شراكة بين شركة أبو ظبي القابضة والحكومة المصرية، تُفضِي إلى تطوير عقاري لمدينة “رأس الحكمة”، بمنطقة مرسى مطروح، على مساحة 171 كيلومتر مربع (= 170 مليون متر مربع)، وباستثمارات تقدر بنحو 35 مليار دولار، تقدمها دولة الإمارات على دفعتين، الأولى بنحو 15 مليار دولار، والثانية بـ 20 مليار دولار.
المشروع متوقع أن يضم أحياءً سكانية بمستويات مختلفة، وفنادق عالمية، ومنتجعات سياحية، ومناطق ترفيهية، ومبانٍ إدارية وخدمية، ومنطقة حرة، بالإضافة إلى إقامة صناعات تكنولوجية وصناعات خفيفية، ومارينا لليخوت، وإنشاء مدارس وجامعات ومستشفيات. ويُتوقع أن تصل الاستثمارات بنهاية اكتمال المشروع لنحو 150 مليار دولار. وحسب تصريحات د. مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء المصري، فإن مصر سيكون لها حصة في أرباح المشروع طوال فترة عمله، تصل إلى 35 بالمئة.
الملاحظات
تقديم مناخ من التفاؤل غير المحسوب، هو سمت مصري، اعتادت عليه الحكومات المصرية، وبخاصَّة في ظِل معايشة أزمات تمويلية واقتصادية. ففي عهد مبارك، وعلى وجه التحديد، عندما تسبب كمال الجنزوري في أزمة سيولة حادة بتوجيه جزء كبير من أموال البنوك لتمويل عمليات الحفر في مضيق توشكى، اتجهت مصر وبتوجيهات من صندوق النقد الدولي، لتشريع يسمح بنظام الامتياز في الموانئ والمطارات والطرق، وكذلك عملت على تحويل العديد من الهيئات الاقتصادية والخدمية إلى شركات مساهمة، من أجل خصخصة جزءٍ منها فيما بعد.
وكان الإعلام المصري يوحي للمتابعين له آنذاك، أن المستثمرين الأجانب مرابطين في الموانئ والمطارات وبحوذتهم حقائب النقد الأجنبي، ينتظرون صدور هذه التشريعات، ثم تغرق مصر في الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي ستخرجها من أزماتها.
كذلك كان الحال في عام 2015، إبان انعقاد مؤتمر مستقبل مصر في مدينة شرم الشيخ، وكانت الصحف المصرية تتحدث حينها عن صفقات استثمارية بلغت نحو 170 مليار دولار، ومن بينها مساهمة شركات إماراتية، ولكن انكشفت الحقيقة بعد ذلك، وأسفرت عن واقع مؤلم، يتمثل في ودائع بالبنك المركزي المصري، من حكومات (السعودية، والإمارات، والكويت) بنحو 12 مليار دولار، مثلت عبئًا فيما بعد على الدين العام الخارجي.
وبالتالي، فإن ما قامت به الحكومة المصرية عبر جهازها الإعلامي، وكذلك وسائل الإعلام المملوكة للداعمين الخليجيّين، يأتي في إطار إيهام المجتمع، بأن الأزمة المالية والاقتصادية الحالية، إلى زوال، وأن الرخاء على الأبواب، وهو أمر محل شك بنسبة كبيرة.
يُعد توقيت الصفقة مناسبًا لمصر، من ناحية إتاحة سيولة في ظِل أزمة شح في النقد الأجنبي بشكل كبير، مع توقعات بأن يتم التوقيع النهائي مع صندوق النقد الدولي قريبًا، وهو ما يَعني وجود مناخ إيجابي من الناحية النفسية لتوقع الخروج من أزمة شح النقد الأجنبي.
وبالفعل، انخفض سعر الدولار في السوق السوداء على مدار اليومين الماضيين إلى 52 جنيهًا للدولار، بعد أن كان 64 جنيهًا للدولار.. ولكن يُلاحَظ أن يومي الجمعة والسبت عطلة، وطبيعة السوق أن تهدأ الأسعار في هين اليومين.
وفي نفس الوقت، فإن مثل هذه الصفقات عادةً ما تؤثر في الناحية النفسية للمتعاملين بالسوق، فضلًا عن وجود دور كبير للإعلام في توجيه السوق لمنحى معين، ولكن ينتظر أن تُعبّر السوق عن واقعها الحقيقي خلال الأيام المقبلة، وبخاصَّة مدى مرونة الجهاز المصرفي في تلبية طلب الأفراد والمؤسسات من النقد الأجنبي.
الأمر الثاني، هو أن الصفقة في حقيقتها، تعبر عن تدفق 24 مليار دولار جديدة للاقتصاد المصري، لما أعلن من أن الدفعتين الأولى والثانية من تدفق الأموال الإماراتية ستتضمن خصم 11 مليار دولار ودائع للإمارات لدى البنك المركزي المصري، وهو ما يَعني أن هذا المبلغ لن يكون له تأثير في سوق الصرف. فبفرض أن هذه الأموال في حوزة البنك المركزي المصري بالفعل خلال الفترة الماضية، فإنها لم تصنع شيئًا للتخفيف من حدة الأزمة خلال الفترة الماضية.
تبقى المشكلة قائمة في كون قضية عجز النقد الأجنبي، قضية هيكلية، ومستمرة، في ظِل غياب معالجة جذرية لقضية الديون الخارجية، فضلًا عن كفاية تدفقات النقد الأجنبي لمتطلبات التعاملات الخارجية الطبيعية للاقتصاد المصري.
ومما يؤكد استمرار أزمة النقد الأجنبي بمصر خلال الفترة القادمة، ما أعلنته الحكومة المصرية، من تأثر دخل قناة السويس خلال شهري ديسمبر ويناير الماضيين بنحو 42 بالمئة، جراء ما يحدث في باب المندب، كما أن قطاع السياحة في مصر بدأ يتأثر سلبيًّا بسبب تراجع حركة السياحة، نتيجة ما تمر به المنطقة من أحداث حرب غزة وباب المندب أيضًا.
وفي ضوء معرفة التزامات مصر خلال 2024 تجاه خدمة الدين الخارجي، نجد أن هذه الالتزامات تصل إلى 42 مليار دولار، وبالتالي ستكون أولوية الحكومة المصرية هي توجيه ما ستحصل عليه من أموال صفقة “رأس الحكمة” إلى سداد جزءٍ من التزاماتها الخارجية.
ومما يستلزم الإيضاح، أنه في حالة وصول مصر لتوقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي، فإنها لن تحصل على قيمة القرض مرة واحدة، ولكن على شرائح، حسب مدة البرنامج، والتي قد تصل إلى 3 سنوات.
والمهم في هذا الأمر هو أن الحكومة المصرية ليس لديها استراتيجية للخروج من أزمة الدين العام، وبخاصَّة الخارجي منه، ولكنها تراهن على أن قرض صندوق النقد الدولي، سوف يسمح لها بالتوجه للاقتراض من السوق الدولية، عبر سوق السندات، وبأسعار فائدة أقل مما حصلت به على قروض خلال العامين الماضيين، وبالتالي سنكون أمام عملية تدوير للقروض، وعودة الأزمة التمويلية لمصر على أفضل الأحوال بداية أو منتصف 2025.
من المفترض أن يدخل مشروع رأس الحكمة حيز التنفيذ في عام 2025، وفي ضوء المشروعات المعلن عن تنفيذها، ستكون هناك مكونات ومستلزمات تنفيذ يتم استيرادها من الخارج، مما يعني وجود عبء إضافي على طلب النقد الأجنبي، فهل سوف تستمر الشركة الإماراتية في توفير النقد الأجنبي للمشروع؟ أم ستتجه لتمويل المشروع من الجهاز المصرفي المصري؟
إذا تم التوجه للاقتراض من الجهاز المصرفي المصري، ولو بجزءٍ من التمويل، فسوف يمثل هذا الأمر أحد سلبيات الصفقة، لأن من مزايا الاستثمار الأجنبي المباشر، أن يؤدي إلى ضخ نقد أجنبي جديد في شرايين الاقتصاد. ولكن تجربة مصر في كثير من ممارسات الشركات الخليجية، وبخاصَّة تلك التي تعمل في مجال العقارات والسياحة، تدل على أن هذه الشركات تعتمد على التمويل البنكي المصري، وكان هذا أحد أسباب انسحاب شركة إعمار الإماراتية من اتفاقية تنفيذ مشروع المليون وحدة سكانية التي اتفقت عليها في مؤتمر شرم الشيخ، لأنها كانت تريد تمويل المشروع من البنوك المصرية.
كما أُعلِن من قِبل المسئولين المصريّين، وتحديدًا رئيس الوزراء، فإن الحكومة ستقوم بتقديم تعويضات للمواطنين المقيمين في منطقة رأس الحكمة، وهنا سنكون أمام تداعيات اجتماعية سلبية جديدة على هؤلاء الأفراد، عبر إشكالية التعويض العادل، وعادة ما يكون الأفراد في هذه الحالة في موقف ضعيف، مقابل الحكومة التي تمتلك عصاها الأمنية الغليظة.
لا شك أن أيّ استثمار أجنبي يمثل قيمة مضافة، وذلك كحكم مطلق، ولكن لكل حالة خصوصيتها، ومن خصوصيات مصر، أنها ليست بحاجة إلى استثمارات في مجالي العقارات والسياحة، اللذين يمثلان عصب مشروع “رأس الحكمة”، فلو تمَّ توجيه قيمة صفقة رأس الحكمة للاستثمار في مجالات الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، لأدى ذلك إلى نقلة حقيقية في واقع الاقتصاد المصري.
ويؤكد توجيه الاستثمار الإماراتي في رأس الحكمة إلى مجالي العقارات والسياحة، استراتيجية الداعمين الإقليميّين والدوليّين في تقديم المساعدة لمصر، بحيث تكون هذه الاستثمارات بمثابة تسكين لأزمات أو مشكلات، وليس مساهمة حقيقية في بناء واقع تنموي جديد، ينقل مصر من دولة نامية إلى دولة صاعدة أو متقدمة.
من الضروري الإشارة إلى أن الصفقة تحاط بعدم الشفافية، فتفاصل هذه الصفقة غير معلومة للمجتمع، ومن حق المجتمع أن يطلع على مضمونها، وحقوق كل طرف فيها، وبخاصَّة أن الإمارات لديها علاقات كبيرة مع إسرائيل، وغير إسرائيل، ويمكنها بيع حصتها فيما بعد في المشروع للأجانب، فهل تضمن عقد الصفقة قيودًا على الإمارات في هذا الشأن؟ وبخاصَّة أن مكان المشروع يمثل أبعادًا استراتيجية تمس الأمن القومي المصري.
تبقى الإشارة لمسألة مهمة، تتعلق بدور مصر في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على غزة، من حيث محاصرة غزة عبر معبر رفع، وعدم السماح بدخول المساعدات لسكان القطاع، فضلًا عن المقاومة الفلسطينية، ومن الطبيعي في ظِل توطيد العلاقات بين إسرائيل والإمارات، أن تقوم الإمارات بدفع جزء من المقابل لمصر جراء قيامها بهذا الدور.
ولا يرتبط هذا التحليل بنظرية المؤامرة، ولكن الأحداث التاريخية القريبة، تدل على سلوك مصر السياسي والعسكري، للخروج من أزماتها المالية من خلال الاعتماد على الخارج، والمساهمة في أعمال عسكرية أو سياسية كبرى، كما حدث من مشاركة الجنود المصريّين في تحرير الكويت، عام 1990، وكذلك السماح للسفن الأمريكية والبريطانية بالمرور من قناة السويس إبَّان احتلال العراق في عام 2003.
ولم يكن الدعم الإماراتي لمصر في هذا التوقيت، هو الوحيد، بل تمَّ رصد تصريحات لوزيرة الخزانة الأمريكية، وكذلك مديرة صندوق النقد الدولي، وأحد المسؤولين بالاتحاد الأوروبي، حول اهتمامهم بدعم الاقتصاد المصري لمواجهة التداعيات السلبية للحرب على غزة.