26
[14] – الجزيرة، دينيس روس: مسؤولون عرب أكدوا لي أنه لا بد من تدمير حماس، 29 أكتوبر 2023، https://cutt.us/L0Eey
[15]– سكاي نيوز عربية، سيناريو “بيروت 1982”.. هل ينهي الحرب في قطاع غزة؟، 4 أكتوبر 2023، https://cutt.us/GsNE0
[16] – الجزيرة، مآلات المشهد السياسي في المنطقة بعد الحرب على غزة، 4 نوفمبر 2023، https://cutt.us/sPOYU
[17] – المصدر السابق.
[18] – سكاي نيوز عربية، حملات فرنسية لحظر تنظيم الإخوان في الاتحاد الأوروبي، 14 أكتوبر 2023، https://cutt.us/8EVEV