تقدير موقف

الاحتجاجات الشعبية في إيران وإمكانية الثورة والتغيير

للتحميل والقراءة بصيغة PDF

مقدمة

منذ سنوات والمشهد السياسي الإيراني يرتبط بالمظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي تندلع لأسباب مختلفة، قد تكون معيشية أو فئوية، ثم سرعان ما تكتسب زخمًا سياسيًّا.

وقد فجَّرت وفاة الفتاة الإيرانية “مهسا أميني” (22 سنة) موجة جديدة من موجات الاحتجاجات الشعبية، وأطلقت شرارة انفجار انتفاضة أخرى من انتفاضات المواطنين الإيرانيّين الذين صاروا ينتفضون مع كل أزمة، بعد أن أدركوا أن الشارع هو الوسيلة الوحيدة لمواجهة النظام.

وكانت “دورية الإرشاد” التابعة للشرطة الأخلاقية قد أوقفت الفتاة المذكورة، في 13 سبتمبر/أيلول 2022، بسبب عدم التزامها بقواعد اللباس والحجاب المفروضة على النساء، واقتادتها إلى أحد المراكز المخصصة لعقد دورات لتدريب النساء على ارتداء الحجاب، ولكن الفتاة توفيت بعد 3 أيام في المستشفى، بعد أن أصيبت بغيبوبة بسبب نوبة قلبية تعرضت لها في مركز التدريب.

اتهم ناشطون السلطات الإيرانية بقتل مهسا أميني بعد أن تلقت ضربة على رأسها، وهو ما نفته السلطات، الأمر الذي فجَّر المظاهرات في معظم المدن الإيرانية، وفتح باب التكهنات حول مستقبل هذه الأحداث، وإمكانية تطورها إلى فعل ثوري قادر على إسقاط النظام الحالي.

تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على الحادث، ورصد مواقف القوى المختلفة، وتحديد سمات الاحتجاج الأخير، وإمكانية تطوره إلى حالة ثورية، والسيناريوهات المحتملة للأزمة.

تداعيات وفاة مهسا أميني

انظلقت شرارة الاحتجاجات في 17 سبتمبر/أيلول 2022، في أعقاب جنازة مهسا أميني، وتواصلت المظاهرات العارمة واتسعت رقعتها وتمددت من المدن الغربية إلى أغلب محافظات إيران. وشهدت المظاهرات حالات من الكر والفر بين المحتجين والشرطة التي استخدمت الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريقهم، قبل أن توغل في استخدام القوة.

وذكرت وكالة الأنباء الحكومية أن المتظاهرين قاموا بتعطيل حركة المرور في بعض المناطق، وأشعلوا النار بصناديق النفايات ومركبات الشرطة، ورشقوا قوات الأمن بالحجارة.

ومنذ بدء المظاهرات، تباطأت الاتصالات، وصولًا إلى حجب خدمات الإنترنت، وتعطيل وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها المحتجون في التواصل ونشر أخبار المظاهرات.

وتتهم السلطات مَن تصفهم بـ”المندسين” بإثارة الشغب، وتسييس الاحتجاجات، والقيام بأعمال تخريبية في الممتلكات الحكومية والخاصة.

وكالعادة، ردّد المتظاهرون شعارات مناهضة للنظام، طالت المرشد الأعلى للثورة، على خامنئي، مثل: “الموت للديكتاتور”، و”عارنا هو المرشد الأحمق”.

وبعد ما يقرب من 10 أيام من المظاهرات، ارتفع عدد الضحايا إلى ما يزيد عن 40 قتيلًا، بالإضافة إلى اعتقال المئات، منهم 739 في محافظة جيلان وحدها، بينهم 60 امرأة[1]، وفقًا لوسائل الإعلام الحكومية، بينما تقول المعارضة إن عدد القتلى تجاوز 140 قتيلًا، بالإضافة إلى آلاف المعتقلين. هذا بالإضافة إلى القتلى من رجال الأمن والبسيج (قوات المتطوعين شبه العسكرية) الذين سقطوا أثناء المواجهات.

رد فعل النظام الإيراني

قام رد الفعل الرسمي على ثلاثة أسس، هي القمع والاحتواء والتوجيه الإعلامي. فبالتزامن مع القمع الأمني، أكد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، أن تحقيقًا سيفتح بعد وفاة الشابة مهسا أميني، وحذر في الوقت نفسه مِن “الفوضى غير المقبولة”.

ونفت وزارة الداخلية تعرُّض الفتاة للضرب، ونددت بالمجموعات والعناصر التي اتخذت من قضية الفتاة ذريعة للقيام بأعمال الشغب وخلق متاعب للشعب والبلد. وقال وزير الداخلية، أحمد وحيدي، إن “ما حصل حادث مؤسف ونأمل ألَّا نشهد يومًا مثل هذه الحوادث مجددًا”.

كما أصدر الحرس الثوري بيانًا أعرب فيه عن تعاطفه مع أسرة الفتاة، ووصف فيه الأحداث التي تشهدها البلاد بالمؤامرة العبثية، وقال إنها محكومة بالفشل.

وطالب الحرس الثوري السلطة القضائية بالكشف عن مروجي الشائعات والأكاذيب، وكل من يُعرِّض المجتمع للخطر، بحسب تعبيره. كما أشار إلى أن هناك مَن يستغل كل حدث في إيران لتحقيق أهدافه ضدها، وأن ما يحدث ما هو إلَّا انتقام من صمود الشعب الإيراني.

وكشف محافظ طهران عن اعتقال رعايا من 3 دول أجنبية خلال الاحتجاجات في طهران. وذكرت تقارير أن الأجانب قد تمَّ اعتقالهم خلال قيامهم بتصوير الاحتجاجات، وإعداد تقارير للسفارات الأوروبية، وتوزيع الدولارات على رؤساء “عصابات التخريب” بالعاصمة طهران[2].

