ترجمات

فورين أفيرز: هل لا تزال الولايات المتحدة بحاجة إلى مصر؟

في السادس والعشرين من نوفمبر 2024، نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية مقالًا بعنوان “هل لا تزال أمريكا بحاجة إلى مصر؟”، لـ “مايكل وحيد حنا”، مدير برنامج الولايات المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية والزميل الأول غير المقيم في مركز رايس للقانون والأمن في كلية الحقوق بجامعة نيويورك وكبير الباحثين في مركز “سينتشري فونديشن” (مؤسسة القرن)؛ وهو مهتم بقضايا الأمن الدولي والقانون الدولي والسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

يقول مدير برنامج الولايات المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية إن “الحاجة إلى التعامل مع الآثار الجانبية للحرب الدائرة في غزة دفعت صناع السياسات في الولايات المتحدة إلى التخلي عن مخاوفهم المعلنة بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر. وبدلًا من ذلك، فقد سعت الولايات المتحدة بشكل متزايد إلى الحفاظ على علاقات مستقرة مع شركائها التقليديّين بغض النظر عن سجلهم )الحقوقي( في الحكم”.

ويُضيف بأنه “مع عودة ترامب المرتقبة إلى البيت الأبيض في يناير، فإنه بإمكان مصر أن تشعر بالاطمئنان إلى أن المخاوف بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان لن تحتل مكانة بارزة في تفاعلاتها مع الإدارة القادمة. ولكنه يستدرك بأنه “سوف يكون من الخطأ أن تكتفي الولايات المتحدة ببساطة بأقلمة نفسها مع النموذج الاقتصادي المصري غير الفعَّال والقمع السياسي في البلاد والتعامل معه كأمر مسلم به”. ويوضح ذلك بقوله إنه في حين ساعد هذا النموذج الاقتصادي المصري غير الفعَّال والقمع السياسي في دعم بقاء السيسي في السلطة، إلَّا أنهما تركا مصر فريسة للأزمات المستقبلية المحتملة، ولم يوفرا احتياجات السكان في البلاد والذين يزداد عددهم باستمرار.

وفيما يلي  يقدم منتدى الدراسات المستقبلية ترجمة كاملة لهذا المقال، لمدير برنامج الولايات المتحدة في مجموعة الأزمات الدولية، على النحو التالي:

عندما اندلعت الحرب في غزة، تصالح الرئيس الأمريكي جو بايدن مع السيسي، لكن حسابات الرئيس المنتخب دونالد ترامب قد تكون مختلفة.

بعد أن أدى الهجوم العسكري الإسرائيلي (على مدينة رفح) في شهر مايو إلى إغلاق معبر رفح الحدودي الذي يربط بين مصر وقطاع غزة من جهة الجنوب، والذي كان الطريق الرئيس للمساعدات الإنسانية إلى القطاع الفلسطيني، رفضت الحكومة المصرية السماح بمرور المساعدات عبر المعبر الذي تسيطر عليه إسرائيل في كرم أبو سالم القريب. وعلى الرغم من أن مصر كانت تتفهم الحالة اليائسة التي يعاني منها أهل غزة، إلَّا أنها كانت أيضًا تشعر باستياء شديد من نشر القوات الإسرائيلية على حدودها، وكان منع إعادة توجيه المساعدات عبر كرم أبو سالم أحد الأدوات القليلة التي تمتلكها للتعبير عن استيائها من الهجوم الإسرائيلي على رفح.

وأعرب بعض المسؤولين الأميركيّين عن مخاوفهم الخاصة من أن مصر قد تتشبث بموقفها هذا إلى أجل غير مسمى، وبالتالي تُعرِّض عمليات المساعدات الإنسانية في غزة للخطر بشكل أساسي. ولكن بدلًا من ذلك، وافق رأس الدولة المصري عبد الفتاح السيسي، في أعقاب محادثة هاتفية مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، على السماح بتدفق المساعدات من مصر عبر معبر كرم أبو سالم كإجراء مؤقت. وحتى قبل أربع سنوات، كان مثل هذا التنازل من جانب السيسي لصالح بايدن أمرًا لا يمكن تصوره بحال. ومع ذلك، فقد كانت هذه الموافقة بمثابة انعكاس لعلاقة جديدة بين الزعيمين، وهو تحول يعكس شراكة ثنائية تحسنت على نطاق موسّع بين الولايات المتحدة ومصر حول مجموعة من المسائل الدبلوماسية المُلحّة.

