مقالات

نتنياهو بين عقيدة القوة وإدارة الصراع

بنيامين نتنياهو، الذي يعد أحد أطول رؤساء الوزراء بقاءً في السلطة في إسرائيل، نجح في بناء شخصية سياسية معقدة تمزج بين عقيدة القوة وفن إدارة الصراع. في خضم الصراعات المتتالية التي شهدتها المنطقة، ظهر نتنياهو كلاعب رئيس يجمع بين التشدد العسكري والمرونة التكتيكية، حيث أن فلسفته الأمنية تقوم على أساس بسيط لكنه جذري: “لا سلام بدون الأمن، ولا أمن بدون القوة”. هذا المبدأ ليس مجرد شعار يتردد في المناسبات، بل هو عقيدة تهيمن على كل تحركاته وقراراته السياسية والعسكرية، منذ بداية مسيرته المهنية وإلى يومنا هذا. نتنياهو يعتقد أن القوة هي العامل الحاسم لتحقيق المكاسب وضمان بقاء إسرائيل وسط محيط من التهديدات، وهو إيمان تشكلت جذوره من خلال تجارب شخصية وعائلية عميقة. إن هذه الفلسفة، التي ترى أن القوة هي العامل الحاسم لتحقيق الردع والسيطرة، تجلت بوضوح في سياسته تجاه الفلسطينيين، لاسيما في قطاع غزة.

نشأ نتنياهو في عائلة مشبعة بالأفكار الصهيونية المتشددة. والده، كان مؤرخًا معروفًا متأثرًا بأفكار زئيف جابوتنسكي، الذي رأى أن القوة هي السبيل الوحيد لضمان بقاء الدولة اليهودية. هذه الأفكار انغرزت في وعي نتنياهو منذ صغره، وتعمقت مع انخراطه في الخدمة العسكرية في وحدة النخبة “سييرت متكال” إحدى وحدات الجيش الإسرائيلي، حيث شارك في عمليات نوعية خلف خطوط العدو. تجربة قتل أخيه الأكبر، يوناتان نتنياهو، خلال عملية عنتيبي في أوغندا عام 1976، كانت بمثابة صدمة عاطفية قوية عززت قناعته بأن القوة هي الوسيلة الوحيدة لضمان أمن إسرائيل.

منذ بداية حياته السياسية، شكلت خلفية نتنياهو العسكرية والنشأة العائلية المتأثرة بالفكر الصهيوني المتشدد مفاهيمه تجاه الأمن. فقد نشأ في بيت متأثر بأفكار زئيف جابوتنسكي، الذي رأى أن إسرائيل لا يمكنها البقاء دون الاعتماد على القوة الصلبة. هذه الأفكار كانت حجر الزاوية في كل القرارات الأمنية التي اتخذها نتنياهو خلال فترات حكمه المتعددة، سواء في الداخل الإسرائيلي أو في التعامل مع التحديات الخارجية.

أولى تجليات فلسفته الأمنية ظهرت خلال فترة حكمه الأولى في التسعينيات، حيث عارض بشدة اتفاقية أوسلو وأصر على تعزيز الأمن الإسرائيلي من خلال بناء المستوطنات وتوسيعها في الضفة الغربية. وبدلًا من البحث عن حلول سلمية، اعتبر أن الاستيطان وتوسيع السيطرة المادية على الأرض جزء من استراتيجية الردع الكبرى. من وجهة نظره، كانت الضفة الغربية والجليل مناطق حيوية تضمن استمرار الهيمنة الإسرائيلية، في حين اعتبر أن أي تراجع أمام الفلسطينيين سيُفسر على أنه ضعف قد يُشجع المقاومة. لذلك كان يُصر نتنياهو أثناء المفاوضات لإبرام اتفاق أوسلو على أن الأمن يجب أن يكون الأولوية القصوى، وأن القوة العسكرية هي الضمان الوحيد لهذا الأمن. خلال تلك الفترة، عمل على تعزيز المستوطنات في الضفة الغربية وعرقلة أي تقدم حقيقي في المفاوضات حول القضايا الحساسة مثل القدس واللاجئين، مؤكداً أن التراجع في هذه الملفات سيكون بمثابة تهديد وجودي لإسرائيل وأمنها.

عندما عاد إلى السلطة في عام 2009، ازدادت مواقفه صرامة، وأكثر تمسكًا بفلسفته الأمنية. حيث برز التهديد الإيراني كأحد أهم محاور سياساته الخارجية، حيث اعتبر أن إيران تمثل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل. استخدم نتنياهو هذه الحجة لتبرير استمراره في تعزيز القوة العسكرية الإسرائيلية. وقد بنى استراتيجيته على تعزيز القوة العسكرية الإسرائيلية، بما في ذلك التحالفات العسكرية القوية مع الولايات المتحدة، لفرض عقوبات قاسية وإعداد البنية التحتية لعمل عسكري محتمل. والتأكيد على أن أي تهديد خارجي يجب مواجهته بالقوة المفرطة لضمان عدم تكرار ما يراه كـ”ضعف” إسرائيل في الماضي.

في الوقت ذاته، لم يكن نتنياهو يغفل عن الساحة الفلسطينية. فقد كان واضحًا منذ البداية أن غزة تمثل تحديًا أمنيًا دائمًا، لكنه يرى أن هذا التحدي يجب التعامل معه بالقوة المفرطة لضمان الردع الكامل. في كل جولة من الصراع مع غزة، تبنت حكومته نهجًا يعتمد على استخدام القوة المفرطة، سواء من خلال الضربات الجوية المكثفة أو العمليات البرية. هدفه الأساسي من هذه الاستراتيجية هو فرض معادلة جديدة تجعل المقاومة الفلسطينية غير قادرة على توجيه أي ضربات موجعة لإسرائيل. وقد قال في إحدى خطاباته المتكررة: “إن أي محاولة لإضعاف إسرائيل ستواجه بقوة لا حدود لها“، وهو تصريح يعكس بوضوح رؤيته التي تعتبر القوة وسيلة لفرض الأمن، وأن التراجع أمام المقاومة أو تقديم تنازلات سيضعف موقف إسرائيل استراتيجيًا.

على الرغم من اعتماده على القوة العسكرية، فإن فلسفة نتنياهو لم تكن خالية من المعارضة. داخل المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، ظهرت أصوات ترى أن استخدام القوة المفرطة في غزة قد يأتي بنتائج عكسية، حيث يعزز من مشروعية المقاومة الفلسطينية ويزيد من التعاطف الدولي معها. بعض المسؤولين في الجيش الإسرائيلي و”الشاباك” كانوا يعتقدون أن الاستراتيجية الأمنية يجب أن تتضمن أيضًا مسارات دبلوماسية وتفاهمات سياسية لتجنب تصاعد العنف. إلا أن نتنياهو، وبنفوذه السياسي الواسع وتحالفاته الداخلية، تمكن من تحجيم هذه الأصوات وتوجيه دفة السياسة الأمنية نحو تكثيف العمليات العسكرية والاعتماد على القوة المفرطة لفرض الاستقرار.

ضمن هذه السياسات، ركز نتنياهو بشكل خاص على مشروع “محور فيلادلفيا” كجزء من استراتيجيته لفرض السيطرة الكاملة على غزة. هذا المشروع يهدف إلى قطع صلة غزة بالعالم الخارجي ومنع تهريب الأسلحة عبر الأنفاق الحدودية مع مصر. كما استمر في فرض الحصار البحري والجوي على القطاع، حيث يرى أن أي تراجع عن هذه السياسات قد يُفسر كعلامة ضعف ويشجع حركة حماس والفصائل الفلسطينية على تصعيد عملياتها ضد إسرائيل. فقد صرح نتنياهو ذات مرة: “لن نسمح بأن يتحول قطاع غزة إلى قاعدة لتهديد إسرائيل”، وهذه العبارة تلخص رؤيته التي تربط بين السيطرة الميدانية وتحقيق الردع على المدى الطويل.

إضافة إلى ذلك، فإن فكرة “البقاء في غزة” شكلت محورًا مهمًا في استراتيجية نتنياهو لتعطيل الحلول السياسية. فرغم الضغوط الدولية والمبادرات المختلفة لإنهاء الصراع، كان نتنياهو دائمًا يعتبر أن انسحاب إسرائيل من غزة أو تخفيف الحصار المفروض على القطاع سيؤدي إلى كارثة استراتيجية. يرى أن هذا سيعزز من مكانة حماس ويجعل من الصعب على إسرائيل فرض شروطها في أي مفاوضات مستقبلية. كما كان موقفه ثابتًا في رفض أي تراجع أو تقديم تنازلات فيما يخص غزة، حيث قال في إحدى خطاباته: “لن يكون هناك حل سياسي بدون القضاء على التهديدات الأمنية بالكامل”.

من ناحية أخرى، استطاع نتنياهو تحقيق توازن دقيق بين سياساته الأمنية وعلاقاته مع التيارات الدينية المتشددة. عبر تحالفه مع شخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، عزز موقعه السياسي وواجه المعارضة الداخلية. هذه الشخصيات، التي تتبنى أفكارًا أكثر تطرفًا من نتنياهو، دعمت مشاريعه في الضفة الغربية، بما في ذلك مشروع الترحيل والسيطرة على المسجد الأقصى والقدس، مما ساعده على تمرير سياسات أمنية أكثر صرامة.

لكن في السابع من أكتوبر 2023، واجهت فلسفة نتنياهو القائمة على الردع بالقوة تحديًا غير مسبوق، عندما تمكنت المقاومة الفلسطينية من توجيه ضربة مفاجئة داخل إسرائيل. هذه العملية مثلت فشلاً ذريعًا لنظرية الردع التي طالما اعتمد عليها نتنياهو، حيث أظهرت أن القوة العسكرية وحدها لا يمكنها ضمان الأمن بشكل كامل. الهجوم كشف نقاط ضعف في الاستراتيجية الإسرائيلية، وزاد من الضغوط الداخلية على نتنياهو، سواء من المؤسسة العسكرية أو من الإسرائيليين أنفسهم، الذين بدأوا يفقدون الثقة في قدرة حكومتهم على الحفاظ على الأمن.

المقاومة الفلسطينية، من خلال هجومها غير المسبوق، أثبتت أن القوة المفرطة ليست الحل الأمثل لضمان الردع، بل يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية. فشلت فلسفة نتنياهو في منع هذا الهجوم الكبير، مما أثار تساؤلات عميقة حول مدى فعالية استراتيجيته. ويأتي هذا في وقت يتزايد فيه الضغط على نتنياهو داخليًا وخارجيًا، مما يجعل قدرته على إدارة الصراع وفرض رؤيته للأمن موضع تساؤل كبير.

نتنياهو يعكس في كل مرحلة من مسيرته السياسية فلسفة تعتمد على القوة كأداة لتحقيق الأمن والبقاء. هو يدرك تمامًا أن أي محاولة لتقويض هذه الفلسفة من الداخل أو الخارج قد تهدد مكانته السياسية وتضعف موقف إسرائيل في الصراع الإقليمي. ولذا، يبقى متمسكًا باستخدام القوة كأداة أساسية، معتمدًا على استراتيجية تعتمد على الحصار والسيطرة المطلقة، ليس فقط كوسيلة للردع ولكن أيضًا كوسيلة لفرض إرادة إسرائيل على خصومها. هذه الفلسفة جعلت من نتنياهو زعيمًا متشبثًا بالحلول العسكرية، رافضًا للتنازل أو التفاوض عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل، ومتمسكًا بالقوة كضمان وحيد للبقاء.

رغم كل ذلك، يظل نتنياهو متمسكًا بفلسفة القوة، مؤمنًا أن الردع يأتي من استخدام القوة الحاسمة في كل مواجهة مع الفلسطينيين. ومع استمرار الصراع وتصاعد التوترات في غزة، يبقى السؤال الأكبر: هل ستظل فلسفة نتنياهو الأمنية قادرة على مواجهة التحديات المتزايدة، أم أن الجبهات المشتعلة ستجبره على إعادة التفكير في استراتيجية جديدة تعترف بمحدودية القوة وتفتح المجال لحلول سياسية ودبلوماسية؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى