يشهد الإقليم قدرًا كبيرًا من السيولة والحركة السريعة سياسيًّا وميدانيًّا، يصعب من خلاله وضع تقدير متماسك وتنبؤ بمسار تطور الأحداث، حيث إن تلك السيولة في المشهد تعطي الفاعلين الإقليميين والمحليّين والدوليّين القدرة على التأثير وتحريك المشهد.
لذلك من المهم أن نضع الاتجاهات العامة في الثلاثة مستويات نصب أعيننا عند تقدير موقف للدولة أو النظام السياسي أو حتى حزب أو جماعة.
على المستوى المحلي
يتصدر ملف الانتخابات الرئاسية أهم القضايا الداخلية بجانب الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعاني منها الشارع المصري، والمرجح أن ملف الانتخابات استطاع السيسي أن يحسمه ويضمن مروره بشكل سلس من حيث الإجراءات، بل وحتى باستمرار الدعم الدولي له.
أما الأزمة الاقتصادية، فمرجح أن يرتفع تأثيرها على الشارع في ظِل تراجع الغطاء الدولاري وقرب أجل سداد أقساط العديد من القروض بجانب فقدان مصر إيرادات الغاز بعد إيقاف إسرائيل ضخ الغاز من عسقلان.
وبالرجوع إلى توصيات صندوق النقد الأخيرة نجد أن دول الخليج تلعب دورًا مهمًّا في حل الأزمة والتأثير على مصر، وهو ما يجعل القرار الداخلي مرهونًا نسبيًّا عند دول الخليج (السعودية والامارات) وهو ما ظهر جليًّا في بداية الأزمة من اهتمام أمريكا بموقف السعودية قبل مصر.
لذلك تعد الأزمة الاقتصادية ملفًّا دوليًّا واقليميًّا ومحليًّا في نفس الوقت لوجود عدد من الأطراف القادرة على لعب دور في حله أو تأزيمه.
على المستوى الإقليمي
تشهد الحدود المصرية العديد من الأزمات الكبيرة التي يمكن أن تتطور وتنعكس بشكل سلبي على مصر أمنيًّا واقتصاديًّا، وعلى وجه الخصوص في السودان، حيث شهدت الفترة الأخيرة تقدمًا لقوات الجنجويد (الدعم السريع) ميدانيًّا، مدعومة من الإمارات، وبنسبة ما من إسرائيل.
أما الحدود الغربية، فهي تشهد استقرارًا بنسبة أعلى في ظِل سيطرة قوات حفتر بشكل كبير على المنطقة الشرقية في ليبيا، ومع ذلك قد تظهر اضطرابات في غرب مصر، وخاصَّة المناطق التي تتواجد بها قبائل (أولاد علي)، على خلفية مقتل عدد من المنتسبين لهم من قبل أفراد محسوبين على الأجهزة الأمنية في مصر، ما ينذر بتطور الأحداث واشتعالها بشكل سلبي على المستوى الأمني.
أما في سيناء، فتشهد المناطق الشمالية، وعلى وجه الخصوص المنطقة الحدودية مع قطاع غزة (رفح والشيخ زويد)، التي فرغت من سكانها على خلفية الصراع الذي نشب بين الجيش والأجهزة الأمنية مع الجماعات المسلحة (تنظيم أنصار بيت المقدس) ثم لاحقًا (تنظيم ولاية سيناء)، اضطرابات بين الجيش وعدد من القبائل بعد وعد قيادات الجيش بعودتهم لأراضيهم قبل إطلاق حماس لعملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر، وهو ما لم يحدث.
وبناءً عليه، قد تشهد سيناء اضطرابات داخلية بين الجيش وعدد من القبائل. لذلك نجد دورًا بارزًا لإبراهيم العرجاني، لقدرته على احتوائها أو التخفيف منها، ومع ذلك غير معلوم مدى قدرته على احتواء الخلاف الدائر. ويُعد هذا العامل عنصرًا مهمًا في استمرار الاستقرار الأمني في سيناء. خاصة أن مشاريع التهجير التي تدفع أمريكا وإسرائيل إلى تنفيذها والتعجيل بها تقع في نفس المناطق المملوكة للقبائل المُهجَّرة.
ملف التهجير
يجب النظر إلى دور النظام المصري والجيش في ملف التهجير على أنه شريك أصيل في تنفيذه، حيث ساهمت العمليات التي نفذها الجيش المصري منذ 2013 وحتى 2021، بداية من التهجير وهدم الأنفاق وحتى بناء الأسوار، في صناعة مربع أمني كبير مفرغ يتحكم الجيش في الحركة فيه ويسهل عليه مراقبة الحدود مع قطاع غزة والتحكم بها من خلاله. ويتقاطع هذا الأمر مع رؤية إسرائيل وأمريكا في المشاريع التي أعلن عنها بشكل لافت وغير رسمي بعد حرب غزة 2008.
وبمراجعة مشروع “صفقة القرن” الذي أعلن عنه ترامب في 2016، نجد تقاطعًا كبيرًا بين ما نفذه السيسي ونظامه ورؤية ومشروع صفقة القرن من حيث الموقع الجغرافي والمشاريع التي أعلن عنها من قبل نظام السيسي وحكومته.
بتحليل خطاب السيسي في المؤتمر الصحفي مع المستشار الألماني، في 18 أكتوبر 2023، نجد أن رؤية السيسي تتلخص في أنه متفق مع الغرب وإسرائيل في محاربة حماس والجماعات المسلحة، لكنه يختلف معهم في الأسلوب والإدارة وفي كيفية تهجير سكان غزة، حيث لا يرغب في أن تنعكس بشكل سلبي أمنيًّا بعد استقراره وقضائه على الجماعات المسلحة. وهو ما يجعله شريكًا معهم في الرؤية، مع الاختلاف في الطرح.
كما أن الخطابات المتضاربة في الإعلام المحلي التابع للأجهزة الأمنية واللجان الإلكترونية على مواقع التواصل الاجتماعي تصنع إرباكًا في الرأي العام، بجانب المظاهرات المنظمة من قبل الأجهزة الأمنية سواء من المعارضة الشكلية في الداخل أو من خلال الأحزاب التابعة للنظام، ما يصنع إرباكًا متعمدًا يجعل الشارع الداخلي يؤول الخطاب والحركة بأوجه مختلفة.
ومع ذلك فإن التعاطي مع مسألة دخول المساعدات تكشف بشكل واضح ميل السيسي للسياسة الأمريكية والإسرائيلية من حيث التوجه العام. والحجة عدم وجود إطار قانوني منظم لمسألة إدارة المعبر منذ 2007 بعد انسحاب البعثة الأوروبية مع سيطرة حماس على قطاع غزة. حيث الأمر يخضع للإرادة وليس للإطار القانوني.
ويستخدم السيسي مسألة المساعدات كمدخل انساني في تنفيذ مشروع التهجير بشكل يكون مقبولًا شعبيًّا.
كذلك تتقاطع رؤية النظام مع رؤية أمريكا وإسرائيل بضرورة استبدال إدارة حماس لقطاع غزة مع إدارة أخرى سواء لسلطة أوسلو (محمود عباس) أو إدارة دولية، أو من دحلان وجماعته.
كما يجب عدم إغفال تعرض معبر رفح لعدد من الضربات من قبل الجيش الإسرائيلي، ما يصنع صورة سلبية للسيسي في الشارع، ويسبب أزمة داخلية في الجيش لعدم اتخاذ مواقف أكثر حزمًا لإيقاف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على مصر بخلاف إيقاف العمليات الإسرائيلية في غزة أو بذل جهود في إعلان هدنة، رغبةً من النظام في الوصول لأكبر استفادة ممكنة، دون تدخل مباشر في تشكيل المشهد.
التقدير
من خلال المعطيات التي استعرضناها وملخص الصورة العامة، يمكن القول إن المشهد فيه سيولة عالية محليًّا وإقليميًّا وفي طور التشكل، سواء في الحرب أو في احتمالية توسعها إقليميًّا، وينذر بحدوث تغيرات في ردود فعل النظام بحسب تطور مسار الحرب.
ويمكن وصف دور نظام السيسي بأنه شريك مع أمريكا وإسرائيل في إدارة الصراع لكن دون أن يكون فاعلًا، مع حرصه على ظهوره كمحايد في الرأي العام. حيث توجد رغبة بأن يكون دور النظام كرد فعل بعد تشكل المشهد وليس كفاعل في تشكيله.