ومنذ إعادة اصطفاف مصر بعيدًا عن فلك الاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب بين العرب (مصر وسوريا) وإسرائيل عام 1973، أصبحت البلاد بمثابة ركيزة للسياسة الإقليمية للولايات المتحدة وأضحت تتلقى مساعدات أمريكية مكثفة. ومع ذلك، فعلى مدار العِقد الماضي، كانت العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر في الأغلب تخضع بشكل مركّز للتدقيق الشديد والإحباط. وعلى مدى فترة من الزمن لم يكن من الممكن حتى تخيل إعادة معايرة العلاقات بين البلدين بسبب القمع الذي يمارسه السيسي داخل البلاد وتراجع أهمية مصر الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. وكانت مصر قد دعمت المرشح الرئاسي دونالد ترامب بشكل فعّال إبّان الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت عام 2016، وربما ذهبت إلى حد المساهمة بشكل غير قانوني في حملته الدعائية.

وعندما حان الوقت لتولى بايدن مهام منصبه (كرئيس للولايات المتحدة) في عام 2021، كانت القاهرة مهيّأة تمامًا لمواجهة عودة التوترات الثنائية بين الدولتين والتي كانت قد ميّزت عهد الرئيس باراك أوباما، عندما أدى فشل انتقال مصر إلى الديمقراطية إلى دخول البلاد في حالة من الاستبداد الشرس، مما دفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في المنطق الإستراتيجي للعلاقة بين البلدين. وتأكدت هذه المخاوف على ما يبدو في أواخر عام 2021، عندما قام وزير خارجية بايدن، أنتوني بلينكن، بحجب مبلغ 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر بسبب مخاوف بشأن السجل القاتم للبلاد في مجال حقوق الإنسان.

ولكن القوة الكامنة للترتيبات الأمنية القائمة بين البلدين منذ فترة طويلة وتغيُّر مسار الأحداث في المنطقة حالت فعليًّا دون إعادة النظر بشكل جدي في أساسيات العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر. وبرزت مصر مؤخرًا كلاعب محوري (إلى جانب قطر، التي استضافت المكتب السياسي لحماس) مع تصاعد التوترات الإقليمية – وذلك في إطار الجهود التي تقودها الولايات المتحدة للتوسط للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين حركة حماس و “إسرائيل”. ولا تزال القاهرة ترى نفسها زعيمة الدول العربية، وقد جعلها دورها الأخير في دبلوماسية وقف إطلاق النار محاورًا دائمًا للولايات المتحدة. ويُعتبر البروز الجديد في دورها هو بمثابة بلسم لترميم صورة مصر الذاتية، كما أنه يُعد نوعًا من إعادة الاعتبار لعدم الاهتمام الذي تعرضت له في وقت سابق من ولاية بايدن.

وبينما ضاعفت الحرب على غزة المخاوف من حدوث تصعيد شامل في الشرق الأوسط، فقد استطاعت الولايات المتحدة ومصر التركيز على تفاعلاتهما حول الأمن الإقليمي والدبلوماسية، حيث تتوافق مصالحهما في ذلك بشكل متزايد.

وكان التحول الاستبدادي في مصر قد تسبب في الماضي غير البعيد في دفع العديد من المسؤولين في واشنطن إلى الجدال حول جدوى تلك العلاقة الوثيقة، وتبني سردية ضد الحفاظ عليها. ولكن الحاجة إلى التعامل مع الآثار الجانبية للحرب على غزة دفعت صناع السياسات في الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة إلى التخلي عن التعبير عن مخاوفهم بشكل علني بشأن حالة الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر. وبدلًا من ذلك، فقد سعت الولايات المتحدة بشكل متزايد إلى الحفاظ على علاقات مستقرة مع شركائها التقليديّين بغض النظر عن سجلهم (الحقوقي) في الحكم.

