في التاسع من ديسمبر 2024م، نشرت مجلة فورين أفيرز الأمريكية مقالًا بعنوان “اليوم التالي لسقوط الأسد: كيف سيؤثر السقوط المذهل للديكتاتور السوري على توازن القوى في الشرق الأوسط؟”، لـ “ناتاشا هول”، كبير الباحثين في برنامج الشرق الأوسط بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن العاصمة، و”جوست هيلترمان”، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية.
يتوقع الباحثان ناتاشا هول و جوست هيلترمان في مقالهما أن زوال نظام الأسد سوف يسبب موجات صدمة تتجاوز سوريا بكثير. ولذلك فإنه لضمان إقامة دولة مستقرة وموحدة في ظِل النظام الجديد، سوف تكون هناك حاجة إلى دعم إقليمي ودولي عاجل ومستدام لمساعدة السوريّين على استعادة النظام، وإقامة حكومة مدنيَّة، وتشجيع المصالحة والعدالة الانتقالية، والبدء في إعادة بناء الدولة المدمرة.
ويشير الباحثان إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيّين قد أهملوا سوريا على مدى فترة طويلة، حيث اعتبروا نظام الأسد غير قابل للإزاحة، حتى اكتشفوا فيما بعد أنه ليس كذلك.
كما يحذر المقال من أنه في ظِل إرث سنوات من العقوبات الدولية وسوء الإدارة الاقتصادية، لا يمكن استبعاد احتمال اندلاع حرب أهلية جديدة والمزيد من عدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.
ويخلص إلى أنه يجب أن تتواصل الدول الغربية ودول الخليج العربية، على وجه الخصوص، مع القادة الجدد في دمشق وتوجيههم نحو إقامة حكم براجماتي، إن لم يكن ديمقراطيًّا، من أجل منع وقوع المزيد من المآسي هناك.
وفيما يلي يقدم منتدى الدراسات المستقبلية ترجمة كاملة للمقال التحليلي الذي كتبته ناتاشا هول و جوست هيلترمان، على النحو التالي:
على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان، كان يبدو أن أسرة الأسد تتمتع بقبضة أمنية منيعة على سوريا. فبفضل الاعتماد على جهاز أمني جبّار، واستخدام وحشي للقوة، وحلفاء أقوياء مثل روسيا وإيران وحزب الله، صمدت الأسرة أمام انتفاضات متعددة اندلعت ضدها، بل وحتى حرب أهلية مروعة قُتِل فيها مئات الآلاف من السوريّين، وفقد فيها النظام لبعض الوقت السيطرة على جزء كبير من البلاد.
ولكن في السنوات الأخيرة، استعاد الرئيس السوري بشار الأسد، الذي واجهت حكومته عقوبات ونُبذت دبلوماسيًّا على المستوى الإقليمي والدولي منذ عام 2011م، بعض مكانته، حيث أعادت جامعة الدول العربية سوريا إلى عضوية الجامعة، وكان هناك حديث يدور حول تخفيف العقوبات عليها.
ولكن في نهاية الأمر، كان النظام أشبه ببيت من الكرتون. ولدهشة العالم، أسقطه الثوار الإسلاميون من “هيئة تحرير الشام” – وهي جماعة أُنشئت لتحرير سوريا من نظام الأسد – في غضون أيام، دون مواجهة مقاومة تُذكَر (من قوات الأسد أو الميليشيات الداعمة معها). وفي يوم الأحد، 8 ديسمبر، عندما سيطرت هيئة تحرير الشام بسرعة ملحوظة على دمشق، أعلنت روسيا أن بشار الأسد قد لجأ إلى موسكو، وتمَّ اصطحاب رئيس وزرائه السابق إلى فندق فور سيزونز في العاصمة السورية لتسليم السلطة رسميًّا (لحكومة انتقالية). ولم يستغرق الأمر برمته أكثر من أسبوعين لإتمامه، مع إراقة القليل من الدماء، وذلك على النقيض من الأعداد الهائلة التي فقدت أرواحها خلال الحرب الأهلية.
وكان للتسلسل المذهل للأحداث والذي أدى إلى تمكّن هيئة تحرير الشام من إسقاط النظام السوري أسباب عديدة: بما في ذلك قطع رأس “حزب الله” اللبناني، حليف النظام السوري، على يد إسرائيل بشكل دراماتيكي وتدمير جزء كبير من ترسانة الصواريخ التابعة للحزب اللبناني؛ وتآكل القوة والنفوذ الإيراني بسبب خسارة “حزب الله” باعتباره “خط دفاعها المتقدم”؛ وانهيار محادثات المصالحة بين أنقرة ودمشق؛ وحالة الجيش السوري الذي يُعاني من تدني الرواتب وانخفاض الروح المعنوية (لدي القادة والجنود)؛ وانشغال روسيا بالحرب المُكلِفة التي أطلقتها على أوكرانيا. ويبدو أن الهجوم الخاطف التي شنته هيئة تحرير الشام على قوات الأسد والميليشيات الداعمة له بدأ بعد الحصول على ضوء أخضر من تركيا، التي كانت تحمي الثوار في معقلهم في مدينة إدلب، في شمال غرب سوريا. لكن الحملة العسكرية كانت في الأساس حملة سورية محلية.
في الثلاثين من شهر نوفمبر، استولى مقاتلو هيئة تحرير الشام، وبشكل مباغت للغاية، على مدينة حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، في يوم واحد واجتاحوا المدن والقرى باتجاه الجنوب، حتى وصلوا في نهاية المطاف إلى دمشق (في 8 ديسمبر). وبينما كانوا يقومون بذلك، أشعلوا تمردات عفوية ضد حكم نظام الأسد في السويداء ودرعا في جنوب البلاد، وفي دير الزور جهة الشرق. وفي الخامس من شهر ديسمبر، استولى الثوار على مدينة حماة، رابع أكبر مدن سوريا. وبعد يومين اثنين، استولوا على مدينة حمص، ثالث أكبر مدينة في سوريا، والتي تقع على الطريق الذي يربط العاصمة السورية دمشق بمعقل النظام العلوي في الجبال المطلة على ساحل البحر المتوسط. وكان الزخم الاستثنائي الذي حظي به الثوار، إلى جانب تآكل قاعدة الدعم لحكومة الأسد بشكل كبير، أعظم كثيرًا من أن يستطيع النظام الصمود في وجهها.
ومن خلال مساعيهم الحثيثة للوصول إلى دمشق، نجح الثوار في إنهاء حرب أهلية تمَّ تدويلها بشكل كبير، على الأقل في الوقت الحالي، بنهاية إيجابية، دون أي تدخل أجنبي تقريبًا. وفي نهاية المطاف، تمكنت قوات المعارضة من الاستيلاء بسهولة على المدن السورية التي كانت قوات الأسد وداعميه، روسيا وإيران وحزب الله، قد استعادتها بعد سنوات من القصف الدموي والحصار خلال الحرب الأهلية. ويمثل استيلاء الثوار على البلاد تحولًا تكتونيًّا هائلًا في الشرق الأوسط جعل القوى الإقليمية والدولية الكبرى ليست متيقنة من الكيفية التي يمكن أن ترد بها. فقبل بضعة أسابيع فقط، كانت إدارة بايدن تعمل مع دولة الإمارات لرفع العقوبات المفروضة على سوريا في مقابل إبعاد الأسد نفسه عن إيران ومنع شحنات الأسلحة لحزب الله، وفقًا لمصادر متعددة تحدثت إلى وكالة رويترز للأنباء.
ولكن سقوط الأسد يُظهِر أيضًا مدى الترابط بين الصراعات المختلفة في منطقة الشرق الأوسط، وبطرق لا يمكن التنبؤ بها، وما يمكن أن يحدث عندما يتم إهمالها أو التأقلم معها. وقد واجه كل من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والحرب الأهلية السورية هذا المصير. حيث أدى اندلاع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المفاجئ مع هجوم حماس (على المستوطنات الواقعة في غلاف غزة) في السابع من شهر أكتوبر 2023م إلى الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، وبالتبعية حملة الحوثيّين في البحر الأحمر، والحرب الإسرائيلية في لبنان، بالإضافة إلى وابل من الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل. أما في سوريا، فقد أنهى هذا الزلزال الأخير النظام القائم بها. وفي كلتا الحالتين (الفلسطينية والسورية)، تُظهِر الاضطرابات السريعة التي لم تكن أي جهة خارجية فاعلة مستعدةً لها حماقة تجنب الصراعات المطوّلة في الشرق الأوسط للحفاظ على “الوضع الراهن” الذي لا يطاق. وعلى الرغم من أن العديد من الأسئلة لا تزال قائمة حول الكيفية التي ستحاول بها هيئة تحرير الشام إدارة البلاد – وما إذا كانت ستتمكن من التعامل مع المجموعات المختلفة المتنافسة على النفوذ – إلَّا أنه يبدو أن نهاية الأسد ستؤدي إلى تحويل توازن القوى في المنطقة بشكل مؤكد.
الحرب التي نسيها الغرب
يعود الهجوم الأخير الذي شنه الثوار ضد الأسد بالأساس إلى الحرب الأهلية التي اندلعت في سوريا في عام 2011م ولم تنته أبدًا في الحقيقة. ففي خضم انتفاضات الربيع العربي، بدأ المواطنون السوريون في تنظيم احتجاجات سلمية، لكن القمع المميت الذي شنّه نظام الأسد عليهم تسبب في لجوء بعض المتظاهرين إلى حمل السلاح وانخراط القوات المنشقة عن الجيش السوري في الأمر. ومع تزايد العنف في ضوء الحرب الأهلية، اجتذبت جماعات متطرفة أيضًا مثل “تنظيم القاعدة” في العراق AQI وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ISIS (المعروف أيضًا باسم داعش) الذي خرج من تحت عباءته. وسرعان ما أصبح هذا الصراع دوليًّا، حيث أرسلت قوى خارجية – إيران ودول الخليج وروسيا وتركيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص – الأسلحة والأموال إلى الجماعات المسلحة المفضلة لدى كل من تلك الدول. ولكن إيران وروسيا، حليفتا النظام السوري، أثبتا في ذلك الوقت أنهما أكثر التزامًا بذلك: فقد ساعدت إيران والميليشيات التابعة لها ــ وخاصَّة حزب الله ــ الأسدَ في محاصرة شعبه وقصفه؛ وأبادت روسيا بطائراتها المقاتلة من طراز سوخوي مدنًا سورية بأكملها. وتشير التقديرات إلى أن النظام السوري قام بقتل ما لا يقل عن نصف مليون من شعبه بمساعدة روسيا، واختفى 130 ألف شخص آخرين، وأصبح نحو نصف السكان ــ حوالي 14 مليون نسمة ــ مشرّدين. وفي النهاية، توقفت الأمم المتحدة حتى عن إحصاء القتلى الذين سقطوا في سوريا.
وكان للصراع في سوريا تداعيات دولية بعيدة المدى. فقد أدى وصول أكثر من مليون لاجئ سوري إلى قارة أوروبا في عام 2015م إلى تسريع وتيرة صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في العديد من البلدان الأوروبية، مما دفع الحكومات الأوروبية إلى تعزيز علاقاتها مع زعماء إقليميّين مثل الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان والرئيس التونسي قيس سعيّد لوقف تدفق اللاجئين إليهم. كما حظي العديد من هذه الأحزاب (اليمينية المتطرفة) بتأييد دمشق والكرملين، وهي مصلحة إضافية لكلا النظامين (السوري والروسي). وكانت الحرب أيضًا بمثابة انقلاب كبير لموسكو، التي استخدمت تدخلها الناجح في سوريا في عام 2015م لدعم نظام الأسد وتوسيع نفوذها العسكري. حيث انخرطت روسيا للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، في صراع كبير خارج نطاق “المحيط الخارجي القريب”. كما احتفت روسيا بقدرتها على الوصول إلى ميناء المياه الدافئة الوحيد لديها – في طرطوس على ساحل البحر المتوسط في سوريا – فضلًا عن سيطرتها على قاعدة حميميم الجوية بالقرب من اللاذقية، في غرب سوريا.
وعلى الرغم من أن التحالف المتنامي بين روسيا و الصين يعود في كثير من الأحيان إلى بداية غزو الأولى الكامل لأوكرانيا في عام 2022م، فإن العلاقات الوثيقة بين البلدين بدأت في الواقع مع الحرب الأهلية السورية، عندما بدأت بكين في التصويت بالتوازي مع الكرملين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، مستخدمة حق النقض بشكل أكبر من أي وقت مضى. ورغم أن دور الصين في سوريا كان ضئيلًا، فإن تصويتها وخطابها الداعم للنظام السوري كان وسيلة للرد على هيمنة الولايات المتحدة وجهودها لتحدي الحكومات ذات السيادة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، وبالتالي المساعدة في انحياز بكين إلى الكرملين في ما سيصبح لاحقًا شراكة “بلا حدود”.
وبحسب مراقبين خارجيّين، فإنه بحلول عام 2018م، كانت الحرب الأهلية السورية قد تمَّ التحكم بها واحتواؤها إلى حد كبير. فقد احتفى حلفاء الأسد بما اعتبروه انتصارًا حققه، على الرغم من أن العديد من الروايات تشير إلى أن النظام كان يبدو في الحقيقة أكثر ضعفًا. وأدى الهجوم الذي شنته إسرائيل على لبنان وهجماتها ضد إيران منذ صيف عام 2024م إلى إضعاف حلفاء الأسد الأقوياء، إيران و “حزب الله”. والواقع أن إسرائيل قد نجحت في تقليص ترسانة الحزب اللبناني الضخمة من الصواريخ والقذائف الإيرانية، بالإضافة إلى الإجهاز على أبرز قيادات الصف الأول في حزب الله، واستمرت إسرائيل في مهاجمة شحنات الأسلحة الإيرانية المتجهة إلى الحزب في سوريا حتى بعد أن أعلنت إسرائيل ولبنان وقف إطلاق النار في السابع والعشرين من شهر نوفمبر 2024م. وفي نفس الوقت، كان أردوغان، خصم الأسد المعتاد، يفقد صبره إزاء رفض سوريا التوصل إلى تسوية والمصالحة مع تركيا، وحتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، حليف الأسد الوثيق، شعر بالإحباط إزاء عدم رغبة نظام الأسد في إيجاد قدر من التسوية لهذه المسألة.
وفي تلك الأثناء، طورت هيئة تحرير الشام من نفسها، حيث تحولت من وضعها السابق كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا إلى جماعة إسلامية تنبذ الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وتركز قتالها على نظام الأسد. وعند مجيء الوقت المناسب، عقدت الهيئة تحالفات مع مجموعات أخرى، وخفّفت من رسالتها، وحصلت على الحماية من تركيا، وأنشأت حكومة مدنية في منطقة سيطرتها في إدلب، حتى مع إدارتها للحكم فيها بقبضة من حديد. وخلال تلك السنوات، لم يغفل الثوار عن هدفهم الأسمى: وهو الإطاحة ببشار الأسد. ثم في أوائل شهر نوفمبر، انهارت المفاوضات بين دمشق وأنقرة – بشأن تهيئة الظروف التي يمكن أن تسمح للاجئين السوريّين في تركيا بالعودة إلى ديارهم بأمان، وهو ما أصبح قضية محرّكة لتركيا – مرة أخرى بسبب تعنت الأسد، وهو الأمر الذي ربما دفع حكومة أردوغان إلى عدم الوقوف في طريق هيئة تحرير الشام عندما قررت المجموعة الخروج من إدلب بعد بضعة أسابيع.
وفي نهاية الأمر، لم يُبدِ أي سوري استعداده للتضحية بأي شيء آخر من أجل هذا النظام، أو ببساطة لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك. ولعل الأهم من ذلك أن حسابات هيئة تحرير الشام كانت أن قوات الجيش السوري سيئة التدريب، والمنهكة معنويًّا، والتي تعاني من انخفاض مرتبات منسوبيها لن تبدي أكثر من مقاومة رمزية. وتبين لاحقًا أن الهيئة كانت على حق. فقد اختفت القوات السورية في الأغلب الأعم. وعندما شاهد سكان درعا والسويداء في الجنوب التقدم السريع الذي أحرزته هيئة تحرير الشام، انتفضوا بسرعة وطردوا النظام من مناطقهم من تلقاء أنفسهم.
ولعل الأمر الأكثر إثارة للصدمة كان انهيار الدعم الدولي للأسد. ففي السادس من شهر ديسمبر، استدعت روسيا قواتها ودبلوماسييها وبدأت في الانسحاب من قواعدها. ومع تضاؤل الخيارات، سحبت إيران أيضًا ميليشياتها المتحالفة مع الأسد، مدركةً أن القتال من أجل الأسد سيكون بلا جدوى. وفي شرق البلاد، أبرمت قوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد والمجالس العسكرية التي يقودها العرب صفقات مع قوات النظام للاستيلاء على المناطق التي يسيطر عليها النظام في دير الزور، والأهم من ذلك معبر البوكمال مع العراق، وقطع خطوط إمداد النظام من إيران والعراق. ومع اقتراب الثوار من دمشق، انسحبت القوات الروسية والإيرانية وفلول قوات النظام أيضًا من مواقعها في جميع أنحاء الشمال الشرقي.
ابتهاج وتوتر
يبدو مستقبل سوريا والمنطقة بشكل عام مليئًا بالشكوك. فالاشتباكات مستمرة بالفعل بين الجماعات المسلحة التابعة للجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا في الشمال وقوات سوريا الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد. وفي حين يشعر معظم السوريّين بالابتهاج، بما في ذلك ملايين المنفيّين خارج بلادهم الذين بدأوا أخيرًا في تلمس طريقهم إلى ديارهم من لبنان وتركيا وأماكن أخرى، فإن مصير العديد من الأكراد الذين طردتهم تركيا سابقًا من عفرين ومناطق أخرى في الشمال أقل يقينًا. فقد أعلن الجنرال مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، أن إدارته سعيدة بسقوط نظام الأسد وتنسيقه مع هيئة تحرير الشام، لكن الأكراد وتركيا سيحتاجون إلى التوصل إلى حل وسط لا يؤدي إلى إطلاق العنان لمزيد من إراقة الدماء داخل وخارج حدود سوريا، وهو تحدٍ هائل في أفضل الأحيان.
وفي تلك الأثناء، لا يزال الآلاف من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية يقبعون في السجون في الشمال الشرقي تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. وإذا تمكن هؤلاء المقاتلون من الفرار أو إذا عاودت خلاياهم الظهور من جديد، فسوف يشكلون عائقًا كبيرًا لأي حكومة في حقبة ما بعد الأسد، وكذلك للمنطقة بأكملها. وعلى نفس المنوال، غزت إسرائيل بالفعل المنطقة منزوعة السلاح على حدودها مع سوريا وواصلت قصف مستودعات الأسلحة ومواقع إنتاج الأسلحة الكيميائية المشتبه بها. وأصبح لتركيا في الوقت الحالي اليد العليا القوية في الوصول لهذه النتيجة الحالية؛ وعانت روسيا، في تقهقرها المتسارع، من خسارة مدمرة. ولكن يبدو أن إيران هي الخاسر الأكبر فعلًا، في ظل انهيار إستراتيجيتها “الدفاعية الأمامية”، وتتعرض طهران نفسها الآن بشكل خطير لهجوم إسرائيلي محتمل على برنامجها النووي.
عوائق محتملة
في خضم هذا التوازن المتغير بشكل متسارع بين القوى الخارجية، سوف يواجه السوريون معركة صعبة لتقاسم السلطة في الداخل. وكانت الولايات المتحدة قد صنفت هيئة تحرير الشام بأنها جماعة “إرهابية”. وبالإضافة إلى ذلك، فهي لا تحظى بشعبية كبيرة في موطنها الأصلي إدلب. ولذلك، فزعيم الهيئة أحمد الشرع، الشهير بـ “الجولاني” حريص حتى الآن على تبني موقف تصالحي، ليس فقط مع الأقليات العديدة في سوريا، بل وأيضًا مع مسؤولي النظام السابق. والسؤال المهم هو عما إذا كانت هذه النبرة سوف تظل قائمة؛ وأما إذا ما كانت الجماعات المتمردة الأخرى وفصائل المعارضة سوف تحذو حذوه، فهذا سؤال آخر. ومع عودة المزيد من السوريّين إلى بلادهم، بما في ذلك زعماء المعارضة المختلفين، سوف تكون هناك حتمًا توترات. وقد يجد العديد من الناس العائدين منازلهم منهوبة أو أُسرًا جديدة تعيش فيها. وقد تكافح الجماعات المسلحة داخل سوريا والمعارضة المنفية من أجل الوصول للسلطة. ولكن يبدو أن هيئة تحرير الشام تسعى في الوقت الحالي إلى نموذج شامل للحكم على المستوى المحلي، حيث تشرك الأقليات وأولئك الذين لم يعيشوا قط في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
كان الهجوم الذي شنه المتمردون مُمكِنًا، بشكل جزئي، بسبب ديناميكيات فيما وراء حدود سوريا، بما في ذلك تفكيك قوى “حزب الله” ووصول العلاقات بين أنقرة ودمشق إلى أدنى مستوياتها. وعلى النقيض من ذلك، فإن زوال الأسد سوف يسبب موجات من الصدمة تتجاوز سوريا كثيرًا. ولضمان إقامة دولة مستقرة وموحدة، سوف تكون هناك حاجة إلى دعم إقليمي ودولي عاجل ومستدام لمساعدة السوريّين على استعادة النظام، وإقامة حكومة مدنيَّة، وتشجيع المصالحة والعدالة الانتقالية، والبدء في إعادة بناء دولة مدمرة.
لقد أهملت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون سوريا على مدى فترة طويلة للغاية، حيث اعتبروا نظام الأسد غير قابل للإزاحة من الحكم، حتى اكتشفوا فيما بعد أنه ليس كذلك. وإلى جانب إرث سنوات من العقوبات الدولية وسوء الإدارة الاقتصادية، لا يمكن أبدًا استبعاد احتمال اندلاع حرب أهلية جديدة والمزيد من عدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة. وتتطلب الحيلولة دون وقوع المزيد من المآسي من الدول الغربية ودول الخليج العربية، على وجه الخصوص، التواصل مع القادة الجدد في دمشق وتوجيههم نحو إقامة حكم براجماتي، إن لم يكن ديمقراطي، من أجل منع وقوع المزيد من المآسي هناك. وبعد استعادة الأمل أخيرًا من الإطاحة بأسرة الأسد، لا يتوقع الشعب السوري أقل من ذلك من الدول التي سمحت باستمرار الكرب الذي عاشته البلاد على حسابهم على مدى سنوات عديدة.