وفي مقابل المظاهرات المعارضة، سيَّرت الحكومة الإيرانية مسيرات مضادة بعد صلاة الجمعة، في 23 سبتمبر/أيلول. ورفع المشاركون في هذه المسيرات التي بثها التلفزيون الرسمي أعلام إيران، وأطلقوا هتافات ضد الولايات المتحدة وإسرائيل ومَن وصفوهم بـ”مثيري الشغب”، ونددوا بأعمال الشغب وحرق العلم الإيراني وإهانة المقدسات.

ودعا المتظاهرون المؤيدون للحكومة السلطة القضائية والأمنية إلى التعامل بـ”حزم”، ضد “المخلين بأمن البلاد” و”السلوكيات والتحركات المنتهكة للحرمات”.

تقاذف المسؤولية بين المحافظين والإصلاحيّين

فتح موت مهسا أميني باب المزايدات بين المحافظين والإصلاحّيين، حيث تبادل الطرفان الاتهامات حول المسؤولية عن الحادث واستغلالها سياسيًّا.

وفي هذا السياق، شنَّ الأصوليون حملة ضد الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، اتهموه فيها بالمشاركة في قتل أميني، بسبب تعديل حكومته قانون عمل الشرطة الأخلاقية. وقادت هذه الحملة صحيفة “كيهان” الأصولية، التي اتهمت خاتمي وأمثاله من الإصلاحيّين بأنهم فرحوا بهذا الحادث المؤسِف ووجدوا فيه فرصة لإفراغ عقدهم الدفينة من انتصارات الإسلام والثورة.

وكان اتصال خاتمي بعائلة أميني وتقديمه العزاء لهم وانتقاده لعمل الشرطة الأخلاقية قد أزعج الأصوليّين، الذين اتهموا التيَّار الإصلاحي بأنه يُنسِّق مع وسائل الإعلام المناهضة للثورة، والتي تنشط دائمًا عند الأحداث المريرة والمؤسفة في البلاد وتعمل على استغلال المشاكل ضد نظام الجمهورية الإسلامية، وأن كلمة السر هذه المرة في إحداث الفتنة هي “شرطة الأخلاق”، بعد أن كانت كلمة السر قبل ذلك هي “التزوير”.

وأحصت صحيفة “كيهان” الأصولية حالات عديدة وقف فيها الإصلاحيّون إلى جانب رجالهم في السلطة، بعد أن ارتكبوا جرائم في حق الشعب الإيراني، وقالت إن موقفهم من موت أميني فيه ازدواجية ونفاق[3].

وردًّا على هذه الاتهامات، اتهم الإصلاحيون المحافظين بالكذب من أجل منع الرأي العام من معرفة كيفية موت أميني، لأن خاتمي كان رافضًا لقانون وعمل الشرطة الأخلاقية ولم يوافق عليه خلال فترة رئاسته، وتمّت الموافقة عليه لاحقًا، في حكومة محمود أحمدي نجاد.

وأكدت صحيفة “اعتماد” الإصلاحية أن صلاحيات وسلطة دوريات الشرطة الأخلاقية كانت محدودة جدًّا إبان حكومتي خاتمي وروحاني، أي الحكومات الإصلاحية، فيما توسعت وازدادت سلطتها قوةً خلال حكومتي أحمدي نجاد وإبراهيم رئيسي، مضيفة أن الرئيس الأسبق محمد خاتمي، كرئيس إصلاحي لم يسمح بتأسيس دوريات الشرطة الأخلاقية ووقف ضد طلب المجموعات المتشددة لهذا الأمر.

ولفتت الصحيفة إلى أن أداء الشرطة الأخلاقية والمشاكل التي تسببت فيها دورياتها قد زادت من التشدد ضد فرض الحجاب الإلزامي والضغط على الناس، مما خلق ردود فعل كثيرة مطالبة بإلغاء فرض الحجاب وحل الشرطة الأخلاقية وإعطاء نوع من الحرية الشخصية[4].

واعتبرت صحيفة “آرمان ملي” الإصلاحية أن مأساة وفاة الفتاة الإيرانية والأحداث المتكررة المشابهة لها كافية للدفع باتجاه تلبية التوقعات المشروعة للناس وتحسين الأوضاع السيئة التي يواجهونها في اختناقاتهم المعيشية، مطالبة بالتخلّي عن الأسلوب المخالف للقانون والمنطق والتعامل بشكل مناسب مع مرتكبي المخالفات[5].

موقف المعارضة الإيرانية

طالب حزب “اتحاد شعب إيران الإسلامي” الذي شكله مقربون من الرئيس الأسبق محمد خاتمي السلطات الإيرانية بإلغاء إلزامية ارتداء الحجاب، وإنهاء عمل الشرطة الأخلاقية، والسماح بالتظاهرات السلمية، والإفراج عن الموقوفين[6].

ودعت جبهة مكونة من ستة أحزاب وكيانات علمانية معارضة تطلق على نفسها “الجمهوريون الديمقراطيون” لدعم الاحتجاجات الشعبية، وقالت في بيان لها إن السبيل للقضاء على الاستبداد هو التمسُّك بالمطالب حتى تحقيقها.

وأصدر مركز التعاون بين الأحزاب الكردستانية الإيرانية بيانًا طالب فيه بتسريع الحوار والعمل الشامل والموحد لجميع المنظمات والمؤسسات الشعبية والتيارات السياسية لدعم الانتفاضة الشعبية واستمرار الاحتجاجات بأشكالها المختلفة.

أما ولي العهد السابق، رضا بهلوي، فقد طالب الجيش بعدم دعم النظام والتوقف عن قتل المواطنين، والانضمام للمعارضة ضد النظام الحاكم. وأشار بهلوي – الذي اجتمع بوفد من البرلمان الأوروبي لمناقشة تطورات الوضع الإيراني – إلى ضرورة التضامن بين القوى السايسية الإيرانية رغم مشاربها المختلفة لإنقاذ البلاد[7].

التفاعل الدولي مع الأحداث

تفاعل المجتمع الدولي مع حادث مقتل مهسا أميني، وتوالت الانتقادات والإدانات من جانب الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي دعت إلى إنهاء اضطهاد النساء والسماح بالاحتجاجات السلمية.

وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على “شرطة الأخلاق” في إيران، واتهمتها بالإساءة للنساء واستخدام العنف ضدهن، وحملتها مسؤولية وفاة مهسا أميني.

وبعد ساعات من فرض واشنطن عقوبات على وحدة الشرطة المعنية، اتهم الرئيس الإيراني الغرب بـ”الكيل بمكيالين”، مشيرًا إلى عمليات القتل على أيدي الشرطة في الولايات المتحدة، وقدّم إحصائيات عن وفيات النساء في بريطانيا.

وأضاف رئيسي أن ما وصفه بمخطط واشنطن “الشائن” لتخفيف عقوبات الاتصالات يهدف إلى زعزعة الاستقرار في البلاد.

وكانت وزارة الخزانة الأمريكية قد أصدرت إعفاء من العقوبات عن بعض خدمات الإنترنت والتكنولوجيا الموجهة إلى إيران، وذلك من أجل توفير الإنترنت عبر الأقمار الصناعية للمستخدمين الإيرانيّين الذين قطعت عنهم السلطات خدمة الإنترنت[8].

وعلى المستوى الحقوقي، طالبت المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية، بالتحقيق الجنائي في الظروف التي أدَّت إلى الوفاة المشبوهة، والتي تشمل احتمالات التعرض للتعذيب وسوء المعاملة خلال الاحتجاز.

سمات الاحتجاجات الحالية

يرى مراقبون أن موجة الاحتجاجات التي أعقبت موت مهسا أميني تختلف عن سابقاتها من الموجات الكبرى، التي كان أبرزها في 2009، بعد مزاعم الإصلاحيّين بتزوير الانتخابات الرئاسية لمصلحة المرشح المحافظ، وفي 2019، بعد رفع أسعار الوقود، وذلك بعد أن تجاوزتها في جوانب عديدة، منها ما يلي:

1 – كثافة المشاركة النسائية: بدأت الاحتجاجات من قضية نسائية، هي سوء التعامل مع المرأة من جانب السلطات الإيرانية، وهو ما دفع أعدادًا كبيرة من النساء إلى المشاركة في الأحداث، بل وتصدُّر المشهد وتقدُّم الصفوف في كثير من الحالات، حتى إن الناشطة الإيرانية المقيمة في الولايات المتحدة، مسيح علي نجاد، وصفت المظاهرات بأنها “ثورة نسائية”، وقالت إن أميني صارت “رمزًا للمقاومة ضد الفصل العنصري بين الجنسين”، وإن هذه هي المرة الأولى منذ 1979 التي نرى فيها النساء يخرجن إلى الشوارع بأعداد كبيرة للاحتجاج على الحجاب الإجباري ونظام الفصل العنصري بين الجنسين[9].

هذا بالإضافة إلى تجرؤ النساء على خلع الحجاب في الأماكن العامة التي شهدت الاحتجاجات، في تحدٍّ واضح لرمز من رموز الجمهورية الإسلامية في إيران، حتى إن سيدات نشرن فيديوهات يظهرن فيها وهن يخلعن الحجاب و يضرمن فيه النار.

2 – كسر حاجز الخوف: شهدت الاحتجاجات مظاهر تدل على كسر حاجز الخوف من جانب المواطنين الإيرانيّين الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه وفقدوا الأمل في الإصلاح الذي سعوا إليه في السنوات الماضية.

ولكن الجديد هذه المرة هو ردود الفعل العلنية الغاضبة والمنتقدة من جانب شخصيات معروفة، من السياسيّين والمثقفين والرياضيّين والفنانين، وهو ما يمكن رؤيته في رد فعل قائد المنتخب الوطني، “علي رضا جهانبخش”، الذي علق بقوله: “شعر بناتنا مغطى بكفن”، والمطرب “محسن تشاوشي” الذي أعلن مقاطعة وزارة الإرشاد الإيرانية، وقال إنه سيغني للشعب فحسب، مؤكدًا أنه لا يجوز الصمت بعد اليوم، والممثل والمخرج “مهران مديري” الذي أعلن مقاطعة التلفزيون الإيراني ردًّا على العنف الذي تمارسه السلطات بحق المتظاهرين، وطالب الجهات المعنية بالإصغاء للشعب وتجنب العنف في التعاطي معه[10].

كما أصدر نحو 100 سينمائي إيراني بيانًا أيدوا فيه المحتجين، وكتبوا مخاطبين الوحدات العسكرية: “نذكّر كل الأشخاص في الوحدات العسكرية الذين أصبحوا أدوات قمع وعنف ضد المواطنين بأن هذه البنادق تمَّ تزويدهم بها من الأموال العامة للدفاع عن الشعب. لا توجهوا البنادق إلى شعب وشباب إيران. عودوا الى أحضان الشعب”[11].

3 – كسر تابو النظام وقدسيته: تواصل استغلال المظاهرات الاحتجاجية في تحدي الدولة والثورة ومهاجمة نظام ولاية الفقيه والمرشد الأعلى للثورة نفسه، الولي الفقيه علي خامنئي، الذي أصبح مادة دسمة للشعارات والهتافات والكتابات الناقدة له في مختلف الاحتجاجات التي تجري في إيران، ليعكس ذلك ما يُكنه الوعي الشعبي من حقد دفين ضد المرشد الذي وصفته الجماهير المحتجة بـ”الديكتاتور”، وطالبته بالرحيل، هو وكل نظام ولاية الفقيه الذي يتهمه المحتجون بأنه بات المظلة الحامية للفساد والمسئول المباشر عن دمار مقدرات إيران داخليًّا وخارجيًّا.

3 – مشاركة قطاعات من الأغلبية الصامتة: لم تقتصر المشاركة في المظاهرات على الشباب فقط، وذلك بعد أن شاركت قطاعات من الأغلبية الصامتة التي فقدت الأمل في المسار الإصلاحي، وهو ما يمكن رؤيته في تزايد عدد المشاركين من كبار السن إلى جانب الشباب، وهو ما يقوى من عزمهم، ويزيدهم إيمانًا بصحة الطريق. يقول أحد المتظاهرين من شباب طهران: “عارض والداي المتدينان بشدة خروجي في المظاهرات أوَّل الأمر، ولكن خرجا معي بعد الليلة الثالثة للمشاركة في الاحتجاج”.

وكذلك تزايدت مظاهر التضامن الشعبي مع المتظاهرين من جانب الذين لم يشاركوا في المظاهرات، وهو ما يمكن رؤيته في ترك أبواب المنازل والمحلات التجارية مفتوجة لإيواء المتظاهرين الفارين من عناصر الأمن. كما يمكن رؤية هذا التضامن في محاولة المواطنون في البيوت مساعدة المتظاهرين على التواصل من خلال وضع أجهزة الـWi-Fi على نوافذ بيوتهم وإلغاء كلمات المرور الخاصة بها، حتى يتمكن المتظاهرون من استخدام الإنترنت في التواصل.

4 – تجاوز الانقسامات العرقية: بدأت الاحتجاجت من مدينة سقز في إقليم كردستان الإيراني، مسقط رأس مهسا أميني، ولكن قضية الفتاة الكردية تجاوزت حدود الأزمات العرقية التي كانت تشتعل وتخمد في موطنها، وذلك بعد أن تمددت الاحتجاجات من مدن كردستان إلى كل أنحاء إيران.

والغريب أن إرادة المتظاهرين الذين تجاوزوا الحدود العرقية قد اتفقت مع إرادة النظام في عدم تحويل الأزمة إلى أزمة عرقية تستغلها التنظيمات الكردية المعارضة، ولذلك وَجَّه عضو لجنة الأمن القومي بالبرلمان الإيراني، إبراهيم رضائي، انتقادًا لاذعًا لزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني بالعراق، مسعود بارزاني، بسبب اتصاله بعائلة أميني، ورأى في ذلك إشارة إلى انتهازية بارزاني الذي يريد أن يستغل الحادث في تقديم نفسه كزعيم للقومية الكردية[12].

وفي هذا السياق، يمكن تفهم  توقيت القصف الإيراني لقرى في أربيل، في 24 سبتمبر/أيلول، حيث تعتقد طهران أن المعارضة الكردية الموجودة في أربيل لديها أذرع تحركها في الداخل الإيراني لتأجيج التظاهرات.

5 – الشمول الجغرافي: تُعد الاحتجاجات – التي بدأت في مناطق يقطنها الأكراد في شمال شرق إيران ثم امتدت إلى ما لا يقل عن 80 مدينة وبلدة في أنحاء البلاد الحضرية والريفية – هي الأكبر من ناحية الامتداد الجغرافي، فقد تركزت احتجاجات 2009 على طهران وعدد قليل من المدن الكبرى، أما احتجاجات 2019 التي تشبه الاحتجاجات الحالية من حيث الانتشار الجغرافي الواسع فإنها لم تشهد ذلك النشاط الكبير للمتظاهرين في العاصمة طهران، ما يُكسِب المظاهرات زخمًا وأهميةً كبيرين في معقل النظام الإيراني ذاته، ويمثل عامل ضغطٍ إضافي على النظام.

6 – الشمول الاجتماعي: قادت التحركات الوطنية السابقة الطبقات العاملة بسبب تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وشكَّل الشباب من الطبقة المتوسطة الحضرية المتعلمة أغلبية المتظاهرين في 2009، بينما كانت الفئات المحرومة هي الغالبة على احتجاجات 2019، فقد كان معظم المتظاهرين من الفقراء والعاطلين عن العمل وأصحاب الأجور المنخفضة. أما المظاهرات الأخيرة فكانت الشرارة التي أشعلتها اجتماعية-ثقافية وسياسية، ولهذا فقد تعددت الفئات المشاركة من بين فئات الشعب، لتشمل طلاب الجامعات الساخطين على سياسة النظام، والنشطاء السياسيّين، والمرأة، والشباب وكبار السن.

7 – المواجهات العنيفة: تتسم المظاهرات الأخيرة بأنها أكثر عنفًا من حيث الخطاب والسلوك. فعلى مستوى الخطاب، وصلت الشعارات المعبرة عن مطالب المتظاهرين إلى أعلى سقف لها، بمهاجمة النظام والمطالبة برحيله. وعلى مستوى السلوك، قام المتظاهرون بهاجمة المباني العامة والرموز الحكومية وسيارات الإسعاف، واشتبكوا مع قوات الأمن، وهي ظواهر شوهدت في الحركات الاحتجاجية السابقة، ولكنها زادت هذه المرة، حتى إن شهود عيان من مدينة “أشنويه” الصغيرة في شمال غرب إيران، ذكروا أن المدينة سقطت في يد المتظاهرين الذين نصبوا الحواجز على الطرق الرئيسة المؤدية إليها بعد أن تراجعت قوت الأمن المحلية التي أرهقتها المواجهات مع المتظاهرين.

وأظهرت مقاطع فيديو نشرتها وسائل التواصل الاجتماعي حشودًا كبيرة تسير في شوارع أشنویه‌، يرتدي العديد منهم الزي الكردي التقليدي ويهتفون مطالبين بالحرية، وأظهرت أيضًا اشتباكات مسلحة كثيفة للسيطرة على مقر شرطة المدينة.

6 – تململ الشرطة: ذكر شهود عيان أن رجال الأمن قد أصيبوا بحالة من العصبية بسبب التعليمات التي يتلقونها من البسيج أثناء مواجهة المتظاهرين في الشوارع، وخرجت تقارير تفيد بانتشار الخلافات بين صفوفهم، وهو ما أكده شهود من مواطني طهران قالوا إنهم رأوا ضباط الشرطة غاضبين من الأوامر والتعليمات التي تصدر لهم من أفراد لا يتبعون جهاز الأمن. كما أفاد آخرون بأنهم كانوا يرون مظاهر اليأس على وجوه قوات الأمن التي أصيبت بالخوف والإرهاق لدرجة أنه كان يبدو عليهم القلق قبل أن تبدأ المظاهرات في الشارع.

ولسد الطريق على أي خلاف قد ينشأ بين قوات الأمن التي تتحمل عبء المواجهة المباشرة مع المتظاهرين في الشارع والمؤسسة العسكرية المهيمنة على الأمور في البلاد، أصدر الحرس الثوري بيانًا دافع فيه عن قوات الشرطة في مواجهة الحملات والانتقادات التي تتعرض لها. وأدان الجيش الإيراني الحملة ضد قوات الشرطة والأمن الداخلي، واصفًا إيَّاهم بأنهم “خادمو الشعب ويعكفون على تأمين الأمن والهدوء للمواطنين”[13].

7 – افتضاح التناقض في المعايير: فضح موت مهسا أميني بسبب الحجاب حالة التناقض في تطبيق المعايير الإسلامية بين أبناء المسؤولين الإيرانيّين الذين يعيشون في دول الغرب وأبناء الشعب داخل البلاد، فقد قارن الإيرانيون الغاضبون لموت أميني بين ما تعرضت له الأخيرة بسبب سوء حجابها، وما يمكن أن يتعرض له بناتهن من إهانة أو عقاب على يد الشرطة الأخلاقية بسبب الحجاب، وحال بنات المسؤولين الإيرانيّين اللاتي يعشن حياة الرفاهية في الدول الغربية دون ارتداء الحجاب أو الالتزام بالمعايير الإسلامية، ومنهن حفيدة مؤسس الجمهورية الإسلامية، الخميني، وبنت الرئيس السابق حسن روحاني، حيث يعيش ما يقرب من 4 آلاف من أبناء المسؤلين حياة مرفهة في الخارج، ولا يلتزم أكثر البنات منهم بالحجاب، وهو ما أثار غضب الشعب الذي يعيش في ظروف سيئة، ولا يأمن على بناته من تصرفات دوريات الشرطة الأخلاقية.

عقبات الانتقال من الاحتجاج إلى الثورة

لا شك أن النظام الإيراني يقف أمام منعطفٍ بالغ الخطورة، بسبب اتساع رقعة المظاهرات بالداخل وتعدد الأصوات المنددة بتصرفاته في الخارج، ولكن تحوُّل هذه المظاهرات إلى انفجار اجتماعي ضخم، تتمخض عنه ثورة كاملة تغير وجه النظام في البلاد، تعترضه عقبات كبيرة، داخلية وخارجة، يمكن رصد أهمها في النقاط التالية:

1 – شدة القمع الأمني: وهو ما رأيناه في قمع الاحتجاجات الشعبية السابقة، والتي كان أبرزها في 2019، حينما خرجت مظاهرات شعبية تندد برفع أسعار الطاقة، وكانت الأكبر في تاريخ البلاد منذ الثورة على الشاه، من حيث العدد والانتشار الجغرافي، وقابلتها السلطات بعنف مفرط، أسفر عن مقتل ما يقرب من 1500 على أيدي قوات الأمن التي اعتقلت مئات الإيرانيّين وعذبتهم وسجنتهم، وحكمت بالإعدام على بعضهم، وفقًا لمنظمة العفو الدولية.

وقد يكون الوضع في سوريا مؤشرًا على ما يمكن أن يفعله النظام الإيراني حال تطور الاحتجاجات وتحولها إلى حالة ثورية قد تفضي إلى إسقاطه، فقد وقفت إيران بكل قوة خلف النظام السوري الذي أوشك على السقوط، واستدعت حلفاءها من كل صوب وحدب، وارتكبت جرائم عديدة في دفاعها عن حليفها، فما بالنا إذا كانت المعركة التي سيخوضها النظام الإيراني هي معركة دفاع عن وجوده هو نفسه.

ولهذا يمكن القول إن النظام الإيراني سوف يقاتل حتى النهاية، ولن يتوانى عن استخدام كل ما يملكه من قوة في قمع أي انتفاضة ثورية.

2 – استعداد النظام وتمرسه في مواجهة المظاهرات: بعد أكثر من عقد على المظاهرات والاحتجاجات التي ظن مراقبون أن بعضها قد يُسقِط النظام، لاتساع رقعتها وكثرة المشاركين فيها، استخلص النظام الإيراني الدروس من الحركات الاحتجاجية، واكتسب الخبرة اللازمة لمواجهتها منذ 2009، وأفادته هذه الخبرة في 2019، ويستفيد منها حاليًّا في 2022، وهو ما يتضح من الاستجابة السريعة والمرونة العالية في استخدامه لقواته وأجهزته الأمنية، حيث يدفع في البداية برجال الأمن، ثم قوات البسيج، وأخيرًا الحرس الثوري.

وقام النظام هذه المرة بنشر الوحدة النسائية الخاصة في قوة الشرطة بشكل كامل للتعامل مع الأعداد المتزايدة من النساء، وقالت قائدة هذه الوحدة إن قواتها اعتقلت عددًا من النساء وفرقت أعدادًا أخرى منهن بعد أن شاركن في تعطيل النظام وتصرفن كقائدات وهتفن بشعارات مسيئة[14].

ويُعد قطع خدمات الإنترنت من أهم الخبرات التي اكتسبها النظام وأدرك أهميتها ونجاحها في منع المتظاهرين من التواصل الداخلي والخارجي.

ولهذا يرى أنصار للنظام أن السلطات الإيرانية غير قلقة من تحوّل الاحتجاجات المتواصلة إلى اشتباكات وعنف وضغط على الحكومة، لا سيما أن إيران سبق أن تعاملت مع العديد من الاحتجاجات التي اندلعت لأسباب سياسية واقتصادية ومعيشية، وتمكّنت من إخمادها في نهاية المطاف.

3 – ضعف المجتمع المدني في إيران: لا توجد في إيران حركة مجتمع مدني قوية، وذلك بعد أن تعرضت قوى المجتمع المدني لعملية قمع ممنهجة من جانب الأجهزة الأمنية، فالحركات التي كانت تنشط في المجتمع الإيراني للدفاع عن الحقوق من قبل لم تعد تمتلك مؤسسات ومنظمات تمارس من خلالها نشاطًا مستمرًا، ولم يسلم أي من شرائح المجتمع من قبضة السلطات التي قمعت بشدة الحق في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والانضمام إليها، وحرية التجمع السلمي والمعتقد الديني، فقبضت على منتقديها السلميين وسواهم وسجنتهم عقب محاكمات بالغة الجور.

وكانت “هيومن رايتس ووتش” قد اتهمت السلطات الإيرانية بمضايقة نشطاء حقوق الإنسان، وأشارت إلى أن الهجمات بحق الصحفيين ومحللي السياسات والمدافعين عن حقوق الإنسان تجاوزت حدودها ووصلت إلى حد الانتهاكات الشخصية[15].

4 – الاعتماد على الفضاء الافتراضي: على الرغم من أن تقنيات المعلومات الحديثة وخاصة الشبكات الاجتماعية، قد خلقت قدرات عالية وفعالة للنشر السريع للمعلومات، وتوعية المجتمع الإيراني والقوى المستقلة، إلَّا أن انفصالها عن البيئة الحقيقية وتعرضها لأشياء مثل نشر الأخبار الكاذبة والموجَّهة وإمكانية تشكيل فضاء اصطناعي من خلال اللجان الإلكترونية وترويج النزعات العرقية والانفصالية والشعبوية، يمكن أن يضعف القدرة الشعبية على التغيير. كما أن الاعتماد الكبير على الفضاء الافتراضي يخلق لدى البعض نوعًا من الرضا الزائف في التعبير عن الاحتجاج وتحقيق الرغبات.

5 – عدم وجود قيادة منظمة ومعلنة لتوجيه حركة الشارع: تعاني المعارضة الإيرانية من حالة ضعف، وذلك بعد أن فشل التيار الإصلاحي في إصلاح النظام عبر مؤسساته القائمة، ولم يستطع الوقوف في وجه المحافظين الذين أقصوا رموزه وأنصاره من جميع مراكز صنع القرار أو إدارة البلاد، وهو ما رأيناه في الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس خبراء القيادة المخول باختيار المرشد العام القادم، وأخيرًا مجلس صيانة الدستور الذي تمَّ إقصاء حسن روحاني منه.

أما المعارضة التي تطالب بإسقاط النظام بالكليَّة، فإنها تقوم بدور هامشي في المنفى، والمثال على ذلك اليسار الإيراني، الذي يمكن وصفه بأنه قوة منظمة إلى حدٍ ما، ولكنه لم يتعاف حتى الآن من الضربات التي تعرض لها في الثمانينات، ويعتمد خطابًا علمانيًّا وتوجهًا اقتصاديًّا لا يجتذبان قطاعات كبيرة من المجتمع الإيراني.

كما أن تمسك بعض فصائل المعارضة الإيرانية بخطاب قومي أو عرقي يدفع شرائح أخرى من الإيرانيّين إلى التشكيك في جدوى هذه المعارضة وإمكانية قيادتها لأي تحرك إيراني يمكن أن ينقذ البلاد من أزماتها.

ولهذا كانت حركة الشارع الإيراني أسبق من حركة المعارضة التي لا يمكنها أن تسقط النظام واكتفت بإعلان الدعم والتأييد، وسَخَّرت منابرها لحث المواطنين على المشاركة في المظاهرات.

6 – انعدام الرغبة الدولية “الصادقة” في إسقاط النظام الإيراني: على الرغم من العداء المعلن بين طهران والعواصم الغربية، إلَّا أن هذا العداء لم يتبلور في شكل رغبة صادقة لإسقاط النظام الإيراني، وذلك لحاجة الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، إلى بقاء هذا النظام، لما يقوم به من دور في تخويف دول الخليج وإبقائها في حاجة دائمة للحماية من أجل ابتزازها، وإرباك خطط التمدد في وسط آسيا من جانب الروس والأتراك، وتقسيم العالم الإسلامي مذهبيًّا من خلال الإبقاء على الدولة الشيعية التي تعمل على نشر التشيع وحماية أتباعه.

كما أنه لا توجد حتى الآن قوة إيرانية بديلة يمكنها أن تتولى السلطة حال إسقاط النظام، لأن تغيير النظام يخضع لحسابات دولية دقيقة تأخذ في الحسبان توقيت السقوط وتهيئة البديل. ولهذا لن يتجاوز الدعم الخارجي للمتظاهرين حدود الإدانات المعتادة والعقوبات التي لم تعد تجدي نفعًا مع النظام الإيراني الذي تمرَّس في الالتفاف عليها.

بل يمكن القول إن انفلات الوضع في إيران، وتحول البلاد إلى أفغانستان أو سوريا جديدة، ليس من مصلحة القوى الإقليمية أيضًا، وقد لا ترحب به، لأن تدهور الوضع في إيران يمكن أن يهدد أمن الممرات البحرية التي تعبرها ناقلات النفط، وهو ما سيؤثر على استقرار دول الخليج. كما أن تفكك إيران ليس من مصلحة تركيا والعراق وباكستان التي لن تقبل بتفكك الدولة الإيرانية وقيام دول أو كيانات مستقلة في كردستان وبلوشستان، لأن انفصال هذه المناطق سوف يشجع الانفصاليّين من الأكراد والبلوش على الجانب الآخر من الحدود.

7 – الدعم الروسي للنظام: يرتبط النظام الإيراني مع روسيا بعلاقات إستراتيجية تقوم على المصالح المتبادلة، وهو ما رسخه الطرفان من خلال اتفاقيات طويلة المدى، بعد أن فرضت المتغيرات الإقليمية والدولية على البلدين تقاربًا وتعاونًا في العديد من المجالات، ليس أقلها العسكرية والأمنية، بسبب العقوبات الغربية.

وقد استفادت موسكو كثيرًا خلال السنوات الأربعين المنصرمة من المواجهة النشطة ما بين طهران وواشنطن، من أجل مصالحها السياسية الخاصة.

ويمكن أن يؤدي انهيار النظام في إيران إلى تعزيز الهيمنة الأمريكية، ليس في الشرق الأوسط الكبير فحسب، بل في آسيا الوسطى والقوقاز أيضًا، وهو ما لا يصب في مصلحة موسكو[16].

سيناريوهات الأزمة

يمكن للاحتجاجات الشعبية الإيرانية أن تسير في ثلاثة مسارات، وفق السيناريوهات التالية، التي يرتبط نجاح أحدها أو فشله بسمات الحِراك والعوامل المتحكمة في تطوره:

  • السيناريو الأول

 وهو استمرار المظاهرات الاحتجاجية واتساع رقعتها، وفشل النظام في محاصرة حالة الاحتقان الشعبي المتنامي على خلفية الأزمات الاقتصادية، وتردِّي الأوضاع المعيشية وارتفاع مستويات التضخم وتفشِّي البطالة، وإخفاق الحكومة في التعامل مع الأزمات، ومنها: أزمة توزيع المياه، فضلًا عن التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا والعقوبات المفروضة على إيران، ومِن ثَمَّ حالة الإحباط العام وغياب أُفقٍ لتسوية الخلافات مع الغرب بشأن الاتفاق النووي، وعودة الولايات المتحدة لتشديد عقوباتها على إيران، حيث تتعدد عوامل الغضب والاحتقان، وتتزايد الهُوّة بين النظام الذي يسعى إلى تطبيق قواعد ثقافية ودينية صارمة، بينما لا يهتم بتحسين معيشة المواطنين[17].

ويصطدم تحقق هذا السيناريو بعقبات عديدة، هي نفسها عقبات تطور المظاهرات الاحتجاجية وتحولها إلى حالة الانفجار التي تؤدي إلى ثورة تسقط النظام الحالي. 

  • السيناريو الثاني

وهو تراجع النظام الإيراني والاستجابة لمطالب المتظاهرين التي تختلف عن مطالب الاحتجاجات السابقة، والتي كانت تندد بتزوير الانتخابات وتطالب باحترام أصوات المواطنين أو ترفض ارتفاع أسعار الوقود. أما الاحتجاجات الحالية فإنها تستهدف ركيزة أيديولوجية للنظام، تتمثل في الحجاب.

ولكن تحقق هذا السيناريو يصطدم بعقبة كبيرة يصعب تجاوزها، وهي أن تراجع النظام الحاكم فيما يخص الحجاب والضوابط الأخلاقية بالنسبة للنساء يعتبر تخليًا عن هويته الدينية، ويمثل هزيمة أيديولوجية كبرى للنظام الإسلامي.

ولهذا فإن البديل هو استمرار السخط الشعبي بسبب تصرفات الدوريات التابعة للشرطة الأخلاقية، وبالتالي الدخول في حالة مستمرة من القمع، والذي سيؤدي بدوره إلى زيادة الاحتقان، وانفجار الشارع وخروج المظاهرات مع أقرب أزمة ممكنة.

  • السيناريو الثالث

وهو خفوت المظاهرات والقضاء عليها عبر الأساليب الأمنية التي يستخدمها النظام الإيراني، وهو ما حدث من قبل، في جميع الموجات الاحتجاجية التي شهدتها البلاد، والتي كان أعنفها وأوسعها في 2009 و2019.

ويمكن تحقيق ذلك السيناريو في ظل السياسة التي تتبعها الحكومة الإيرانية، والتي تمزج بين التهدئة والقمع من أجل تجاوز الأزمة. وقد ظهرت هذه التهدئة في تنديد النظام بحادث مقتل مهسا أميني، ومواساة الرئاسة لأسرتها، والوعد بفتح تحقيق للكشف عن ملابسات الحادث، والحديث عن ضرورة النظر في اعتقال النساء بسبب الحجاب. وظهر القمع في استخدام أقصى درجات القوة في التعامل مع المتظاهرين.

وقد بدأت وسائل الإعلام الإيرانية في الحديث عن تراجع التجمعات التي شهدتها المدن الإيرانية بنسبة 90 بالمئة، وعودة الهدوء إلى معظم المدن التي شهدت مواجهات[18].

ويظل السيناريو الثالث هو الأرجح، لانعدام إمكانية تراجع النظام عن الفرض الإجباري للحجاب، وتشديد القيادة الإيرانية على “ضرورة التعامل بحزم مع المخلين بالأمن العام”.  

خاتمة

اندلعت المظاهرات الاحتجاجية التي أعقبت موت مهسا أميني كحلقةٍ في سلسلة طالت، ويُنتظر لها أن تطول، من المظاهرات التي صارت الخيار الأول للشعب الإيراني الذي لم يعد لديه ما يخسره، بعد أن جرب الخضوع للنظام الحاكم حينًا، واختار المسار الإصلاحي حينًا آخر، ولكنه فقد الأمل في نهاية الأمر بسبب استعصاء النظام على الإصلاح، وفشل الإصلاحيّين في تحقيق الإصلاح الداخلي الذي وعدوهم به.

وتشير المؤشرات إلى أن هذه المظاهرات سوف تخمد لتشتعل من جديد مع أقرب أزمة يواجهها النظام، خاصة وأن الأزمات التي يعانيها الشعب الإيراني مرشحة للتزايد، ولا توجد حلول قريبة أو إصلاحات وشيكة بسبب السياسات التي يتبعها النظام، وتؤدي إلى عزلته وتعرضه للعقوبات التي أثقلت كاهل المواطنين.  

وعلى الرغم من اتساع نظاق المظاهرات الأخيرة، وتميزها بميزات عديدة، من حيث حجم المشاركة، ونوعية المشاركين، وانكسار حاجز الخوف، ومشاركة قطاعات من الأغلبية الصامتة، وتجاوز الانقاسامات العرقية، والشمول الجغرافي، فإنه من غير المرجح أن تتحول إلى حركة ثورية تغير شكل النظام الحالي، لأسباب عديدة، منها شدة القمع، وخبرة النظام في مواجهة الاحتجاجات، وضعف المجتمع المدني الإيراني، وعدم وجود معارضة موحدة ومنظمة لقيادة الشارع، وانعدام الرغبة الدولية في تغيير النظام الحالي، والدعم الروسي له.

ولهذا فإن إخماد هذه المظاهرات هو السيناريو الأرجح، ولكنها سوف تضيف شرخًا جديدًا إلى جسد النظام الذي تزداد شروخه يومًا بعد يوم.


[1] – الشرق الأوسط، طهران تُقر بمقتل 41 شخصاً واعتقال المئات منذ وفاة مهسا أميني، 25 سبتمبر/أيلول 2022، https://bit.ly/3r5Rsui

[2] – الجزيرة، تمدُّد الاحتجاجات على وفاة أميني في إيران.. هل تخشى طهرا، 22 سبتمبر/أيلول 2022، https://bit.ly/3LLZNx6

[3] – كيهان، انتقام ناكام دشمن از حماسه اربعين با اسم رمز گشت ارشاد، 29 شهريور 1401ش، https://bit.ly/3xPox1z

[4] – اعتماد، گشت ارشاد، 28 شهريور 1401ش، https://bit.ly/3BFLBRn

[5] – آرمان ملي، هراس از بايان سكوت خاتمي، 30 شهريور 1401ش، https://bit.ly/3xQBbNO

[6] –  VOA، حزب اتحاد ملت ایران خواستار لغو قانون حجاب اجباری شد، 30 شهريور 1401ش، https://bit.ly/3dFBEeM

[7] – إيران اينترنشنال، ولي عهد إيران السابق للعسكريين: انضموا للشعب وتوقفوا عن دعم النظام، 24 سبتمبر/أيلوا 2022، https://bit.ly/3DSYtGB

[8] –  WD، قضية مهسا أميني.. عقوبات أمريكية على “شرطة الأخلاق” بإيران، 23 سبتمبر/أيلول 2022، https://bit.ly/3f8nAe6

[9] – الحرة، “بناتكم في الغرب”.. موت مهسا أميني يفجر الغضب ضد المسؤولين الإيرانيين، 20 سبتمبر/أيلول 2022، ttps://arbne.ws/3RcVKLl

[10] – بهار نيوز، مهران مدیری، تلویزیون را تحریم کرد، ، 31 شهريور 1401ش، https://bit.ly/3SfsUem

[11] – ايران اينترناشنال، ۱۰۰ سینماگران ایرانی خطاب به نیروهای نظامی، 2 مهر 1401ش، https://bit.ly/3StarL4

[12] – ميدل ايست نيوز، مسؤول إيراني ينتقد بشدة مسعود بارزاني بعد اتصاله بعائلة الشابة الإيرانية “مهسا أميني”، 23 سبتمبر/أيلول 2022، https://bit.ly/3RcWwrm

[13] – العربي الجديد، الاحتجاجات في إيران: اعتقالات واسعة ومسيرات مضادة، 23 سبتمبر 2022، https://bit.ly/3f8jTFh

[14] – راديو فردا، “زنان یگان ویژه” پلیس ایران برای مقابله با معترضان زن وارد میدان شدند، 30 شهريور 1401ش، https://bit.ly/3RlcUGI

[15] Human Rights Watch, Social Media Harassment of Iran Researchers, Activists, 03-08-2021, https://bit.ly/3LGWjf0

[16] رؤية الإخبارية، خمسة أسباب تجعل روسيا تخشى من سقوط النظام الإيراني، 23 يناير/كانون الثاني 2018، https://bit.ly/3UxKKel

[17] المعهد الدولي لللدراسات الإيرانية، الاحتجاجات الإيرانية.. الأبعاد والتداعيات، 22 سبتمبر/أيلول 2022، ص17.

[18] –  RTعربي، إعلام إيراني: عودة الهدوء إلى معظم المدن الإيرانية والتجمعات انحسرت بنسبة 90٪، 24 سبتمبر/أيلول 2022، https://bit.ly/3xTTd1z

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى