نشرت صحيفة “نيويورك تايمز“، في 21 سبتمبر 2024، تقريرًا عن توسع الإمارات في حملة سرية لدعم طرف معين في السودان، وقيامها بتهريب الأسلحة ونشر الطائرات المُسيَّرة تحت راية الهلال الأحمر. أعد ديكلان والش التقرير من السودان وتشاد وسويسرا، بينما قام كريستوف كويتل بتحليل صور الأقمار الصناعية وسجلات الرحلات الجوية وغيرها من المواد. وفيما يلي يقدم “منتدى الدراسات المستقبلية” ترجمة كاملة للتقرير.
تحلق الطائرات المُسيَّرة فوق الصحاري الشاسعة على طول الحدود السودانية، موجهة القوافل التي تهرب الأسلحة غير المشروعة إلى مقاتلين متهمين بارتكاب فظائع واسعة النطاق وعمليات تطهير عرقي.
تحلق هذه الطائرات فوق مدينة محاصرة تقع في قلب المجاعة المروعة في السودان، لتقدم الدعم لقوة شبه عسكرية لا تعرف الرحمة، قامت بقصف المستشفيات، ونهب شحنات الإغاثة الإنسانية، وإحراق آلاف المنازل، وفقًا لما تقوله منظمات الإغاثة.
تنطلق هذه الطائرات المُسيَّرة من قاعدة تقول الإمارات إنها تدير منها جهودًا إنسانية لصالح الشعب السوداني، كجزء مما تصفه بـ”أولويتها العاجلة” لإنقاذ الأرواح البريئة ومنع المجاعة في أكبر الحروب في إفريقيا.
لكن الحقيقة هي أن الإمارات تلعب لعبة مزدوجة قاتلة في السودان، هذا البلد الذي مزقته واحدة من أكثر الحروب الأهلية الكارثية في العالم. فوفقًا لمسؤولين ومذكرات دبلوماسية داخلية وصور الأقمار الصناعية التي حللتها صحيفة نيويورك تايمز، تسعى هذه الدولة الخليجية الغنية بالنفط إلى ترسيخ دورها كصانعة ملوك في المنطقة، حيث توسع حملتها السرية لدعم أحد الأطراف في السودان، من خلال تمويل المقاتلين وتزويدهم بالأسلحة، والآن تستخدم الطائرات المُسيَّرة القوية التي أصبحت تجتاح البلاد لتحقيق ذات الهدف.
ففي الوقت الذي تقدم فيه الإمارات نفسها للعالم كمدافع عن السلام والحلول الدبلوماسية والمساعدات الدولية، فإنها في الواقع، ووفقًا لصور الأقمار الصناعية وتصريحات المسؤولين الأمريكيّين، تستخدم أحد أشهر رموز الإغاثة في العالم، وهو الهلال الأحمر، نظير الصليب الأحمر ، كغطاء لعملياتها السرية التي تشمل إرسال الطائرات المسيرة إلى السودان وتهريب الأسلحة إلى المقاتلين.
ورغم أن الحرب في هذا البلد الواسع الغني بالذهب والذي يمتد ساحله على البحر الأحمر لمسافة تقارب 500 ميل، قد تأججت بفعل تدخل العديد من الدول الأجنبية، مثل إيران وروسيا، حيث تقوم هذه الدول بتزويد الأطراف المتحاربة بالأسلحة على أمل ترجيح كفة الصراع لصالحها من أجل تحقيق الأرباح المادية أو المكاسب الاستراتيجية الخاصة بها – بينما يجد الشعب السوداني نفسه عالقًا في وسط هذه المعركة – على الرغم من كل ذلك، إلَّا أن الإمارات تلعب الدور الأكبر والأكثر تأثيرًا على الإطلاق، وفقًا لما يقوله المسؤولون الأمريكيون (لصحيفة نيويورك تايمز)، حيث تظهر أبوظبي علنًا التزامها بتخفيف معاناة السودانيّين بينما هي تعمل في الخفاء من أجل تأجيج الحرب.
إن الجوع يطارد السودانيّين. وقد تم الإعلان رسميًّا عن حالة المجاعة خلال الشهر الماضي بعد ما يقرب من 18 شهرًا من الاقتتال الذي أودى بحياة عشرات الآلاف وتشريد ما لا يقل عن 10 ملايين شخص في أسوأ أزمة نزوح يشهدها العالم، وذلك وفقًا لبيانات الأمم المتحدة، حيث تصف منظمات الإغاثة الإنسانية هذه الكارثة بأنها “تاريخية”.
وتدعي الإمارات “وبشكل قاطع” أنها لا تقوم بتسليح أو دعم “أي من الأطراف المتحاربة” في السودان. بل على العكس من ذلك، تؤكد أنها “قلقة للغاية من الكارثة الإنسانية المتفاقمة بسرعة هناك” وتقول إنها تدفع باتجاه “وقف فوري لإطلاق النار”.
ورغم هذه الادعاءات ظلت الإمارات ولأكثر من عام، تدعم سرًا قوات الدعم السريع، هذه المجموعة شبه العسكرية التي تقاتل الجيش السوداني للسيطرة على ثالث أكبر دولة في إفريقيا.
وكان تحقيق أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” العام الماضي قد كشف عن عملية لتهريب الأسلحة الإماراتية للسودان، وفي يناير الماضي تم تأكيد صحة هذه المعلومات من قبل محققين تابعين للأمم المتحدة، حيث وصلوا لأدلة “موثوقة” تؤكد أن الإمارات كانت تخترق حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على السودان منذ عقدين.
والآن، يواصل الإماراتيون حملتهم السرية هذه، حيث يتم تشغيل طائرات مُسيَّرة قوية صينية الصنع، وهي الأكبر على الإطلاق التي تم نشرها في حرب السودان، منطلقة من مطار عبر الحدود في تشاد، جهّزه الإماراتيون ووسعوه ليصبح مطارًا عسكريًّا مجهزًا بالكامل لهذا الغرض.
وتُظهِر صور الأقمار الصناعية أيضًا أنه تم بناء حظائر للطائرات كما تم تركيب محطة تحكم بالطائرات المسيرة في المطار. كما يظهر تحليل نيويورك تايمز أيضًا للبيانات الخاصة بتتبع الرحلات الجوية أن العديد من طائرات الشحن التي هبطت في هذا المطار خلال الحرب الحالية كانت قد نقلت سابقًا أسلحة تابعة للإمارات إلى مناطق نزاع أخرى، مثل ليبيا، حيث اتُهم الإماراتيون أيضًا بانتهاك حظر الأسلحة.
ويقول مسؤولون أميركيون إن الإماراتيّين يستخدمون المطار حاليًا لتشغيل طائرات مُسيَّرة عسكرية متطورة لتزويد قوات الدعم السريع بمعلومات استخبارية في ساحات المعارك، كما يستخدمونها لمرافقة شحنات الأسلحة للمقاتلين في السودان، لمراقبة أية كمائن قد تعترضها.
وتوصلت صحيفة نيويورك تايمز من خلال تحليل صور الأقمار الصناعية، إلى تحديد نوع الطائرة المسيرة المستخدمة في هذا المجال، وهي من نوع “وينج لونج 2”، وهي طائرة صينية تُقارن غالبًا بطائرة “إم كيو-9 ريبر” التابعة لسلاح الجو الأميركي.
كما تُظهِر الصور وجود ما يبدو أنه مخزن ذخيرة في المطار المعني، بالإضافة إلى محطة تحكم أرضية للطائرات المُسيَّرة “وينج لونج” بجانب المدرج، وذلك على بعد حوالي 750 ياردة فقط من المستشفى الذي تديره الإمارات، والذي عالجت فيه المصابين من مقاتلي قوات الدعم السريع.
وتمتلك الطائرات المُسيَّرة من نوع وينج لونج القدرة على الطيران لمدة 32 ساعة، ولمدى يصل إلى 1000 ميل، ويمكنها حمل ما يصل إلى اثني عشر صاروخًا أو قنبلة. وطبقًا لما يقوله المسؤولون الأمريكيون فإنه وحتى الآن، لا يبدو أن هذه الطائرات المُسيَّرة تشن ضربات جوية خاصة بها في السودان، لكنها تقوم بعمليات المراقبة وتحديد الأهداف في ساحات المعارك الفوضوية هناك.
ويقول جيه مايكل دهم، وهو زميل بارز في معهد ميتشل لدراسات الفضاء الجوي في ولاية فرجينيا، إن هذا يجعل هذه المسيرات “عامل قوة مضاعف كبير”.
ووفقًا لما يقوله الخبراء والمسؤولون الأمريكيون فإن هذه الطائرات المسيرة قد يتم توجيهها عن بُعد من الأراضي الإماراتية، بعد أن تقلع من هذه القاعدة. وقد تم رصد هذه المسيرات في الآونة الأخيرة وهي تقوم بدوريات في سماء مدينة الفاشر السودانية التي تعاني من الجوع حيث تحاصرها قوات الدعم السريع، هذه المدينة التي يقطنها ما يقرب من مليوني شخص، حيث تتصاعد المخاوف هناك من أن هذه الحرب قد يَنتج عنها ارتكاب المزيد من الفظائع.
ويضغط المسؤولون الأمريكيون على جميع الأطراف المتحاربة لإنهاء المجازر. وقد واجهت نائبة الرئيس كامالا هاريس زعيم الإمارات، الشيخ محمد بن زايد، بشأن دعم بلاده لقوات الدعم السريع خلال لقائهما في ديسمبر الماضي، حسبما أفاد مسؤولون مطلعون على المحادثة، كما دعا الرئيس بايدن هذا الأسبوع إلى إنهاء “الحرب العبثية” هناك، قائلًا إن حصار قوات الدعم السريع الوحشي والمستمر منذ شهور على الفاشر “أصبح هجومًا شاملاً”.
ومن المتوقع أن يُثار هذا الموضوع مرة أخرى عندما يستضيف بايدن والسيدة هاريس زعيم الإمارات في البيت الأبيض لأول مرة يوم الاثنين (تمَّت المقابلة بالفعل خلال ترجمة المقال). حيث قال المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي إن هذا الحصار “يجب أن يتوقف”.
لا يمكنهم الكذب علينا بعد الآن
إن كلا الجانبين في الحرب الأهلية السودانية متهم بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك بعض الاعتداءات الوحشية التي تم تصويرها من قبل المقاتلين أنفسهم.
وكانت الحرب قد اندلعت في عام 2023 عندما تحول صراع على السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع – وهي قوات محاربة ساعد الجيش في إنشائها منذ البداية – إلى تبادل لإطلاق النار في شوارع العاصمة الخرطوم، وسرعان ما انتشر ليشمل البلاد بأكملها.
وخلال هذه الحرب قامت الطائرات العسكرية السودانية بقصف المدنيّين، بينما اتهمت مجموعات حقوق الإنسان قوات الدعم السريع بالتطهير العرقي والقصف العشوائي الذي دمر المستشفيات والمنازل ومستودعات المساعدات الإنسانية.
وفي مدينة الفاشر، اتهمت منظمة أطباء بلا حدود الجيش السوداني بقصف مستشفى للأطفال، كما اتهمت قوات الدعم السريع بنهب الطعام المخصص لمعسكر يضم 400 ألف شخص يعانون من الجوع.
وفي حين يأمل عمال الإغاثة الإنسانية في إسقاط الطعام جوًّا إلى مدينة الفاشر، التي وصفها توبى هارورد، وهو أكبر مسؤول في الأمم المتحدة عن دارفور، بأنها “جحيم على الأرض”، فإن الإمارات تصر على أنها تحاول ببساطة إيقاف الحرب ومساعدة ضحاياها، حيث قدمت 230 مليون دولار من المساعدات و10 آلاف طن من الإمدادات الإغاثية، ولعبت دورًا بارزًا في محادثات السلام الأخيرة التي قادتها الولايات المتحدة في سويسرا.
وقالت لانا نسيبة، مساعدة وزير الخارجية الإماراتي للشؤون السياسية، بعد ذلك إن “الإمارات لا تزال ملتزمة بدعم شعب السودان في استعادة السلام”.
وقد حاول كبار المسؤولين الأمريكيين سرًا إقناع الإمارات بالتخلي عن عملياتها السرية، وواجهوها بوضوح بالمعلومات الاستخبارية الأمريكية حول ما تفعله داخل السودان، وذلك وفقًا لما قاله خمسة من المسؤولين الأمريكيّين المطلعين على المحادثات بين الجانبين (لصحيفة نيويورك تايمز).
ويقول بعض المسؤولين الأمريكيّين إن زعيم الإمارات الشيخ محمد بن زايد قدم ما اعتبروه اعترافًا ضمنيًّا بتهريب الأسلحة للسودان، بعد أن أثارت نائبة الرئيس هاريس معه اعتراضات بلادها على هذا الأمر.
ففي تلك المباحثات لم يعترف الشيخ محمد بن زايد بالدعم المباشر لقوات الدعم السريع، لكنه قال إنه مدين للفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بسبب إرساله قوات للقتال إلى جانب الإمارات في حرب اليمن، وفقًا لما ذكره مسؤولان أمريكيان مطلعان على المحادثة.
وأضاف الشيخ محمد، وفقًا لهؤلاء المسؤولين الأمريكيّين، إنه يرى في قوات الدعم السريع حصنًا ضد الحركات السياسية الإسلامية في المنطقة، التي تعتبرها الأسرة الحاكمة الإماراتية منذ فترة طويلة تهديدًا لسلطتها.
ولم ترد الحكومة الإماراتية على الأسئلة (التي وجهتها لها نيويورك تايمز) بشأن هذه المحادثة.
وقال مسؤول أمريكي، طلب عدم نشر اسمه، لأنه شأنه شأن المسؤولين الآخرين الذين تحدثوا للصحيفة، غير مصرح له بالتحدث علنًا عن المعلومات الاستخباراتية: “لم يعد بإمكانهم (الإماراتيين) الكذب علينا، لأنهم يعلمون أننا نعلم”.
واتهمت منظمات الإغاثة الانسانية الإمارات بتشغيل “عملية مساعدات وهمية” لإخفاء دعمها لقوات الدعم السريع، حسبما قال جيريمي كويندايك، رئيس منظمة اللاجئين الدولية والمسؤول السابق في إدارة أوباما وبايدن.
وأضاف قائلًا “إن الإماراتيّين يريدون أن يلعبوا على الحبلين. يريدون أن يتصرفوا كجهة متمردة، يدعمون الميليشيات عملائهم، ويغضون الطرف عما تفعله هذه الميليشيات بأسلحتهم. وفي نفس الوقت، يريدون أن يظهروا كعضو بناء وملتزم بالقوانين في النظام الدولي”.
إن الحرب الأهلية في السودان حولت هذه البلاد، ذات الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر، إلى ساحة مستباحة للتدخلات العالمية. فقد زودت إيران الجيش السوداني بطائرات مُسيَّرة، قاتلت إلى جانب القوات الخاصة الأوكرانية في العاصمة الخرطوم. (ملاحظة المترجم: وفقا لتقرير سابق لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية فإن الجنرال عبدالفتاح البرهان استعان بقوات كوماندوز أوكرانية لإخراجه من الحصار الذي فرضه عليه خصمه حميدتي في الخرطوم في أغسطس 2023، حيث استعان حميدتي في حينها بقوات فاجنر الروسية). كما وقفت مصر إلى جانب الجيش.
أما روسيا فقد لعبت على الجانبين، ففي البداية ووفقًا لمفتشي الأمم المتحدة، فإن مرتزقة فاجنر زودوا قوات الدعم السريع بالصواريخ. لكن في الآونة الأخيرة، طبقًا لما يقوله المسؤولون الأمريكيون فإن الكرملين انحاز للجيش السوداني، وعرض عليه أسلحة مقابل وصول الروس إلى ساحل السودان على البحر الأحمر.
ووفقًا لمسؤولين أمريكيّين فإن الحوثيّين في اليمن أرسلوا من جانبهم شحنات من الأسلحة إلى الجيش السوداني بناءً على طلب إيران، كما أرسلت قطر الغنية بالغاز ست طائرات حربية صينية للجيش السوداني. لكن قطر والحوثيّين نفوا إرسال مساعدات عسكرية للسودان.
وخلص هؤلاء المسؤولون إلى أن الإمارات أرسلت أيضًا مجموعة من الأسلحة إلى السودان. وكتب سفير الاتحاد الأوروبي في السودان، أيدان أوهارا في فبراير مذكرة سرية، حصلت عليها نيويورك تايمز، أن “تسليم الطائرات المًسيَّرة ومدافع الهاوتزر وقاذفات الصواريخ المتعددة وأنظمة الدفاع الجوي المحمولة إلى قوات الدعم السريع من قبل الإمارات ساعدت هذه القوات على تحييد التفوق الجوي للجيش السوداني”.
واحتوت المذكرة على مزاعم أخرى مروعة منها أن السعودية قدمت أموالًا للجيش السوداني الذي استخدمها لشراء طائرات مُسيَّرة إيرانية؛ وأن هناك ما يصل إلى 200 ألف مرتزق أجنبي يقاتلون إلى جانب قوات الدعم السريع؛ وأن مرتزقة فاجنر دربوا قوات الدعم السريع على استخدام الصواريخ المضادة للطائرات التي أرسلتها الإمارات.
ويبدو أن الدور الإماراتي في السودان هو جزء من سياسة أوسع نحو إفريقيا، ففي العام الماضي، أعلنت الإمارات عن استثمارات بقيمة 45 مليار دولار عبر القارة السمراء، ووفقًا للمحللين فإن هذا المبلغ يقارب ضعف ما استثمرته الصين. وفي الآونة الأخيرة، توسعت الإمارات في بزنس جديد هو الحرب.
ففي عام 2021، غيرت الإمارات مجرى الحرب الأهلية في إثيوبيا عبر تزويد رئيس الوزراء بالطائرات المُسيَّرة المسلحة في لحظة حاسمة من الصراع، مما ساعده في النهاية على تحقيق النصر، ويبدو الآن أن أبوظبي تحاول تكرار نفس الأمر في السودان مع قوات الدعم السريع.
خط إمداد الأسلحة
في العام الماضي، عندما بدأت طائرات الشحن في الهبوط في مطار أم جرس، على بعد 600 ميل شرق العاصمة التشادية نجامينا، قالت الإمارات إنها جاءت لإنشاء مستشفى ميداني للاجئين السودانيّين.
ولكن في غضون أشهر، اكتشف المسؤولون الأمريكيون أن المستشفى الذي بلغت تكلفته 20 مليون دولار كان يعالج وفي هدوء، مقاتلي قوات الدعم السريع وليس اللاجئين، وأن طائرات الشحن كانت تحمل أيضًا أسلحة تم تهريبها لاحقًا إلى هؤلاء المقاتلين داخل السودان.
وأظهر تحليل نيويورك تايمز للصور الفضائية وسجلات الرحلات الجوية أن الإماراتيّين أقاموا نظام الطائرات المُسيَّرة في نفس الوقت الذي كانوا يروجون فيه لعملياتهم الإنسانية.
ووفقًا لما قاله مسؤولان أمريكيان مطلعان على مكالمة هاتفية طويلة تمَّت بين مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن جيك سوليفان مع نظيره الإماراتي في أوائل مايو، فقد أشار سوليفان إلى معلومات استخبارية أمريكية تم رفع السرية عنها ليتمكن من مشاركتها مع مسؤول أجنبي تفيد بأن الوثائق تظهر دعم الإمارات العسكري لقوات الدعم السريع.
لكن يبدو أن الوضوح الأمريكي مع الجانب الإماراتي لم يكن له تأثير يذكر، حيث يقول المسؤولون الأمريكيون والشهود في تشاد إن الإمارات زادت من دعمها لقوات الدعم السريع في الأشهر الأخيرة.
وتقول المصادر إنه على الرغم من أن عدد رحلات الشحن الجوي التي تهبط في مطار أم جرس أصبح أقل، حيث يسهل اكتشافها، إلَّا أن نسبة أكبر من الإمدادات تصل عبر الشاحنات الأرضية، وغالبًا على طرق تتجنب السير عبر المدن والبلدات الرئيسية.
كما يتم العثور على آثار الأسلحة الموردة من الإمارات في ساحات القتال، حيث تعرفت منظمة هيومن رايتس ووتش مؤخرًا على صواريخ صربية الصنع، أُطلِقت من طائرة مُسيَّرة غير محددة، وقالت إن هذه الصواريخ بيعت أصلاً إلى الإمارات.
وقال رئيس وزراء تشاد السابق سوكسيس ماسرا، “إنه أمر واضح جدًا: الإمارات ترسل الأموال، والإمارات ترسل الأسلحة”.
وأضاف ماسرا أنه أبلغ رئيس بلاده محمد إدريس ديبي، بعد شكاوى من المسؤولين الغربيّين، أن السماح للإمارات بتمرير الأسلحة عبر تشاد كان “خطأً فادحًا”.
لكن لم يتغير شيء. فقد وعدت الإمارات السيد ديبي بقرض قيمته 1.5 مليار دولار، وهو ما يقارب ميزانية تشاد الوطنية البالغة 1.8 مليار دولار قبل عام.
كما تدعم الإمارات قوات الدعم السريع بطرق أخرى أيضًا. ففي وقت سابق من هذا العام، نقلت طائرة إماراتية خاصة الجنرال حميدتي في جولة إلى ست دول إفريقية، حيث تم استقباله فيها كرئيس دولة.
بالإضافة لذلك، تعتبر إمارة دبي، مركزًا لإمبراطورية البزنس الخاص بقوات الدعم السريع، الذي يرتكز على تجارة الذهب. وقد فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على ما وصفته بـ”شركات الواجهة” لقوات الدعم السريع وأدرجت مؤخرًا سبع شركات إماراتية تحت التحقيق بشبهة ارتباطها بهذه القوات شبه العسكرية.
كما يقيم شقيق الجنرال حميدتي، الغوني حمدان، البالغ من العمر 34 عامًا، في دبي منذ عام 2014 وقد تم استهدافه بالعقوبات الأمريكية. ومع ذلك، فهو الآن يقدم نفسه كوسيط لجهود السلام المتعثرة في السودان، وقد استهزأ بالإجراءات الأمريكية ضده أثناء حديثه في سويسرا خلال المحادثات الشهر الماضي، قائلًا “إذا كان هذا الأمر يجلب السلام للسودان، فليعاقبوا أكبر عدد من الشركات التي يريدون”. كما اعترف بأن بعض قوات الدعم السريع قد ارتكبت بعض التجاوزات، لكنه أصر على أن الإمارات لا تقدم دعمًا لقوات الدعم السريع. وقال: “لا يوجد دليل على أي شيء من هذا، إنه مجرد دعاية كاذبة”.
رمز الإغاثة المحترم
لقد أقلقت العمليات الإماراتية في تشاد الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهي أحد أقدم حركات الإغاثة الانسانية وأكثرها احترامًا في العالم.
وقال توماسو ديلا لونجا، المتحدث باسم الصليب الأحمر، إن الاتحاد علم من التقارير الإخبارية فقط أن الهلال الأحمر الإماراتي قد أنشأ مستشفى في أم جرس مشيرًا إلى أن الهلال الأحمر الإماراتي، الذي تموله الحكومة الإماراتية، لم يبلغ الاتحاد الدولي بهذا الأمر كما كان يجب.
ورغم ذلك، تفاخر الإماراتيون بكرمهم وسخائهم، فقد أظهرت دعاية الحكومة عمالًا يفرغون حاويات الشحن ويعالجون المرضى تحت شعار الهلال الأحمر. الجدير بالذكر أن رمز الهلال الأحمر يعود إلى سبعينيات القرن التاسع عشر ويحميه قانونيًّا اتفاقيات جنيف، ويمكن أن تمثل إساءة استخدام هذا الرمز جريمة حرب محتملة.
وقال المتحدث باسم الصليب الأحمر السيد ديلا لونجا إن الصليب الأحمر أرسل بعثات تقصي حقائق إلى تشاد في عامي 2023 و2024 “لفهم ما تفعله الإمارات تحت شعار الهلال الأحمر في أم جرس”، وذلك بسبب القلق من أن تكون سمعتهم وحيادهم في خطر، لكنهم لم يجدوا إلَّا القليل من الإجابات.
وقال ديلا لونجا إنه عندما وصل المسؤولون، تم منعهم من دخول المستشفى الميداني الإماراتي لأسباب “أمنية” غير محددة، وفي النهاية غادر المسؤولون تشاد دون أن تطأ أقدامهم المستشفى. ولم يرد الهلال الأحمر الإماراتي على الأسئلة.
وقال المسؤول في منظمة اللاجئين الدولية السيد كويندايك، “إننا لم نسمع” عن منظمة إغاثة إنسانية تمنع مسؤوليها من زيارة مستشفى من المفترض أنه يعالج اللاجئين.
وأضاف قائلا “يبدو أن الإمارات تستغل الهلال الأحمر كغطاء لعمليات تسليح موثقة، لميليشيا ترتكب الفظائع في دارفور”.
وفي يونيو الماضي، قالت السلطات الإماراتية إنها عالجت ما يقرب من 30 ألف مريض في هذا المستشفى وأنها تخطط لتوسيعه، بينما يقول السكان في أم جرس إن المستشفى يفتح أبوابه لمدة أربع ساعات فقط يوميًّا.
وفي أبريل الماضي، افتتحت الإمارات مستشفى ميدانيًّا ثانيًا في تشاد، في مدينة أبشي. وعندما زارت نيويورك تايمز في يوليو الماضي هذه المبنى الجديد الذي يضم 80 سريرًا، عرض الأطباء بسهولة تنظيم جولة في أجنحته المجهزة تجهيزًا جيدًا، حيث قال مدير المستشفى، الدكتور خالد محمد، إنهم يستقبلون ما يصل إلى 250 مريضًا يوميًّا.
وقال إن شركة إماراتية خاصة تدير هذا المستشفى، وليس لها أي علاقة بالصليب الأحمر أو الهلال الأحمر. لكن المستشفى يغلق أبوابه عند الساعة الرابعة مساءً كل يوم، مما يحد من الخدمات الطبية التي يمكن تقديمها.
ويؤكد الصليب الأحمر أنه لا يزال يحاول معرفة ما تفعله الإمارات هناك. وقال السيد ديلا لونجا، المتحدث باسم الصليب الأحمر، عن التحقيق في مستشفى أم جرس “ إن العملية لم تنته بعد”. وأضاف قائلًا “نريد الوصول إلى الحقيقة”.
موازنة إيران
ومع غرق السودان فيما يسميه العديد من الخبراء أكبر أزمة إنسانية في العالم، يقول المسؤولون الأمريكيون إنهم أصبحوا أكثر تركيزًا من أي وقت مضى على هذا النزاع، حيث نظم وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، محادثات السلام التي تمت الشهر الماضي في سويسرا على الرغم من فرصها الضئيلة في إنهاء القتال.
كما تدخل السيد سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، بشكل مباشر مع المسؤولين السعوديّين عندما بدا أنهم يعرقلون المحادثات، وفقًا لثلاثة أشخاص مطلعين على التفاعلات.
لكن إدارة بايدن منقسمة بشأن مسألة أساسية هي: إلى أي مدى يجب أن تضغط على الإمارات؟
وقد كشف عدة مسؤولين أن الإماراتيّين أبدوا ردود فعل غاضبة عندما أشار المبعوث الأمريكي إلى السودان، توم بيرييلو، في بودكاست يوم 4 سبتمبر إلى أنه يدعم مقاطعة الإمارات التي دعا إليها مغني الراب ماكليمور، هذا المغني الذي ألغى مؤخرًا حفلة كانت مقررة في دبي بسبب دور الإمارات في السودان.
وقال السيد بيرييلو في البودكاست “لم أتوقع أن يكون المغني ماكليمور هو بطل السودان”.
وقد شعر بعض كبار المسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية أن السيد بيرييلو قد تجاوز حدوده، بينما شعر آخرون بالحرج من فكرة تقديم التنازلات للإمارات من أجل الحفاظ على العلاقات الجيدة معها.
وتعكس هذه الخلافات الأمريكية الحدود التي يمكن الذهاب إليها في تحدي الإمارات، وهي دولة تعتمد عليها الولايات المتحدة في العديد من أولوياتها العالمية. فالإمارات حليف قوي ضد إيران، وهي واحدة من الدول الموقعة على اتفاقيات إبراهام مع إسرائيل، وقد يكون لها دور محتمل في غزة ما بعد الحرب، بل إنها سهلت تبادل الأسرى بين أوكرانيا وروسيا.
وقد تجاهلت هذه الدولة الخليجية الانتقادات الدولية من قبل، خاصة بشأن دورها في اليمن، لكنها اليوم تبدو حساسة تجاه الانتقادات المتزايدة بشأن السودان.
ووفقًا للمذكرة السرية للاتحاد الأوروبي فإنه عندما فكر الدبلوماسيون الأوروبيون في فبراير الماضي فيما إذا كانت أبوظبي “سوف تشعر بأي قلق بشأن المذابح والدمار” الذي تسببه أفعالها في السودان، فإن هؤلاء الدبلوماسيّين خلصوا إلى أن الإماراتيّين “سوف يكونون أكثر قلقًا واهتمامًا بشأن أي ضرر يلحق بسمعتهم بدلاً من أي شعور أخلاقي بالذنب”.
ومع ذلك، فإن مسألة استعداد الإماراتيّين للتنازل عن نفوذهم في السودان لواحدة من القوى المتنافسة العديدة التي تدخلت في الحرب، وخاصة إيران، فهذه مسألة أخرى تمامًا.
ويقول المسؤولون الأمريكيون إن احتمال أن تحصل إيران على موطئ قدم على الشواطئ الغربية للبحر الأحمر قد أثار قلق الإمارات وعدة دول عربية أخرى متورطة في السودان. وهذا الشعور بالقلق هو الذي يدفع حروب الوكالة ويشجع القوى المتنافسة على ضخ المزيد من الأسلحة إلى السودان، مما يدفع السودان هذه الدولة المترنحة نحو الانهيار التام.
ورغم أن الإمارات تدعي أن اللاجئين السودانيّين يشعرون بالامتنان للمساعدات الإماراتية، فإن الغضب يتزايد ضدها بين آخرين. ففي الأسبوع الماضي، عندما زارت السيدة لانا نسيبة، السفيرة الإماراتية التي شاركت في محادثات السلام في سويسرا، أحد المستشفيات في تشاد لتسليط الضوء على الأعمال الخيرية لبلادها هناك، واجهها أحد اللاجئين السودانيّين بغضب، وصرخ الرجل خلال اجتماع عام انتشرت تفاصيله سريعًا على وسائل التواصل الاجتماعي قائلًا: “أنت تعرفين جيدًا أنكم أشعلتم هذه الحرب!”، وأضاف قائلًا: “لا نريد منكم أي شيء سوى أن توقفوها”.
وتحدث الرجل، الذي طلب أن يتم التعريف عنه باسم سليمان خوفًا من الانتقام، عبر الهاتف لنيويورك تايمز وقال إنه لم يستطع السيطرة على نفسه.
وأضاف أن وحشية قوات الدعم السريع أجبرته على الفرار من السودان قبل عام، لينضم إلى 800 ألف لاجئ سوداني يتواجدون الآن في تشاد، وعندما جلست الوزيرة الإماراتية أمامه، قال إنه رأى “السبب المباشر في تدمير منزله”. وتابع قائلًا: “لقد فقدت كل شيء.. وكان علي أن أقول ما في قلبي”.