ومع العودة المرتقبة لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض في شهر يناير من العام الجديد (2025)، فإنه بإمكان مصر أن تشعر بالاطمئنان إلى أن المخاوف بشأن الديمقراطية وحقوق الإنسان لن تحتل مكانة بارزة في تفاعلاتها مع الإدارة القادمة. لكن سيكون من الخطأ أن تكتفي الولايات المتحدة ببساطة بأقلمة نفسها مع النموذج الاقتصادي المصري غير الفعَّال والقمع السياسي في البلاد والتعامل مع هذا الوضع كأمر مسلَّم به. وفي حين ساعد هذا النموذج الاقتصادي المصري غير الفعَّال والقمع السياسي في دعم بقاء السيسي في السلطة، إلَّا أنهما تركا مصر فريسة للأزمات المستقبلية المحتملة، ولم يوفرا احتياجات السكان في البلاد والذين يزداد عددهم باستمرار.

توترات سابقة

يمثّل الدفء الذي حدث مؤخرًا في العلاقات الأمريكية المصرية تحولًا كبيرًا عن الوضع الذي كانت عليه تلك العلاقات حتى عام 2020. فعندما ترشح بايدن للرئاسة في ذلك العام، أعلن بعبارات لا لبس فيها أنه لن تكون هناك “شيكات على بياض” للسيسي، الذي وصفه ترامب بأنه “ديكتاتوره المفضل”. كما أن بايدن أراد أن يقارن بشكل جزئي التزامه بالديمقراطية وحقوق الإنسان بتقارب ترامب الظاهري مع الحكَّام المستبدين.

ولكن موقف بايدن عكس أيضًا الأعباء التي حملها من فترة عمله كنائب للرئيس الأسبق باراك أوباما. فقد وصلت العلاقات بين الولايات المتحدة ومصر إلى أدنى مستوياتها بعد الانقلاب العسكري (الذي قاده الجنرال عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع آنذاك) في يوليو 2013 والذي مهّد الطريق لصعود السيسي إلى السلطة. وفي شهر أكتوبر من ذلك العام، بعد شهرين من الفض الدموي للمتظاهرين (الذين كانوا معتصمين في ميدان رابعة العدوية وميدان النهضة) والذين كانوا يعتصمون تأييدًا للرئيس محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، والذي كان قد تمَّت الإطاحة به مؤخرًا، علّقت الولايات المتحدة الجزء الأكبر من المساعدات العسكرية لمصر. وبعد نقاش داخلي محتدم، أعادت إدارة أوباما المساعدات العسكرية لمصر في مارس 2015، لكنها أنهت استخدام آليَّة التمويل النقدي، التي كانت تسمح لمصر في السابق بشراء المعدات العسكرية بالائتمان. كما فرضت الإدارة الأمريكية حينئذٍ قيودًا على كيفية استخدام مصر للمساعدات التي تتلقاها.

وعلى الرغم من استئناف ضخ المساعدات لمصر، فقد اتسمت العلاقات الأمريكية المصرية بالشكوك والاحتكاك الشديدين. فبدلًا من ترسيخ السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، كان يُنظَر إلى مصر باعتبارها مشكلة يتعين التعامل معها. وكانت الولايات المتحدة قلقة بشكل خاص تجاه المسار الاستبدادي الذي تنتهجه مصر، والذي استمر على نحو ثابت على الرغم من المحاولات الفاترة من جانب واشنطن لاستخدام مساعداتها العسكرية كوسيلة لكبح جماح حكومة السيسي.

وكما جادلت في مقال سابق لي بمجلة “فورين أفيرز” في عام 2015 (تجاوز مصر – حان الوقت لإعادة النظر في العلاقات بين البلدين)، فإنه يبدو أن العلاقات بين البلدين تفتقر إلى أي ثبات إستراتيجي حقيقي. ويبدو أيضًا أن التوترات توفر فرصة للولايات المتحدة لتحديث وتعديل شراكتها مع مصر. لكن إعادة هيكلة العلاقات بهذه الطريقة كانت كفيلة بأن تطلق شرارة معركة بيروقراطية كبرى داخل الحكومة الأمريكية. وربما كانت عملية إعادة الهيكلة هذه، في حال نجاحها، تنطوي على بعض المخاطر؛ لأن العلاقات مع مصر كانت ركيزة أساسية للسياسة الإقليمية الأمريكية منذ أن اختار الرئيس المصري الراحل أنور السادات إخراج بلاده من الدوران في فلك الاتحاد السوفييتي في السبعينيات من القرن العشرين.

ومن جانبها، كانت مصر تشعر بالاستياء من إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الحد الذي جعلها تنخرط في مناورة محفوفة بالمخاطر من خلال التأثير على انتخابات عام 2016 وإبعاد رئيس ديمقراطي آخر عن منصبه. وفي شهر أغسطس من هذا العام (2024)، كشفت صحيفة واشنطن بوست أن وكالات الاستخبارات الأمريكية تعتقد أن السيسي كان قد سعى للتبرع بمبلغ 10 ملايين دولار لترامب خلال حملته الدعائية في الانتخابات الرئاسية لعام 2016. وأدى تحويل مالي غامض من البنك الأهلي المصري المملوك للدولة إلى إجراء وزارة العدل الأمريكية عام 2019 تحقيقًا حول ما إذا كانت مصر قد قدمت دعمًا لحملة ترامب الانتخابية بشكل غير قانوني. ومع ذلك، فقد أغلق المدعي العام لترامب، ويليام بار، هذا التحقيق، وفقًا لصحيفة واشنطن بوست. (في حين نفى المتحدث باسم حملة ترامب في الانتخابات الرئاسية هذا الادعاء).

ذوبان مفاجئ للجليد

وفي أعقاب هزيمة ترامب في الانتخابات التي جرت في عام 2020، شعر المسؤولون المصريون بالقلق إزاء ما قد تعنيه إدارة بايدن الجديدة بالنسبة للعلاقات الثنائية بين البلدين. وكان قلقهم يبدو مبررًا في بداية الأمر. وقد تجلى تشكك بايدن وعدم يقينه تجاه مصر من خلال تجنبه لإجراء المكالمة الأولى التقليدية مع السيسي بعد انتخابه. (وعلى النقيض من ذلك، كان رأس الدولة المصري هو أول زعيم أجنبي يتحدث مع ترامب بعد فوزه في الانتخابات في نوفمبر 2016). ومع ذلك، ففي أواخر مايو 2021، أجبرت أزمة حدثت في غزة بايدن على تحريك المياه الراكدة. فقد عملت الولايات المتحدة ومصر معًا للمساعدة في التفاوض على وقف لإطلاق النار هناك، وقد خفف هذا النموذج من التعاون الناجح بعض التوتر بين الزعيمين (بايدن والسيسي).

واعتمدت إدارة بايدن مرة أخرى طوال الحرب الحالية في غزة على مصر في جهودها الدبلوماسية لتأمين التوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار (وهو ما لم يأتِ بنتيجة حتى اللحظة الحالية). وأعلنت الولايات المتحدة تأييدها العلني لمعارضة مصر لأي نزوح قسري للفلسطينيّين إلى شبه جزيرة سيناء. كما دعمت الإدارة الأمريكية موقف مصر الذي مفاده أن تنسحب إسرائيل من الشريط الضيق من الأرض بين مصر وغزة المعروف باسم ممر فيلادلفيا أو محور صلاح الدين، والذي احتلته إسرائيل كجزء من الهجوم الذي شنته على مدينة رفح (على الحدود مع مصر). وفي محاولة منها لمنع إعادة احتلال إسرائيل الدائم للمنطقة في رفح وما حولها، كان المسؤولون الأمريكيون صريحين بشأن الحاجة إلى إعادة فتح المعبر الحدودي بين مصر وغزة.

إن إعادة فتح المعبر (معبر رفح) سوف تكون في نهاية المطاف مرتبطة بالضرورة بإجراء إصلاحات في الحكم في غزة. ورغم أن الولايات المتحدة ومصر كانتا تعملان بالتوازي على إنشاء نظير فلسطيني لإدارة الجانب الفلسطيني (جهة غزة) من نقطة التفتيش على المعبر، فإن احتمالات التوصل إلى اتفاق بشأن مسألة الحكم قد تضاءلت إلى حد كبير في ظِل تعثر محادثات وقف إطلاق النار. وبالإضافة إلى ذلك، فإن بعض التعليقات الأخيرة التي أدلى بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أدَّت إلى تكثيف الشكوك في القاهرة حول قدرة واشنطن على التأثير من أجل الوصول إلى نتيجة من وراء هذه المفاوضات.

التزام واشنطن تجاه النظام الاستبدادي في مصر ينطوي على مخاطر

ومع ذلك، فقد وجد المسؤولون المصريون بعض السلوى من مواقف إدارة الرئيس جو بايدن واستعدادها للانخراط معها. وكما أبلغني دبلوماسي مصري مؤخرًا، بأنه “من الواضح أننا نشعر بالإحباط إزاء غزة، لكننا نقدر أيضًا مدى التعاون في الوقت الحالي وقابلية التنبؤ بخصوص تفاعلاتنا (المستقبلية)”. وعلى نحو مشابه، فقد تفاجأ المسؤولون الأمريكيون بسرور باستعداد مصر لمناقشة دورها على الأقل في ضمان أمن غزة في مرحلة ما بعد الحرب. حيث كانت مصر تقليديًّا تتردد في التورط في شؤون غزة. ومع ذلك، فقد أثارت المناقشات الدبلوماسية التي تمَّت مؤخرًا إمكانية نشر قوة دولية هناك قد تشارك فيها مصر.

إن التقارب الذي حدث مؤخرًا بين الولايات المتحدة ومصر يمتد إلى قضايا تتجاوز مسألة قطاع غزة. ويتخذ هذا التقارب في بعض الأحيان شكل تخفيف للعقبات السابقة. فعلى سبيل المثال، فيما يتصل بليبيا، كانت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة تشعر بالقلق إزاء دعم مصر للسلطات الليبية في شرق البلاد (المناطق التي تسيطر عليها قوات الجنرال خليفة حفتر في شرق ليبيا)، فقد أخبرني أحد المسؤولين الأميركيّين أن “الإدارة الأمريكية لم تعد ترى أن مصر غير مفيدة بالنسبة لها”. وفي أحيان أخرى، يتخذ التنسيق بين البلدين شكلًا أكثر إيجابية. فقد أشار المسؤولون الأمريكيون إلى أن مصر كانت مفيدة بشكل مدهش للولايات المتحدة في سعيها إلى حشد الدعم الدولي لصالح أوكرانيا، حتى وإن كانت مصر مترددة في الاعتراف بذلك علنًا.

ولعل المثال الأوضح على علاقة العمل الجديدة هو ما يتعلق بالسودان. ففي السابق، كانت الولايات المتحدة تنظر إلى موقف مصر تجاه جارتها الجنوبية بريبة معمّقة. وكان لدى المسؤولين الأمريكيّين تشكك في أن القاهرة قد أعطت موافقة ضمنية على الانقلاب الذي قام به القادة العسكريون السودانيون في أكتوبر 2021 والذي أطاح بالقيادة المدنية الانتقالية في البلاد. وقد ترك الحذر الأمريكي من النوايا المصرية أثره على الجهود الدبلوماسية التي بذلتها واشنطن عندما اندلعت الحرب الأهلية في السودان: فقد كان النهج الأمريكي بشكل أولي يقوم على فكرة مفادها أن مصر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقوات المسلحة السودانية، وبالتالي فهي تشكل عقبة أمام صنع السلام هناك.

ولكن الولايات المتحدة غيّرت موقفها في الآونة الأخيرة تجاه مصر بهذا الصدد، حيث أصبحت القاهرة شريكًا رئيسًا في الجهود التي تبذلها واشنطن والتي لم يُكتَب لها النجاح حتى الآن في التفاوض على التوصل إلى وقف إطلاق النار في السودان. وكانت التنازلات الصغيرة، مثل فتح المعابر الحدودية مع تشاد للمساعدات الإنسانية، تعتمد على الجهود المصرية للتأثير على الجيش السوداني. كما لاحظت الولايات المتحدة ضبط النفس المصري في دعم الجيش السوداني. وقد حدث تقارب في وجهات النظر الأمريكية والمصرية مؤخرًا بشأن ضرورة حماية مؤسسات السودان والحفاظ على سلامة أراضيه.

تحديات يمكن التغلب عليها

وعلى الرغم من أن الكثير من انعدام الثقة والقلق الذي كان يميز العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر قبل عقد من الزمان قد تلاشى، إلَّا أنه لا تزال هناك بعض الأمور المزعجة قائمة. وأهم هذه الأمور هو القرار الذي تتخذه الولايات المتحدة سنويًّا بشأن تمديد التمويل العسكري لمصر. فقد كانت مصر على مدى عقود من الزمان ثاني أكبر متلقٍ للمساعدات العسكرية الأمريكية بعد إسرائيل. حيث يخصص الكونجرس الأمريكي حاليًا حوالي 1.3 مليار دولار من المساعدات لمصر على أساس سنوي، لكن بعض هذا التمويل مشروط باستيفاء متطلبات تتعلق بحقوق الإنسان. وكان يُنظر إلى رفض بلينكن التنازل عن هذه المتطلبات في سبتمبر 2021 – والذي تسبب بدوره في حجب مبلغ 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية – على أنه مؤشر محتمل على جدية الولايات المتحدة بشأن حقوق الإنسان ونيتها في الابتعاد عن التساهل الذي كانت إدارة ترامب (السابقة) قد أبدته في هذا الخصوص.

وقد أثار هذا القرار القلق في مصر. ولكن مع تحسن العلاقات المصرية مع واشنطن، اتخذت القاهرة نهجًا أكثر هدوءًا في التعامل مع المراجعة السنوية (التي تسبق صرف المساعدات). كما جنت القاهرة فوائد من وراء تعاونها مع الإدارة الأمريكية بشأن غزة. حيث تنازل بلينكن للمرة الأولى في سبتمبر من هذا العام، عن بعض متطلبات حقوق الإنسان وصادق على امتثال القاهرة لمتطلبات أخرى، الأمر الذي سمح لمصر بتلقي شريحة المساعدات الأمريكية بشكل كامل. وكان القرار إيذانًا بنهاية التظاهر بأن المساعدات العسكرية تمنح الولايات المتحدة نفوذًا ذا بال على وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان. ومع ذلك، فقد شجع القرار أيضًا استئناف الحوار الإستراتيجي مع القاهرة، الأمر الذي عزّز الشعور بتحسن العلاقات خارج نطاق دبلوماسية وقف إطلاق النار.

وهناك شوكة أخرى أزعجت العلاقة (بين الولايات المتحدة ومصر) هذا العام عندما أدين السيناتور بوب مينينديز، الديمقراطي من ولاية نيوجيرسي ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بتهمة تلقي رشاوى من رجال أعمال يعملون لصالح مصر وقطر. (يُذكر أن السيناتور مينينديز قد استقال بعد ذلك من مجلس الشيوخ). وقد غذّى التدقيق المعلن تصورًا بأنه كان لدى مصر إرادة تامة للتدخل في السياسة الأمريكية، وأدى ذلك إلى التسبب في بعض الحرج للمسؤولين في القاهرة.

ولكن حتى الآن لم تنجح كل هذه التحديات في تعكير الأجواء الإيجابية القائمة بين البلدين. فقد نجحت مصر بمهارة في تحويل نقاط ضعفها لكي تصب في مصلحتها، وخاصة من خلال ترجمة القلق الدولي إزاء اتساع نطاق الحرب الإقليمية إلى مساعدات اقتصادية ضرورية للغاية. ولكن على الرغم من أن الأزمات والصراعات قد أعادت ترتيب الأولويات الإقليمية المباشرة للولايات المتحدة، فلا ينبغي لواشنطن أن تنسى أن المشاكل الداخلية الكبرى لا تزال تشكل حالة من الإرباك في مصر.

مستقبل غير مؤكد

لقد أعاقت أوجه القصور في رؤيا الحكم في مصر قدرتها على الاضطلاع بدور إقليمي مهم. وقد دفع هذا شركاء مصر الدبلوماسيّين الرئيسيّين في كثير من الحالات إلى التركيز في المقام الأول على تجنب وقوعها في أسوأ السيناريوهات. ومع أن هذا الوضع الراهن قد سمح لمصر ببعض المرونة فيما يتعلق بشركائها الرئيسيّين، بما في ذلك الولايات المتحدة، فإن هذا الوضع لا يشكل أساسًا لمستقبل مستدام ومزدهر، تتمكن فيه البلاد من تحمل دورها التاريخي كزعيمة للعالم العربي. إن استقرار مصر على المدى البعيد سوف يعتمد على معالجة التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها بشكل صادق، وسوف يكون من الخطأ أن تتماهى الولايات المتحدة مع ذلك النهج الاقتصادي المتعثر في مصر والاستبداد الراسخ بها.

كما أنه من غير الواقعي أن نتصور أنه يمكن إعادة هيكلة العلاقات الأمريكية المصرية بشكل كبير في خضم تلك الاضطرابات التي تشهدها المنطقة. حيث أدَّى ذلك إلى تشتت اهتمام الحكومة الأمريكية، كما أن مصر تلعب حاليًا دورًا حاسمًا في بذل جهودها حيال إدارة الصراع في غزة. ولكن التزام واشنطن مجددًا تجاه النظام الاستبدادي في مصر في الوقت الذي تتنامى فيه حالة عدم الاستقرار الإقليمي ينطوي على مخاطر على المدى الأبعد. وعلى الرغم من حقيقة أن مصر ليست مقبلة على تكرار اندلاع انتفاضات شعبية على غرار تلك التي أطاحت بنظام مبارك في عام 2011، فإن نقاط ضعفها الاقتصادية والسياسية من شأنها أن تقوض عُرى الحكم بها، مما قد يؤدي إلى تهديد استقرارها في نهاية المطاف. فالاقتصاد المصري لا يزال هشًّا، ولم تقدم القاهرة بعد نموذجًا مستدامًا للتنمية يستطيع مواكبة احتياجات المجتمع المصري. وبالإضافة إلى ذلك، فقد أدى ضيق الأفق في الحكم في القاهرة إلى خلق نقاط عمياء (غير مرئية) لدى قادة مصر. فقد أصبح صناع القرار في البلاد محصنين تجاه أي انتقادات أو نقاشات عامة ضرورية، كما أنهم ضيَّقوا من مساحة الحوار الداخلي داخل الحكومة. ونتيجة لذلك، فقد أصبحوا عاجزين عن الاستجابة بفعالية لمخاوف القطاع الخاص والمجتمع المدني وعناصر البيروقراطية.

لم تُظهِر مصر قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2024 تفضيلًا لأي من المرشحين. ولكن الآن بعد فوز ترامب، فإن العلاقات الثنائية تواجه مستقبلًا غير مؤكد إلى حد ما. ومع أنه من المرجح أن يعيد ترامب احتضان النظام في مصر من خلال نهجه الخطابي الذي ميز ولايته الأولى، إلى جانب عدم الاهتمام بالديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فإن تأييده المحتمل لأجندة إسرائيل المتطرفة يعني بالضرورة أن المحور الحالي الذي تقوم العلاقات الأمريكية المصرية، وهو دبلوماسية وقف إطلاق النار، سيفقد أهميته. وبالتالي، فمِن غير المرجح أن تواجه مصر في المدى القريب احتكاكًا كبيرًا مع إدارة دونالد ترامب، ولكن من غير المرجح أيضًا أن تحوز على مكانة بارزة في السياسة الخارجية لترامب.

وعلى أي حال، فإنه على الرغم من أن ترامب لن يدفع على الأرجح نحو إعادة ضبط السياسات الرئيسة، فإنه يتعين على إدارته أن تضغط على القاهرة لإقرار الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي ستكون ضرورية لتأمين الاستقرار بها على المدى البعيد. وقد ساعدت التمويلات الجديدة التي ضخها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، إلى جانب الاستثمارات الكبرى الجديدة القادمة من دولة الإمارات العربية المتحدة، في استقرار الاقتصاد المصري في الوقت الراهن. كما أنه من الممكن تحقيق المزيد من الاستقرار من خلال إقناع مصر بخصخصة الشركات المملوكة للدولة – وخاصة تلك المملوكة للجيش – والتي تشكل عقبة كبرى أمام القطاع الخاص. وعلى الصعيد السياسي، فإن تحقيق بعض أشكال تصحيح المسار يظل ضرورة يتعين القيام بها. حيث سيؤدي السماح بالنشاط السياسي المستقل والإفراج عن السجناء السياسيّين إلى تعزيز حسن النوايا إلى حد كبير بين الجمهور المصري والشركاء الخارجيّين مثل الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن الأكثر أهمية هو أن هذه الخطوات من شأنها أن تساعد مصر في تعزيز قدرتها على التعامل مع الأزمة الدائرة حاليًا في غزة، وكذلك التحديات القادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى