مقدمة
مع اقتراب موعد انتخابات الرئاسة المصرية، التي من المقرر أن تجرى في مارس 2024، تشهد الساحة السياسية أطروحات حول ضرورة إيجاد “بديل مدني” تتوحَّد حوله القوى الوطنية من أجل مواجهة رأس النظام الحالي في الانتخابات المقبلة.
وتثير هذه الأطروحات تساؤلات عديدة، حول إمكانية استبدال النظام على أرضية القواعد الانتخابية الحالية، والفرص التي يتيحها طرح بديل مدني، والعراقيل التي تواجه التوافق على هذا البديل، والمرشح المدني الذي تسعى السلطة لتجهيزه، وهل يمكن أن يكون البديل المدني أمرًا واقعيًّا في ظِل الظروف الراهنة؟ وهل يمكن أن يكون هناك بديل واقعي؟
تحاول هذه الورقة الإجابة على التساؤلات المطروحة، بالإضافة إلى تقديم سيناريوهات للشكل الذي يمكن أن يكون عليه المرشح المدني في الانتخابات المقبلة.
الانتخابات وإمكانية الاستبدال
لا تختلف الظروف التي سوف تجرى فيها انتخابات الرئاسة المصرية القادمة، عن مثيلتها في انتخابات 2014 و2018، اللهم إلَّا من حيث ارتفاع الأصوات المطالبة بالتغيير، وخروج السيسي من المشهد، وإيجاد بديل مدني يخلفه.
ازدادت هذه الأصوات ارتفاعًا بعد أن أثبت السيسي فشله السياسي، واعترف بإفلاسه الاقتصادي، وصار يتعامل كمتهم يَخشى من محاسبته على الكارثة التي نجمت عن سياساته منذ أن استولى على الحكم.
وقد يظن البعض أن سوء وضع السيسي في الفترة الأخيرة سوف يدفعه إلى إجراء بعض الإصلاحات، أو تقديم بعض الضمانات التي تتيح هامشًا من الحرية، وتضفي بعض النزاهة على العملية الانتخابية، وهو ظن كذبته سلوكيات النظام الذي يزداد شراسة وعنفًا كلما شعر بالخطر.
إن الحديث عن حدوث انفراجة في الشأن المصري متداول منذ سنوات، ومع ذلك فإن النظام لا يتراجع ولا يجدد أساليبه، ويزداد انغلاقًا واعتمادًا على القمع، خاصَّة وأنه فشل في التخلص من الأزمات التي تسبَّب فيها ولا يجد لها حلولًا تقلل من السخط الشعبي.
ولهذا، فالمتوقع من النظام هو التشدد في مواجهة أي مرشح يمكن أن يمثل خطرًا عليه، بالمنع أو الحبس، كما فعل مع الفريق أحمد شفيق، والفريق سامي عنان من قبل.
ولعل أول الغيث في هذا الشأن هو حبس أكرم قرطام (أفرج عنه في وقت قريب بعد القبض عليه)، رئيس حزب المحافظين، لمجرد إعلانه وجود مرشح رئاسي للحزب بدون اتفاق مع الأجهزة المعنية.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن التغيير أو استبدال مرشح مدني بالسيسي القادم من المؤسسة العسكرية والمدعوم منها حتى الآن في ظِل القواعد الانتخابية الحالية؟
لا يسمح المناخ العام في مصر بإجراء انتخابات نزيهة وتعددية تفضي إلى التغيير والإتيان ببديل مدني، لانعدام الضمانات التي تمنع التزوير، وتحمي المرشح وأنصاره أثناء التحرُّك على الأرض، وتتيح له المساواة في الظهور الإعلامي، والتواصل مع الناس دون مضايقة أمنية.
أضف إلى ذلك أن عملية جمع التوكيلات المنصوص عليها في قانون الانتخابات كشرط للترشح، من شبه المستحيلات، في ظِل القبضة الأمنية المشددة التي يفرضها نظام السيسي على جميع مؤسسات الدولة التي تشمل وزارة العدل، المسؤولة عن توثيق التوكيلات من خلال مكاتب الشهر العقاري التابعة لها، وبالتالي فإن محاولة أي مرشح من خارج النظام لجمع تلك التوكيلات، سوف تواجه الكثير من الصعوبات والتضييق الأمني.
وبناءً عليه فإن إمكانية الاستبدال عبر صندوق الاقتراع مشروطة بتغيير قواعد الانتخابات الحالية، وهو ما لا يمكن حدوثه في الوقت الراهن إلَّا عن طريق النظام الذي لا يستجيب لدعوات التغيير، ونجح في إرهاب الشارع المصري بالقمع الذي وصل إلى معدلات غير مسبوقة، بالإضافة إلى نجاحه في إنهاك المعارضة وتفتيتها وتدمير المنظمات الأهلية والحقوقية.
وهذه الشروط تحدث عنها كثيرون، وتشمل الرقابة الدولية الشاملة، التي تغطي جميع مراحل العملية الانتخابية، بداية من الترشيح، وانتهاء بالفرز وإعلان النتائج، وتعديل النصوص الدستورية والقانونية المقيدة للترشيح، وتحصين المرشحين ضد الاعتقال والملاحقة، وإسناد إدارة العملية الانتخابية لمفوضية وطنية تتفق عليها السلطة والمعارضة، وتمكين المنظمات الأهلية من الرقابة، والالتزام بالضمانات العالمية المنصوص عليها في البروتوكولات الدولية لنزاهة الانتخابات، وتوفير فرص متكافئة للمرشحين في جميع وسائل الإعلام، ومنع مرشح السلطة من استخدام إمكانيات الدولة لمصلحته، وإعلان النتائج في اللجان عن طريق القضاة وفي وجود المراقبين.
وإذا لم تتحقق الشروط اللازمة لنزاهة الانتخابات، فلن يحدث التغيير، أو الاستبدال، ولن يكون الاتفاق على بديل مدني والتمكن من إدراج اسمه ضمن المرشحين للرئاسة نجاحًا في حد ذاته، أو إنجازًا للمعارضة، اللهم إلَّا إذا اعتبرنا ذلك حجرًا يُلقى في المياه الراكدة.
البديل المدني الديمقراطي
انطلقت في الفترة الأخيرة دعوات لإيجاد بديل مدني يخوض انتخابات الرئاسة في مواجهة السيسي ونظامه الانقلابي الذي دمر النسيج الوطني بسياسته الاستبدادية وسلوكه القمعي، وفشل في إيجاد مخرج من الأزمة الاقتصادية التي تسبَّب فيها.
والحديث عن بديل مدني للتنافس على منصب رئاسة الدولة من الأمور التي تتناسب مع المناخ الديمقراطي الذي يتيح الفرصة للترشح وتقديم برامج بديلة، على عكس الدول الاستبدادية التي يتحكم فيها النظام الحاكم في العملية الانتخابية، ويَعتبر التقدُّم برؤية بديلة لرؤية السلطة نقصًا في الوطنية، وقد يصل الأمر إلى حد التخوين.
وفي ظل انسداد الأفق السياسي وتعقيدات الواقع المصري، يُعد الحديث عن بديل مدني خطوة إيجابية في حد ذاتها، بغض النظر عن إمكانية تحقيق التغيير والاستبدال، وذلك إذا ما نظرنا إليها من ناحية الإيجابيات التالية:
- تحريك المياه الراكدة منذ 2013، من خلال الإعلان عن رفض سياسات النظام، وتقديم البديل، على مستوى الأشخاص والبرامج.
- استغلال الأجواء الانتخابية في التحرك بين المواطنين وتوعيتهم بحقوقهم، وكشف أخطاء النظام وفضح جرائمه في حق الشعب المصري.
- زيادة الضغوط على السيسي من خلال إيجاد البدائل المدنية التي يمكن أن تصل إلى السلطة مع ظهور أي فرصة للتغيير.
- تقديم بدائل للمجتمع الدولي والقوى الإقليمية والدولية التي يمكن أن تدعم التغيير وتضعه على أجندتها الخاصَّة بالشأن المصري.
- إعداد رموز وطنية يمكنها أن تمثل الشعب المصري وتتحدث باسمه في مقابل السلطة وأمام المجتمع الدولي.
- خروج النخبة السياسية من حالة السلبية والتشرذم والاصطفاف خلف بديل مدني وبرنامج انتخابي يمثل رؤية لإخراج البلاد من أزمتها.
ولكن التوافق على اختيار مرشح رئاسي ليكون بديلًا مدنيًّا أمر يصعب الوصول إليه بسبب الخلافات التي تعصف بالقوى الوطنية والمعارضة المصرية في الداخل والخارج من ناحيةٍ، واستهداف النظام الحاكم لأي إمكانية لتشكيل فريق معارض يواجه السيسي من ناحيةٍ أخرى.
فعلى مستوى المعارضة الداخلية، هناك شك في قدرة الحركة المدنية على طرح مرشح للرئاسة، لأنها كتلة مترهلة وضعيفة ولم تُحسِن التعاطي مع القضايا الوطنية، وهو ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأنها لا تستطيع تقديم مرشح رئاسي إلَّا بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية.
كما أن الحركة المدنية التي تتحدث عن بديل مدني، لا تمثل أطياف المعارضة المصرية كلها، فهي في أغلبها أحزاب كارتونية، تنتمي إلى معسكر 30 يونيو الذي أيّد الانقلاب، ولا تعترف بالمعارضة الحقيقية، ولا يمكنها الخروج على السلطة القائمة.
ولهذا فإن أحزابًا ترى ضرورة اختيار مرشح يمثلها في الانتخابات والتجهيز للأمر من الآن، فيما ترى أحزاب أخرى الانتظار إلى ما بعد انطلاق الحوار الوطني الذي دعا إليه السيسي، أملًا منها في حدوث انفراجة سياسية تسمح بالتحرُّك الآمن.
ثم إن مصطلح البديل المدني نفسه من الأمور المختلف عليها بين تيار المعارضة والحركات الإسلامية التي تقبل بالمصطلح في حدود التفرقة بين ما هو مدني وعسكري، في حين يستخدمه الآخرون في التفرقة بين ما هو علماني وإسلامي. ويقوي من هذا التخوُّف اصطفاف القوى العلمانية إلى جانب المؤسسة العسكرية في مواجهة التيار الإسلامي، حتى إن خالد داوود، المتحدث باسم الحركة المدنية، أعلن صراحة رفضه للإفراج عن المعتقلين من الإسلاميّين.
وأخيرًا، لا يمكن التغاضي عن التوجس من أي تعامل مع النظام الحاكم أو الاشتباك معه وفق القواعد الحالية، وهو ما يظهر في التشكيك في نوايا مَن يرغب في الترشح للانتخابات، واتهامه بالتعاون مع النظام لخلق كومبارس جديد يُجمِّل صورة النظام ويمنحه الشرعية، وهو ما حدث بمجرد إعلان النائب السابق أحمد الطنطاوي العودة إلى مصر والترشح للانتخابات كبديل مدني.
وإذا انتقلنا إلى المعارضة بالخارج، فسنجد أن التعاطي مع إعداد البديل الوطني يواجه مشكلة كبيرة بسبب انشغال هذه المعارضة، وفي القلب منها الإخوان المسلمون، بمشاكلها الداخلية، ورفض الأحزاب الكارتونية في الداخل للتعامل معها، لأسباب أيديولوجية أو خوفًا من النظام.
البديل المدني السيساوي
التقت إرادة المعارضة مع إرادة السلطة في ضرورة وجود بديل مدني يخوض الانتخابات أمام رأس النظام، عبدالفتاح السيسي، على اختلاف ما بينهما في الهدف.
فالنظام يهدف إلى استكمال المسرحية الانتخابية بإيجاد مرشح مدني يخوض الانتخابات لإخراجها في شكل ديمقراطي، يُرضي الغرب من ناحيةٍ، ويُضفي على حكمه شرعية شعبية عبر صندوق الانتخابات من ناحيةٍ أخرى.
وفي هذا السياق، يمكن قراءة التسريبات التي نشرت حول اجتماع مدير المخابرات، عبّاس كامل، مع بعض رموز “الحركة المدنية الديمقراطية”، لترشيح 3 شخصيات مدنية يمكنها خوض انتخابات الرئاسة المقبلة أمام السيسي، مع وعد بمساعدتها في جمع التوكيلات اللازمة للترشح، والسماح لهم بالظهور والتحدث في وسائل الإعلام التابعة للمخابرات.
وعلى الرغم من عدم وجود ما يثبت عقد هذا الاجتماع، فإن الواقع يؤكد أن السيسي والدائرة المحيطة به مضطرون إلى التبكير في تجهيز المرشحين وهندسة المشهد الانتخابي، لأسباب عديدة، أهمها:
- تلافي الضغوط الخارجية التي تزايدت في الفترة الأخيرة حول ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر، والحديث عن ضرورة فتح المجال العام ووجود تنافس في إطار ديمقراطي.
- تجنب أية مفاجآت قد تظهر في حالة التأخر في إعداد المرشحين، وحتى لا يضطر النظام إلى البحث عن مرشح في اللحظات الأخيرة، كما حدث مع اختيار موسى مصطفى موسى في انتخابات 2018.
- خوف النظام من ظهور مرشح بدون التوافق عليه مع الأحزاب الكارتونية، وهو ما يمكن أن يحرجه، خاصة وأن تجربة نقابتي الصحفيين والمهندسين مثال على وجود حالة من الرفض للنظام الذي تنهار شعبيته يومًا بعد يوم.
- إيجاد مجموعة من المرشحين لإخراج الانتخابات من صورتها الاستفتائية إلى انتخابات تنافسية يشارك فيها عدد كبير من الشخصيات.
- قطع الطريق على أي محاولة للوصول إلى مرشح مدني تتوافق عليه القوى الوطنية، حتى وإن كانت فرصته معدومة، لأنه يمكن أن يتحول إلى رمز للمعارضة.
لا ينفي قادة ورموز “الحركة المدنية الديمقراطية” وجود تواصل بينهم وبين الأجهزة الأمنية والمخابراتية التي يجتمعون بها للبحث في ملفات عديدة، ولهذا من غير المستبعد أن يكون موضوع الانتخابات قد طرح في هذه اللقاءات، وهو ما يمكن أن يترتب عليه ظهور مرشحين بالتوافق بين النظام وقادة الحركة، أو بعضهم، لخوض الانتخابات القادمة، ولتحقيق أهداف النظام.
البديل الواقعي
لم يكن الحديث عن البديل المدني أمرًا جديدًا على المشهد المصري، فقد سبق أن طرح البحث عن بديل مدني في أوقات سابقة، لعل أشبهها بالظرف الحالي هو عام 2016، وقبل انتخابات الرئاسة في 2018، حينما طرحه البعض، ومنهم عصام حجي، المستشار السابق للرئيس الانقلابي المؤقت، عدلي منصور، وغيره من أولئك الذين يتواجدون في الغرب، ويطرحون مثل هذا الطرح من بيئة مدنية ديمقراطية لا علاقة لها بالبيئة المصرية.
وقد وصف فهمي هويدي الحديث عن البديل المدني حينها بأنه “ترف ذهني”، يمكن ممارسته في وقت حُرِم فيه المصريون من هذا “الترف”.
والحقيقة أنه بعد مرور سنوات، يمكن أن نقول إن البحث عن البديل المدني مازال ترفًا ذهنيًّا، لا يمكن ممارسته إلَّا على صفحات الجرائد ومن خلال التصريحات التي يتطلع أصحابها إلى أمور يصعب تحقيقها قبل تغيير الوضع الحالي في مصر، وذلك للأسباب التالية:
- رفض المؤسسة العسكرية لأطروحة الحكم المدني في مصر، وهذا الرفض عقيدة، عبَّر عنها مدير الكلية الحربية، في حديثه عن الطلاب الجدد المقبولين بالكلية، حينما قال: “هم يعرفون تمامًا أنهم قادة المستقبل، يعرفون أنهم الوزراء والمحافظون والسفراء ورؤساء الجمهورية والمديرون”.
- قدرة المؤسسة العسكرية على عرقلة مسيرة أي رئيس مدني منتخب وإفشال حكمه، وهو ما ظهر في فترة الرئيس محمد مرسي، الذي لم يتعرض لمصالحها أصلًا.
- امتلاك الديكتاتورية العسكرية للقوة، وعدم تورعها عن استخدام السلاح وإراقة الدماء لحماية مصالحها، وهو ما حدث في رابعة والنهضة، ويمكن أن يحدث مرة أخرى.
- تجذر المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري، وحرصها على عدم انهيار امبراطوريتها الاقتصادية، حتى إن أحد القادة قال في ندوة حضرها ضبَّاط الجيش: “سوف نقاتل إذا فكر أحد في الاقتراب من اقتصاد القوات المسلحة”.
- تورط المؤسسة العسكرية في كل الكوارث التي ارتكبها نظام السيسي، وتصل في بعض الحالات إلى حد الخيانة العظمى، مثل التنازل عن الجزر المصرية للسعودية، وهو ما يجعل قادتها عرضة للمحاكمة من أي نظام ديمقراطي.
- تخوف قوى خارجية، إقليمية ودولية، من وصول رئيس مدني إلى الحكم، وقيام نظام ديمقراطي تنتقل عدواه إلى دول أخرى أو يؤثر على مصالحها في مصر والمنطقة.
- عدم وجود بديل مدني متفق عليه بين القوى الوطنية، بسبب انقسام النخبة السياسية، فضلًا عن جاهزية هذا البديل لاستلام السلطة حال إجراء انتخابات حقيقية.
- عدم وجود معارضة قوية ومنظمة ومتحدة من أجل التفاوض مع المؤسسة العسكرية كممثل للشعب، بعد أن صنع النظام معارضته الكارتونية.
لقد تزايد دور المؤسسة العسكرية والأمنية في الشأن العام، وهو الدور الذي أدَّى إلى كوارث أدخلت الدولة في نفق مظلم يصعب الخروج منه بمجرد وصول حاكم مدني إلى السلطة، ومن المؤكد أن نهاية حكم السيسي لن تكون نهاية لهذه الكوارث، بل ربما تكون بداية لظهور كوارث أكبر يصعب على بديله التعامل معها بدون الاستعانة بنفس المؤسسات التي ساعدته، وعلى رأسها الجيش.
وإذا أطلقنا العنان للخيال، وقلنا إن النظام سوف يوافق على إجراء انتخابات نزيهة، وإن القوى الوطنية الممزقة والمنهكة والمتعارضة سوف تتوافق على بديل مدني يمثلها، وإنها سوف تضع برامج واضحة وخطة عمل مدروسة لانتشال مصر من الكوارث التي تسبب فيها السيسي ونظامه، فهل سيجد هذا البديل المدني بيئة داخلية مناسبة للحكم، وجهات خارجية تدعمه، أم أن تجربة الرئيس مرسي سوف تتكرر، وسيجد هذا البديل نفسه بلا أدوات تمكنه من العمل، وفي مواجهة مع مؤسسات داخلية تعرقله، وعلى رأسها الجيش، ودول خارجية تعمل على إفشال تجربته المدنية، ومن ثم المطالبة بتدخل الجيش مرة أخرى، والعودة إلى نقطة الصفر.
ولهذا، لابد من التحلي ببعض العقلانية، والبحث عن بديل يتناسب مع الظرف المصري، أو ما يمكن أن نسميه “البديل الواقعي”، الذي يستطيع أن يُحرِّك المياه الراكدة، وينقل البلاد خطوة إلى الأمام، على طريق قد يطول ويستغرق عقودًا من الزمن.
في هذا السياق، تحدث البعض عن بديل من المؤسسة العسكرية، تحت مسمى “الحكم العسكري الرشيد”. ولكن تجربة المصريين مع الحكم العسكري، منذ عام 1952، تدل على استحالة الجمع بين “العسكر” و”الحكم الرشيد” في جملة واحدة.
ومع ذلك، فإن البديل العسكري، أو البديل المَرضِي عنه من العسكر، قد يكون هو الحل “المرحلي” الأنسب في الظرف الراهن، إذا كانت هناك تفاهمات على إحداث نوع من التغيير، حتى لو كان تغييرًا جزئيًّا، وذلك من خلال التفاوض على التنازلات، والمكاسب، والخطوط الحمراء التي يلتزم الطرفان بعدم تجاوزها.
وقد يكون هذا الحل المرحلي بداية لمسيرة تنتهي بدفع العسكر إلى اتخاذ قرار بالتخلي عن الحكم للمدنيّين، خاصَّة إذا شعروا بأن بقاء الوضع على ما هو عليه سوف يؤدي إلى انفجار يضر بمصالحهم.
وهنا لابد أن ننظر بعين الاعتبار إلى تجارب الدول التي انتقلت من الحكم العسكري إلى الحكم المدني الديمقراطي، وسنجد حينها أن التغيير لم يتم بشكل فجائي، أو من خلال مواجهة فاصلة، وإنما من خلال تخارج الجيش من الشأن العام بشكل تدريجي حذر، يحافظ له على بعض امتيازاته ومكتسباته، ولا يصطدم بأصحاب المصالح من الخارج والداخل، وهو ما حدث في تركيا، التي احتاجت إلى ما يقرب من سبعين عامًا حتى تنتقل إلى مرحلة البديل المدني الديموقراطي.
سيناريوهات المرشح المدني
هناك ثلاثة سيناريوهات لشكل المرشح المدني الذي يمكن أن يتقدم للظهور إلى جانب السيسي في الانتخابات الرئاسية القادمة، وذلك في حالة عدم تغيير القواعد التي سوف تجرى على أساسها تلك الانتخابات، وهو ما سوف يؤدي إلى تحول “البديل المدني” إلى “مرشح كومبارس”، شاء أم أبى، لأنه سوف يقوم بالدور الذي يريده النظام، وهو “الظهور” في المشهد لاستكمال المسرحية الانتخابية دون أي أمل في النجاح، ومن ثم إحداث التغيير والاستبدال:
- الكومبارس الصامت، وهو مجرد مرشح مدني لا يعارض السيسي، ولا يُعرَف بأي مواقف معارضة، ولا يمتلك برامج انتخابية تعبّر عن شخصية قادرة على المنافسة. وكل دوره هو الحضور، وهو الدور الذي قام به موسى مصطفى موسى في انتخابات 2014.
- الكومبارس المتكلم، وهو مرشح مدني يمتلك خلفية سياسية، وينتمي إلى تيار أو حزب سياسي، ولكنه في النهاية جزء من معسكر 30 يونيو الذي أيَّد النظام، ولم يعارضه بعد ذلك معارضة حقيقية. وهو الدور الذي قام به حمدين صباحي في انتخابات 2018، ويمكن أن يقوم به بعض رؤساء الأحزاب الحاليين.
- الكومبارس المتحرك، وهو المرشح المدني الذي لا يرقى وضعه إلى حد الفوز بنسبة كبيرة من أصوات الناخبين، ولكن يمكن أن يسبب إزعاجًا بسبب مواقفه وآرائه وتحركه بين المواطنين.
وعلى الرغم من أن وظيفة الجميع واحدة، وهي استكمال المسرحية الانتخابية وإضفاء الشرعية على حكم السيسي، فإن السيناريو الثاني هو الأقرب، لأن النظام لن يأتي بمرشح من نوعية الكومبارس الصامت، الذي يكشف حقيقة المنافسة الصورية، كما أنه لن يتحمل نوعية الكومبارس المتحرك، الذي يمكن أن يفضحه أمام الشعب ويضعه في موقف حرج، في وقت هو الأصعب بالنسبة له، بسبب انهيار شعبية السيسي وزيادة غضب المواطنين من إدارته الفاشلة.
وبناءً عليه، فإن الأنسب للسيسي هو الكومبارس المتكلم، الذي لا يعارضه معارضة شرسة، ويمكن التحكم فيه والضغط عليه، مثل النائب السابق أنور السادات وأمثاله.
خاتمة
مازال الوضع في مصر بعيدًا كل البعد عن إمكانية طرح بديل مدني قادر على المنافسة في الانتخابات الرئاسية وانتزاع المنصب، لأسباب كثيرة، منها ما يتعلق بالنظام، الذي يتحصن بترسانة من القوانين والإجراءات والسلوكيات التي تحول دون إجراء انتخابات نزيهة. ومنها ما يتعلق بوضع المعارضة المنقسمة على نفسها، ومؤسسات المجتمع المدني التي أضعفها النظام.
وإلى أن تعرف مصر الديمقراطية التي تسمح بتداول السلطة وقبول الآخر واحترام نتائج الصندوق وإقصاء الجيش من الشأن العام، فإن الأوقع هو التفاهم مع العسكر على تنازلات ومكاسب متبادلة، بالتزامن مع مصالحة وطنية، والشروع في إصلاحات تدريجية.
لابد من قراءة جيّدة لحالة المعارضة وقدرتها على تقديم بديل قادر على تحمُّل المسؤلية بعد فترة حكم كارثية للسيسي، وحالة الشعب المصري ومدى تأهله للتحول الديمقراطي، لأنه لا يمكن اختزال الديمقراطية في صندوق الانتخابات التي قد تأتي ببديل مدني يمكن إفشاله ثم استعداء الناس ضده والانقلاب عليه بغطاء شعبي.
وإلى أن يتم ذلك، يجب التفاعل مع تقديم المرشح البديل ودعم البرامج التي من شأنها أن تغير الوضع الراهن، كخطوة في سبيل تحريك المياه الراكدة.