في العشرين من أكتوبر 2024، نشرت مجلة ريسبونسبل ستيت كرافت (فن الحكم المسؤول) الأمريكية مقالًا بعنوان: “إسرائيل، صاحبة النفوذ من خلف الكواليس في السودان” لـ “ألكسندر دي وال”، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس، في ميدفورد وسومرفيل، ماساتشوستس، الولايات المتحدة.
يُذكر أن معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول هو الجهة التي تقوم على إصدار مجلة “ريسبونسبل ستيت كرافت” الإلكترونية، والتي تهدف، حسبما تقول، إلى “تعزيز رؤية إيجابية غير حزبية للسياسة الخارجية الأمريكية، مع انتقاد الإيديولوجيات والمصالح التي أغرقت الولايات المتحدة في حروب لا طائل من ورائها ولا نهاية لها، حيث جعلت العالم أقل أمانًا”.
يقول دي وال إن النفوذ القوي الذي تتمتع به على طرفي الصراع في السودان، والذي يفوق جميع القوى الأجنبية المنخرطة بشكل مباشر أو غير مباشر في الأحداث، يمكّنها من أن تلعب دورًا في المساعدة في تسوية ذلك الصراع الدموي في السودان، فقط إذا أرادت هي ذلك.
وفيما يلي يقدم “منتدى الدراسات المستقبلية” ترجمة كامل المقال، وذلك على النحو التالي:
من بين كل تلك القوى الأجنبية العديدة التي يمكنها أن تؤثر على هذا الصراع الدموي الدائر في السودان، فإن تل أبيب وحدها تستطيع أن تساعد في كبح جماحه – فقط إذا أرادت القيام بذلك.
منذ فترة طويلة كان من الواضح أن الطريق إلى السلام في السودان يمر عبر مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة – أقرب ثلاث دول عربية حليفة للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. لكن في الشهر الماضي، ذكّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو السودانيّين بأنه لديه مصلحة في بلدهم أيضًا.
ففي كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر سبتمبر 2024، أثار نتنياهو ضجة بين السودانيّين عندما رفع خريطتين (ممسكًا بهما في يده أمام الحضور)، إحداهما أسماها “اللعنة” (أي محور الشر) والأخرى أطلق عليها اسم “النعمة” (أي محور الخير). حيث كانت الخريطة الأولى تحتوي على (ما يعتبرهم نتنياهو) أعداء إسرائيل اللدودين، وهم: إيران والعراق ولبنان وسوريا والحوثيون في اليمن – حيث طُمِست هذه الدول على الخريطة باللون الأسود – بينما كانت الخريطة الثانية تحتوي على (ما يعتبرهم نتنياهو) أصدقاء إسرائيل، وكان من بينهم مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والسودان – حيث جاءت هذه الدول على الخريطة باللون الأخضر.
وبعد فترة وجيزة من حدوث ذلك، كتب الصحفي الإسرائيلي جوناثان ليز أن إسرائيل كانت تطرح صفقة محتملة لإنهاء القتال في غزة، حيث قال بأنه بموجب هذا الاتفاق سيذهب كبار قادة حماس إلى المنفى في السودان. ولكن حماس نفت ذلك – حيث يُفضِّل يحيى السِّنوار الموت في غزة على الفرار منها إلى بر الأمان. كما نفت القوات المسلحة السودانية (SAF) ذلك أيضًا. لكن حقيقة أن السودان موجود في دائرة اهتمام إسرائيل تسلط الضوء على كيفية تشابك حرب السودان مع الصراعات الأكثر بروزًا في منطقة الشرق الأوسط.
ففي عام 2020، وكجزء من صفقة أزالت فيها إدارة ترامب تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب، وافقت السودان على الانضمام إلى اتفاقيات أبراهام (وهي مجموعة من اتفاقيات التطبيع التي عُقِدت بين إسرائيل ودول عربية في النصف الأخير من عام 2020 برعاية من الولايات المتحدة الأمريكية، ضمت دولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، ثم انضمت للاتفاقيات المملكة المغربية ودولة السودان، حيث تُعتبَر هذه الاتفاقيات أول تطبيع عربي إسرائيلي علني في القرن الحادي والعشرين).
وكان الجنرال عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني ورئيس الدولة بحكم الأمر الواقع، قد التقى مع بنيامين نتنياهو في كمبالا، أوغندا (في الخامس من فبراير 2020)، حيث استضاف هذا الاجتماع الذي يُعد اختراقًا الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني، لكنه تم في الحقيقة بوساطة وترتيب من رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد، المعروف اختصارًا باللغة الإنجليزية بـ (MBZ). ثم قامت السودان بتجميد أصول حركة حماس في السودان بعد ذلك.
وفي الأيام الأخيرة من إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقّع عبد الفتاح البرهان على الجزء المعلن من اتفاق أبراهام، بحضور وزير الخزانة الأمريكي آنذاك ستيفن منوشين. وكانت خطط التوقيع الرسمي مع إسرائيل تسير ببطء، حيث ذكرت تقارير أنه لم يتم الاتفاق على جدول زمني لذلك إلَّا في شهر فبراير 2023، عندما زار وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين الخرطوم في ذلك الوقت.
وكان نائب البرهان آنذاك، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم “حميدتي”، على علاقة وثيقة بإسرائيل. فقد أقام حميدتي علاقات وثيقة مع الإمارات العربية المتحدة، حيث أرسل وحدات من قوات الدعم السريع (RSF) التابعة له للقتال كمرتزقة في اليمن، كما أقام علاقات قوية مع جهاز الموساد الإسرائيلي.
وعندما اندلعت الحرب في السودان في شهر إبريل 2023، بين الجنرالين (البرهان وحميدتي)، كانت إسرائيل على اتصال بكلا الرجلين، حيث اتجهت وزارة الخارجية الإسرائيلية نحو عبد الفتاح البرهان والقوات المسلحة السودانية، واتجه الموساد نحو قوات الدعم السريع لحميدتي.
كما دعم أصدقاء إسرائيل من الدول العربية أطرافًا مختلفة في الحرب (الأهلية) السودانية. فمصر، وبما يتماشى مع تقاليدها في دعم المؤسسة العسكرية بالخرطوم، تدعم القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان. بينما تقدم دولة الإمارات العربية المتحدة دعمًا واسع النطاق لقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
وللمفارقة، فإن بنك الخرطوم الخاص، الذي يمتلك أغلبية أسهمه ممولون من دولة الإمارات العربية المتحدة، يُعد هو القناة المالية الرئيسة للقوات المسلحة السودانية. وتميل المملكة العربية السعودية أيضًا إلى دعم القوات المسلحة السودانية، لقلقها من الدور المزعزع للاستقرار الذي تلعبه دولة الإمارات في البحر الأحمر، والذي تعتبره فِناءها الخلفي.
وعلى مدى ثمانية عشر شهرًا من القتال، لم تسفر سلسلة من مبادرات الوساطة من جانب كل من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية ومصر والقادة الأفارقة عن أي نتائج تُذكَر. وأحد أسباب ذلك هو أنه في كل مرة يوافق فيها البرهان على مقابلة حميدتي، أو إرسال وفد للقيام بذلك، يعارض زعيم الإسلاميّين الأقوياء في السودان، علي كرتي، هذه الخطوة. وفي سبتمبر 2023، فرضت واشنطن عقوبات على “كرتي” (الذي عمل قائدًا لقوات الدفاع الشعبي في عهد الرئيس السوداني السابق عمر البشير قبل أن يُصبح وزيرًا للخارجية بعد ذلك) بسبب ادعاءات بـ “عرقلته المستمرة للجهود الرامية إلى التوصل إلى وقف إطلاق النار في السودان”. ويعيش كرتي حاليًا في الدوحة بقطر.
وترتبط الحركة الإسلامية السودانية بعلاقات طويلة الأمد مع حركة حماس الفلسطينية، التي كانت عضوًا في المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي الذي كان يتخذ من الخرطوم مقرًا له منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين، وسط تقارير بإنشاء مكاتب وشركات هناك، وكذلك (ادعاءات بإقامة) معسكرات للتدريب. كما انتشرت أيضًا تقارير بأن حماس كانت تحصل على الأسلحة من السودان، الأمر الذي استفز إسرائيل ودفعها لشن غارات جوية (على السودان). ثم فتر التعاون النشط بين الجانبين في عام 2014 تحت ضغط من المملكة العربية السعودية.
وعلى الرغم من نفورهما القديم من جماعة الإخوان المسلمين، إلَّا أن مصر والمملكة العربية السعودية توصلتا إلى الاعتقاد بأن الإسلاميّين السودانيّين يمكن السيطرة عليهم وأنهم لم يعودوا يشكلون تهديدًا خارج حدودهم.
كما أن الاتفاقية الثلاثية الأخيرة بين مصر وإريتريا والصومال قد احتضنت مجموعة “الدم الجديد”، والتي يُقال إنها فرع من الإخوان المسلمين في الصومال. وكانت القاهرة والرياض على استعداد لتقبل تدفق الأموال والأسلحة إلى القوات المسلحة السودانية، سواء من قطر أو تركيا أو حتى إيران.
لكن أبو ظبي مستمرة في عدائها للإسلاميّين، وهي حتى الآن غير مقتنعة بالحجة التي تقدمها مصر بأنه إذا كان بوسعها هي أن تتعايش مع الإخوان المسلمين في الجوار، فإنه يتأتّى أن تكون الإمارات قادرة على القيام بذلك أيضًا.
ومنذ فترة طويلة كان من الواضح أن التوصُّل إلى اتفاق في العواصم العربية شرط أساسي لإنهاء القتال في السودان. والسؤال هو كيف نصل إلى تحقيق ذلك. إذ ليس لدى وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أي اهتمام واضح بالانخراط على المستوى العالي المطلوب (في المسألة السودانية).
ففي البداية، كان بلينكن قد وضع مسؤولي مكتب وزارة الخارجية في إفريقيا على رأس إدارة هذا الملف، ولكن أصحاب النفوذ من الدول العربية المنخرطة في الأمر تجاهلوهم. وعلى الرغم من أن المبعوث الأمريكي الخاص للسودان توم بيرييلو يقدم تقاريره نظريًّا إلى بلينكن، إلَّا أنه في الممارسة العملية لمهمته لا يتمتع بالدعم رفيع المستوى المطلوب لأدائها على أكمل وجه.
وعندما التقى الرئيس الإماراتي محمد بن زايد بالرئيس الأمريكي جو بايدن الشهر الماضي، وأكدا على “شراكة استراتيجية ديناميكية” بين البلدين، تضمن البيان المشترك كلمات نمطية حول حرب السودان والأزمة الإنسانية.
ولكن “إسرائيل” بإمكانها أن تغير هذه المعادلة. فحتى الاستكشاف الأولي لخطة مقترحة بنقل (قادة) حماس إلى السودان سيحتاج إلى أن ترسم إسرائيل مسارًا للتوصل إلى اتفاق بين البرهان وحميدتي. وسيتطلب ذلك بدوره تغييرًا في المعادلة العسكرية والمالية – من تقديم عرض موثوق للقوة من قبل القوات المسلحة السودانية وداعميها المصريّين، جنبًا إلى جنب مع النفوذ الإماراتي على قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
وأيًّا كانت تلك المصالح التي قد تكون لأبو ظبي في السودان، فإن رهاناتها مع إسرائيل أعلى من ذلك بكثير، كما أن لديها كلًا من العصا والجزرة لممارسة الضغط على حميدتي.
قد تكون احتمالية انتقال (قادة) حماس إلى السودان هي بمثابة قشة في مهب الريح. وحتى لو أصبحت احتمالية حقيقية، فقد ينسحب نتنياهو أو قادة حماس الجدد في أي لحظة. إن جنرالات السودان ليسوا مجرد بيادق: إنهم خبراء في التلاعب برُعاتهم الأجانب. لكن الأحاديث المتداولة تؤكد أن مصير السودان يكمن في مضمون السياسة الواقعية في الشرق الأوسط، في أيدي تلك الدول التي ترى السودان وشعبه رموزًا في ألعاب القوة الخاصة بهم.