مقدمة
مازالت عملية “طوفان الأقصى” تستقطب الاهتمام الأكبر على المستويين: الإقليمي والدولي، والشعبي والحكومي، بما أسفرت عنه من نتائج كارثية بالنسبة لإسرائيل، وما سوف يترتب عليها من تبعات ستؤثر على كل القوى المتداخلة في القضية الفلسطينية.
ومنذ أن قامت حركة حماس بهذه العملية، والمنطقة تشهد تطورات وتحركات، في انتظار ما ستقوم به إسرائيل في ردها على المقاومة، وما ستقوم به حماس في الدفاع عن قطاع غزة ضد عملية الاجتياح البري التي أعلنت عنها تلأبيب، ووضعت لها هدفًا رئيسًا هو القضاء على المقاومة الفلسطينية.
وهذه الورقة، تستعرض مواقف القوى الفاعلة في الصراع، بعد تسليط الضوء على آخر تطورات عملية “طوفان الأقصى”، ثم تفاضل بين السيناريوهات المحتملة من جانب إسرائيل في حربها على قطاع غزة، والمآلات المنتظرة بعد حسم الصراع، سواء كان هذا الحسم لحركة حماس أو عليها.
1 – تطورات عملية “طوفان الأقصى”
دخلت الحرب بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل أسبوعها الثالث، بعد أن فاجأت الحركة إسرائيل بعملية غير مسبوقة، في طبيعتها ونتائجها، وبعد استعدادات طويلة لم ترصدها المخابرات الإسرائيلية التي سادت لديها فرضية تمحورت حول أن الحركة لن تورّط نفسها في جولة عسكرية أخرى، وتفضل إجراء ترتيبات لتحسين الوضع الاقتصادي في القطاع، فيما تبذل جهدها لإشعال النار في الضفة الغربية، وبالتالي تمَّ تقليص انتشار الجيش الإسرائيلي على حدود قطاع غزة[1].
أدَّى هجوم حماس إلى إحداث صدمة في إسرائيل والدول الحليفة لها، ومازالت هذه الصدمة تؤثر على رد الفعل الإسرائيلي الذي يتسم بالعنف الشديد، للانتقام من المقاومة التي مازالت تواجه الجيش الإسرائيلي، وأسقطت ما يقرب من ألفي قتيل من الجنود والمستوطنين، وأصابت أكثر من 5 آلاف، فيهم 1210 جنديًّا سوف يتم الاعتراف بهم كمعاقين، وأسرت 250 أسيرًا، وتسببت في نزوح ما يقرب من 500 ألف من الجنوب والشمال، أكثرهم من سكان المستوطنات الواقعة في غلاف قطاع غزة.
وبعد عشرات المجازر التي وقعت بسبب القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي استخدم فيه أكثر من 18 ألف طن من المتفجرات، وبما يساوي مرة ونصف من القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما، ارتفعت حصيلة العدوان على القطاع، حتى 1 نوفمبر، إلى 8796 شهيدًا، وأكثر من 22 ألف جريح، ومليون ونصف مليون نازح، اضطروا إلى ترك منازلهم بسبب القصف الذي أصاب أكثر من 50 بالمئة من الوحدات السكنية بالقطاع، واحتجاز 4 آلاف فلسطيني من سكان غزة في منشأة أمنية بإسرائيل. بالإضافة إلى سقوط 132 شهيدًا من الضفة الغربية.
يُركز الجيش الإسرائيلي على قصف المباني الآهلة بالسكان، والأهداف المدنية، والمنشآت الطبية والاقتصادية والتجارية الحيوية للحياة الإنسانية في غزة، ويعمل على إخلاء أحياءٍ بأكملها، وهو ما يُشبع غريزة الانتقام من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يخلق مشكلة لحماس أمام مواطنيها، حيث سيرى قادتها بعد انتهاء الحرب مشاهد الدمار غير المسبوقة، وسط شكوك حول إمكانية إعادة الإعمار.
وفي الوقت نفسه، يرفض الإسرائيليون فتح المعابر مع قطاع غزة بشكل كامل، لمنع مرور الوقود والطعام والدواء، في إجراء يرقى للعقاب الجماعي.
ومع تزايد ضحايا القصف الإسرائيلي من المدنيّين الفلسطينيّين، تتسع دائرة المعارضين للممارسات الإسرائيلية، وهو ما ظهر في انطلاق المظاهرات الشعبية المنددة بإسرائيل في العديد من الدول الأوروبية التي تؤيد حكوماتها في الغالب إسرائيل، واقتحام البعض للكونجرس الأمريكي اعتراضًا على موقف الولايات المتحدة المؤيد لإسرائيل في استهدافها للمدنيّين.
- استغلال إسرائيل للعملية
قامت حركة حماس بعملية “طوفان الأقصى” في وقتٍ كانت فيه القضية الفلسطينية في حالة تراجع كبير، بسبب التطبيع، وتجاهل حقوق الفلسطينيّين، ومحاصرة المقاومة، وضعف السلطة الفلسطينية، وتنامي التطرف اليميني في إسرائيل، وإمكانية عودة الجمهوريّين للحكم في أمريكا، وهم أشد مناصرةً لإسرائيل، ولديهم مشروع لتصفية القضية. ولهذا، فإن تبعات العملية – على قسوتها – أفضل من تصفية القضية الفلسطينية.
وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تكن تتمنى أن تتعرَّض لهذه العملية – التي تستهدف وجودها، وتقضي على نظرية الردع، ومزاعم الجيش الذي لا يُقهر – إلَّا أنها تستغل الفرصة في الوصول إلى درجةٍ من العنف لم تكن قادرة على الوصول إليها من قبل في مناطق آهلة بالسكان، للقضاء على المقاومة، وتهجير سكان القطاع، وتحويله إلى أرض محروقة، لحرمان المقاومة من حاضنتها الشعبية وبيئتها الجغرافية والسكانية التي تصعب أمر الجيش الإسرائيلي في استهداف المقاومة.
- اتساع رقعة الحرب
حذر البعض من تطور الحرب في غزة وتحولها إلى حرب عالمية ثالثة، ومنهم الأدميرال لورد ويست، القائد السابق للبحرية البريطانية، الذي توقع أن يؤدي وجود قوات لأمريكا وبريطانيا على الأرض بجانب إسرائيل، إلى جر لبنان وسوريا وإيران وروسيا إلى الحرب والقتال بجانب الفصائل الفلسطينية في غزة[2].
والخطوة الأولى لهذه الحرب الواسعة، هي تدخل حزب الله وامتداد الحرب إلى لبنان، ثم انضمام سوريا المدعومة من روسيا إلى المقاومة، وهو ما يمكن أن يجر الرئيس الروسي بوتين إلى الحرب. خاصة وأن اشتعال الحرب في الشرق الأوسط يخفف عنه الضغط في أوكرانيا.
وإذا هاجمت إسرائيل إيران فإن الأخيرة لن تجد مفرًّا من مهاجمة إسرائيل واستهداف مصالح أمريكية في المنطقة، لتجد الولايات المتحدة نفسها في مواجهة مع إيران، تستدعي فيها حلفاءها من دول المنطقة وحلف الناتو.
قد لا يصل الأمر إلى حرب عالمية تتورط فيها القوى العظمى بشكل مباشر، ولكن تحريك الولايات المتحدة لأكبر حاملة طائرات لديها إلى شرق المتوسط، وتزويد إسرائيل بأحدث الأسلحة المقاتلة، وإعلان إنجلترا نشر سفن حربية في شرق المتوسط دعمًا لإسرائيل، دليل على وجود تفاهم بين الغرب وإسرائيل على اجتياح غزة، وهو ما يمكن أن يجر حزب الله وإيران للحرب، لتتسع دائرتها.
2 – موقف المقاومة
منذ أن بدأت إسرائيل في حشد قواتها على حدود قطاع غزة، والسؤال الذي يُطرَح هو عن جهوزيَّة المقاومة لمواجهة التطور الميداني المرتقب، وهو ما أجابت عنه المقاومة، من خلال تأكيدها على أن لديها خطة متكاملة لكل مراحل تطور الصراع الحالي، بما في ذلك الحرب الشاملة. وأنها تمتلك أدوات مهمة للمواجهة ومستعدة لكل الاحتمالات المتوقعة، بما فيها الغزو البري[3].
ويَرى خبراء عسكريون أن المقاومة قد لا تستطيع منع أرتال الجنود والدبابات الإسرائيلية من اجتياح القطاع، ولكن دخول الجيش الإسرائيلي برًّا إلى غزة يمكن أن يكون فرصة مثالية لمقاتليها، للانتقام من الجنود الإسرائيليّين قتلًا وأسرًا، ونصب الفخاخ لهم في كل مكان، لمعرفتهم بجغرافية مسرح العمليات، وصعوبة مواجهتهم في حرب عصابات.
تمتلك المقاومة أوراق ضغط تتحسَّب لها إسرائيل في استعدادها للاجتياح البري، منها الأسرى والمحتجزين لديها، وإمكانية انضمام جبهات أخرى إليها، خاصَّة الجبهة الشمالية، التي يتواجد فيها حزب الله اللبناني، الذي سوف يؤدي اشتراكه في الحرب إلى انقسام القوات الإسرائيلية وتخفيف الضغط عن المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
وثمَّة نقاط قوة تمتلكها المقاومة الفلسطينية، ويمكن أن تعيق إسرائيل عن تحقيق أهدافها، خاصَّة إذا طال أمد الحرب. من هذه النقاط حالة الرعب التي أحدثتها في نفوس الجنود الإسرائيليّين بعد عملية “طوفان الأقصى”، وانهيار “فرقة غزة”، التي تعد من قوات النخبة المتخصصة في مواجهة القطاع، والأكثر قدرة وإمكانيات على مواجهة الفصائل الغزاوية، التي استطاعت قتل وأسر عدد كبير منها.
هذا بالإضافة إلى تعدد الجنسيات في صفوف المستوطنين والجنود الإسرائيليّين، الأمر الذي يقوي عندهم فكرة الفرار من الحرب، وتراجع الاقتصاد الإسرائيلي، والانقسامات المجتمعية، وتراجع ثقة الإسرائيليّين في دولتهم ومؤسساتهم، ومخاوف حلفاء إسرائيل العرب والغربيّين من اشتعال الشارع العربي انتصارًا للفلسطينيّين.
وفيما يَخص الدعم الغربي، بدأت بعض الأصوات الغربية في رفض الدعم المطلق لإسرائيل، وأدانت الممارسات الانتقامية ضد المدنيّين، وأعلنت تأييدها لحق الفلسطينيّين في الحياة.
ومنهم: جوش بول، المسؤول بالخارجية الأمريكية، الذي استقال اعتراضًا على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل بالأسلحة التي تقتل بها المدنيّين الفلسطينيّين. ورئيس وزراء أيرلندا، ليو فرادكار، الذي قال إن إسرائيل تمارس عقابًا جماعيًّا في غزة وتنتهك القانون الدولي. ووزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية، إيوني بيلارا، التي وصفت ما تفعله إسرائيل بأنه “جريمة حرب وإبادة جماعية مبرمجة”. وجريمي كوربن، رئيس حزب العمال البريطاني السابق، الذي دعا إلى عدم تسويغ “جرائم الحرب”[4].
- القضاء على المقاومة
دخلت إسرائيل الحرب مع حركة حماس بهدف رئيس، هو القضاء على المقاومة، ولكن تحقيق هذا الهدف يصعب عليها، لعدة أسباب: أولها هو أن حماس حركة أيديولوجية، و”موجودة في أحلام الناس، وفي قلوبهم، وفي عقولهم”، بحسب قول إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، الذي يَرى أنه لا يوجد سبيل للقضاء على عمليات حماس من قطاع غزة من خلال الهجمات الجوية والدبلوماسية والأماني من جانب إسرائيل على التلفزيون والدعم العالمي”[5].
كذلك، فإن هدف القضاء على حماس ليس سهلًا من الناحية العسكرية، لأن فصائل المقاومة ما تزال قادرة على القتال، ولديها ما لم تعلن عنه بعد، بل وتتحدى جيش الاحتلال وتدعوه لدخول غزة والتعامل معها بعيدًا عن المدنيّين.
ثم إن الواقع يؤكد أن المقاومة تتواجد في كل الظروف، وتتكيف معها؛ فهي تتواجد في الضفة الغربية، رغم وجود قوات الاحتلال، والتعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
وثمَّة شك لدى بعض المتابعين الغربيّين للشأن الفلسطيني حول إمكانية نجاح استراتيجية إسرائيل في تدمير قدرات حماس العسكرية والسياسية. بل يرى البعض أن إسرائيل تنتج بالفعل “إرهابيّين” (مقاومين) أكثر مما تقتلهم؛ لأن سلوكها الحالي يمكن أن يقضي على جيل منهم، ولكنه لن يمنع ظهور جيل جديد، بسبب ارتباط المقاومة بحاضنتها الشعبية، وهو ما حدث في جنوب لبنان، في 1982، حينما غزت إسرائيل لبنان للقضاء على المقاومة الفلسطينية، فظهر حزب الله[6].
- تهجير الفلسطينيّين
ارتبطت عملية “طوفان الأقصى” بالحديث عن تهجير الفلسطينيّين من سكان قطاع غزة، وهو ما يطرح السؤال عن إمكانية نزوح الغزاويّين إذا فتحت لهم الحدود.
يواجه سكان القطاع حرب إبادة، وحصارًا شاملًا، وتدميرًا للمنازل والمرافق والبنية التحتية لم يشهدوا له مثيلًا من قبل. ولهذا، فمن المتوقع أن يقبل عدد من سكان القطاع بالنزوح إلى سيناء إذا فتحت المعابر، للإقامة في مخيمات أو مدن، إلى أن تتحسن الأوضاع في القطاع، خاصة أنه لا يمكن القول إن جميع السكان في غزة يؤيدون المقاومة الفلسطينية، أو حركة حماس بشكل خاص.
ولن تقف المقاومة في وجه الراغبين في النزوح، لأن منعهم موقف لا يمكن قبوله أخلاقيًّا، حتى إن كان يضر بالقضية، وسوف تُتَّهم الحركة بأنها تريد اتخاذ المواطنين المدنيّين دروعًا بشرية في مواجهتها لإسرائيل، الأمر الذي سوف يُستغل في التشهير بحركة حماس من جانب الحكومات العربية المطبعة والمعادية للتيَّار الإسلامي، ومن جانب الغرب أيضًا، وتحميل الحركة نتيجة ما يمكن أن يتعرَّض له المدنيون من مجازر، ولن يلتفت أحد إلى ما تفعله إسرائيل.
وقد يقال إن خروج الفلسطينيّين من القطاع لن يضر القضية، لأنهم سوف يعودون، كما حدث في عام 2008، حينما اخترقوا الحدود المصرية، لكسر الحصار، ودخلوا إلى سيناء، واشتروا احتياجاتهم، ثم عادوا إلى القطاع مرة أخرى.
ولكن الأمر مختلف هذه المرة، لأن الفلسطينيّين لا توجد لديهم منازل يعودون إليها الآن، وبالتالي سوف يكونوا نواة لمخيمات جديدة في سيناء، أو بؤر سكنية مثل المخيمات في لبنان. وبطول الوقت ومعارضة إسرائيل وتواطؤ الدول العربية، سوف يتحول وضعهم من وضع مؤقت إلى وضع دائم.
3 – الموقف الإسرائيلي
بعد مرور أكثر من أسبوعين على عملية “طوفان الأقصى”، مازالت إسرائيل تحشد لعملية عسكرية بهدف القضاء على حركة حماس بشكل نهائي.
وقال الجيش الإسرائيلي، عبر موقع مخصص لعملية “السيوف الحديدية”، إنه يجري إعداد قوات “جيش الدفاع” تمهيدًا لتوسيع رقعة القتال.. وتمَّ إنشاء مراكز لوجيستية أمامية لدعم القوات المقاتلة، وتمَّ نقل الآليات والأدوات اللازمة للقتال وللحشود العسكرية. وتنتشر الكتائب المختلفة وقوات “جيش الدفاع” في كافة أنحاء البلاد استعدادًا لرفع مستوى الجاهزية وتمهيدًا للمراحل المقبلة من الحرب، ولا سيما العملية البرية الواسعة[7].
ويأتي حشد القوات الإسرائيلية وإعدادها في ظِل حرب إبادة تُشَن على قطاع غزة، على ثلاثة مسارات: التهجير الجماعي تحت نار القصف والتهديدات، واستهداف المنازل والبنايات الآهلة بالسكان، وإغلاق القطاع، وحرمان سكانه من الماء والكهرباء والغذاء والدواء.
وتنطلق إسرائيل في تنفيذ قرارها المعلن باجتياح قطاع غزة، للقضاء على حركة حماس، وإبادة “كتائب القسَّام”، وتدمير البيئة الحاضنة للحركة في القطاع، من اعتبارات، هي:
- استغلال دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية لعملياتها العسكرية إلى أقصى حد ممكن.
- الدعم الأمريكي العسكري، وتزويد إسرائيل بما يلزمها من مساعدات عسكرية إذا طالت الحرب.
- إرسال حاملة الطائرات والقطع البحرية الأمريكية إلى شرق المتوسط، لتعزيز الردع الإقليمي.
- وجود أسرى لدى حماس، وعدم صبر الرأي العام على بقائهم لدى المقاومة.
- الدعم الشعبي لعملية عسكرية شاملة وواسعة في قطاع غزة بسبب الخسائر التي تكبدتها إسرائيل.
- حرص نتنياهو على شن عملية عسكرية شاملة تغير الوضع، وتكون حبل نجاة لحكومته.
- حاجة الجيش الإسرائيلي إلى إعادة الاعتبار لمكانته أمام المجتمع الإسرائيلي والعالم[8].
وفي هذا السياق، ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن المخابرات المصرية والأردنية قدمتا للجيش الإسرائيلي تقديرًا أمنيًّا بشأن قدرات المقاومة، لافتة إلى أن هذا التقدير أشار إلى استعداد حماس بشكل جيد لأي اجتياح بري للقطاع[9].
وعلى الرغم من خطورة الاجتياح البري، وعلم الجيش الإسرائيلي باحتمال تعرضه لخسائر كبيرة بسبب المواجهة المباشرة مع المقاومة في مناطق مأهوله، فإن التحضيرات مستمرة لهذا الاجتياح، لأن القناعة الإسرائيلية الآن هي ضرورة الرد بريًّا وبصورة غير مسبوقة، لأن عدم تنفيذ هذه العملية سيبعث برسالة ضعف للمحيطين به، بحيث تستدعي الهجوم التالي، أو الحرب القادمة، وتتسبب بإخلاء جماعي لمستوطنات غلاف غزة والشمال، ويكون ثمنها أغلى من العملية البرية الحالية نفسها، مما يجعل أي تأخير لها في هذه المرحلة يصبّ في مصلحة حماس وحلفائها[10].
ولكن إسرائيل لا تملك حاليًا رؤية لما بعد حماس، هذا إذا تمكنت بالفعل من تحقيق هدفها بإبادة قادة الحركة وإزاحتها عن الحكم في غزة، وهو خيار يتباعد أكثر كلما طال الانتظار.
4 – موقف الولايات المتحدة
أدَّت عملية “طوفان الأقصى” إلى تأجيل الخلافات بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على خلفية معارضة الزعيم الإسرائيلي السيادة الفلسطينية والتعامل مع إيران، وبسبب الإصلاح القضائي الذي بدأته حكومته اليمينية المتشددة.
ووَصَل الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل إلى مرحلة صارت فيها أمريكا وكأنها هي التي تقود الحرب في قطاع غزة، بهدف القضاء على المقاومة وتفكيك حاضنتها الشعبية[11].
وفي هذا السياق، واصلت الولايات المتحدة تعزيز جاهزيتها العسكرية في الشرق الأوسط، على ضوء التصعيد من قبل الفصائل المسلحة الموالية لإيران، واتخذت من التدابير ما يوفر لها الردع اللازم لحماية قواتها بالمنطقة، والدفاع عن إسرائيل، ومنع مهاجمتها أثناء حربها مع حركة حماس.
ولكن واشنطن لا ترغب في توسيع نطاق الحرب بين حماس وإسرائيل وتحويلها إلى حرب إقليمية، لأن التوسّع المحتمل للعملية الإسرائيلية قد يفاقم الوضع في الشرق الأوسط، وهو ما تسعى إدارة بايدن إلى تجنّبه، مع تركيزها على المنافسة العالمية مع الصين وروسيا اللتين تعملان بشكل وثيق مع إيران، وحسنتا علاقاتهما مع دول عديدة في الشرق الأوسط، على رأسها السعودية[12].
ولهذا، فإن التحركات الأمريكية الأخيرة، ومنها تحريك القطع البحرية، تهدف إلى ردع إيران وحزب الله اللبناني عن فتح جبهة أخرى في الشمال.
ويمكن تفسير موقف الإدارة الأمريكية ومعظم الدول الغربية، من دعم الكيان الإسرائيلي، وإمداده بالمساعدات العسكرية، بأنه دليل على مخاوفهم من انهيار النظام الدولي أحادي القطبية، وبزوغ نظام دولي جديد. فالحسابات الإقليمية العربية المرتبطة بالأمن القومي للدول العربية، إلى جانب التراجع الأمريكي، ووجود قوى عظمى بديلة يمكن اللجوء إليها اليوم مثل الصين وروسيا، قد تتخطّى الحسابات الأمريكية[13].
وفيما يخص مرحلة ما بعد الحرب، ثمَّة تقارير تفيد بأن أمريكا تتبنى في حالة عدم رغبة إسرائيل مواصلة العملية العسكرية، بلورة فكرة مفادها مطالبة الدول العربية المؤثرة في الملف الفلسطيني، ولاسيما مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، إلى جانب قطر والسعودية وتركيا، بالموافقة على اقتراح بفرض وصاية خارجية على قطاع غزة، ضمن خطة لنزع سلاح فصائل المقاومة، وأن تقبل هذه الدول بمبدأ الوصاية من خلال قرار يقضي بإعادة مؤسسات السلطة وقواتها إلى القطاع[14].
وكشف دبلوماسي عربي أن جانبًا رئيسًا من جولة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في مصر والسعودية وقطر والأردن، قد ركز على البحث في إمكانية قيام حلف سياسي تقوده الولايات المتحدة وتشارك فيه تركيا، يعمل على استثمار العمليات التي تشنها إسرائيل ضد ما وصفه الوزير الأمريكي في لقائه مع المسؤولين العرب بـ”عدونا المشترك حماس”. وأفاد الدبلوماسي بحصول واشنطن على موافقة متوقعة من الإمارات والمغرب، في حين فشلت في الحصول على موافقة مصر والسعودية، ورفض الأردن والسلطة الفلسطينية المقترح[15].
وفي الداخل الأمريكي، تخشى واشنطن من أثر الحرب في الشرق الأوسط على الشأن الداخلي، لأن طول أمد الحرب في غزة والدعم المطلق لإسرائيل سوف يؤدي إلى تنامي حالات الكراهية بين المسلمين واليهود والإنجيليّين المحافظين، وسوف ترتفع أسعار النفط، ما سيؤدي إلى رفع الكلفة الاقتصادية على المواطن الأمريكي الذي سوف يتوجه قريبًا لصندوق الانتخابات.
5 – إيران ومحور المقاومة
باركت إيران على لسان كبار قادتها عملية “طوفان الأقصى”، ونفت بشكل رسميّ أن يكون لها دور في هجوم حماس على إسرائيل. وأكدت أن القيادة الفلسطينية تتخذ قرارتها بشكل مستقل.
وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال”، قد نسبت إلى مسؤولين رفيعي المستوى في حماس وحزب الله اللبناني، أن إيران ساعدت في التخطيط لهجوم على إسرائيل على مدى أسابيع، مشيرة إلى أن “الحرس الثوري” قد أعطى الضوء الأخضر النهائي لذلك في سبتمبر 2023، في بيروت[16].
ولكن الإدارة الأمريكية، رغم علنيَّة الدور الذي تقوم به طهران في دعم حماس، عسكريًّا وماديًّا وسياسيًّا، نفت رصدها أدلة على وقوف إيران وراء الهجوم على إسرائيل، في خطوة يمكن تفسيرها بعدم رغبة الولايات المتحدة في توسيع نطاق الحرب، وسعيها لحصر الصراع في المرحلة الحالية في المواجهة بين حماس وإسرائيل.
لا شك أن إيران مستفيدة من عملية “طوفان الأقصى”، لأنها تعطل المحادثات المتسارعة التي تتوسط فيها الولايات المتحدة لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، والذي تعتبره إيران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، لأنه يوسع دائرة التواجد الإسرائيلي في الخليج، ويمكن أن يمهد لإحياء فكرة التحالف العسكري المناهض لطهران، والذي كان مطروحًا من قبل.
كذلك، فإن اشتباك المقاومة الفلسطينية مع إسرائيل يشغل تلأبيب عن مواجهة طهران ويعطل تحريضها للولايات المتحدة على توجيه ضربه عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، لتدمير مشروع إيران النووي من ناحيةٍ، ويجعل من إيران لاعبًا مؤثرًا ومركزيّا في المنطقة، ولا يُمكن تجاهله في أي صراع أو تسوية إقليمية قادمة من ناحيةٍ أخرى.
لكن السؤال الذي يُطرَح حول موقف إيران من الحرب، هو: هل توحد إيران جبهات المقاومة في المنطقة وتوجهها للدخول في مواجهة مع إسرائيل بالفعل، ومتى تتخذ هذا القرار؟
لا ترغب إيران في مواجهة مباشرة ومفتوحة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لأن هذه المواجهة قد توفر لإسرائيل الفرصة التي تنتظرها لتوجيه ضربة عسكرية لإيران، بحجة الدفاع عن النفس، وسوف ترفع من مستوى التوتر مع الولايات المتحدة والغرب، في وقتٍ تحاول فيه طهران الوصول إلى شكل من أشكال التوافق معهما، من أجل العودة إلى الاتفاقية النووية ورفع العقوبات الاقتصادية التي تؤثر على وضع النظام الإيراني.
هذا بالإضافة إلى أن الوضع الداخلي الإيراني، المضطرب بسبب المظاهرات الاحتجاجية التي تخرج إلى الشارع بين الحين والآخر، يشهد تغيرًا سلبيًّا تجاه فصائل المقاومة التي تدعمها إيران، إذ ترفض قطاعات عريضة من الشعب الإيراني دعم المقاومة، وتنتقد توجيه الإمكانيات الإيرانية إلى جهات خارجية في وقتٍ يُعاني فيه المواطن من أزمة معيشية خانقة، بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على بلادهم بسبب سياسات النظام الخارجية[17].
ويزيد من رفض معارضي النظام الإيراني لدعم المقاومة، ما يجدونه من حرص النظام على أرواح الفلسطينيّين، في الوقت الذي لا يتورع فيه عن قتل المتظاهرين في الشوارع، الأمر الذي يُشعِرهم بأن دماءهم أرخص عند النظام من دماء الفلسطينيّين.
ولهذا، سوف يظل التدخل الإيراني في الأحداث في حدود التهديد وتشتيت القوى الإسرائيلية، من خلال عمليات محدودة، لتخفيف الضغط الإسرائيلي على حركة حماس، وللحد من نطاق الهجوم المنتظر على القطاع، ومساعدة المقاومة في الخروج من الحرب دون الوصول إلى مرحلة الانكسار التام.
وفي سياق يدل على عدم رغبة إيران في توسيع رقعة الصراع، ووجود توافق بين طهران وحماس، حول العمل على إيقاف الحرب، قالت وزارة الخارجية الإيرانية، إن حركة حماس ربما تكون مستعدة لإطلاق سراح عشرات الرهائن لديها، إذا أوقفت إسرائيل غاراتها الجوية العنيفة على قطاع غزة[18]، ثم عاد سفير إيران لدى تايلاند وأكد هذا التوجُّه.
ولكن وصول حركة حماس إلى مرحلة الانكسار التام، وتيقن إيران من أن الحركة في سبيلها لتلقي ضربة يمكن أن تقضي عليها قضاءً كاملًا، هو النقطة التي يمكن أن تفكر عندها طهران في الدخول في مواجهة صريحة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، من خلال توجيه جماعات المقاومة الموالية لها، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، إلى استهداف المصالح الأمريكية والإسرائيلية في كل مكان يمكنها الوصول إليها فيه، في إطار ما يسمى بوحدة الجبهات أو تعدد الساحات.
لأن القضاء على حركة حماس، يمكن أن يكون بداية للقضاء على محور المقاومة، الذي تبنيه إيران منذ أكثر من أربعين عامًا، ويُعَد أحد أهم مرتكزات الدفاع عن الأمن القومي الإيراني، الذي يعتمد على إيجاد جبهات مفتوحة حول إسرائيل، في قطاع غزة وجنوب لبنان وسوريا، لتعديل ميزان القوى في الصراع بين الدولتين، وتقليل احتمالية المواجهة على الأراضي الإيرانية.
ولهذا، حذر وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، من أن “بلاده لا يمكن أن تبقى متفرجة إزاء هذا الوضع”، وأكد أن “الأطراف الأخرى في المنطقة جاهزة للتحرك إن لم يتوقف العدوان”[19].
وبناءً على ما سبق، فإن شكل التحرك الذي ذكره عبداللهيان، يتدرج صعودًا بتصاعد الأحداث في غزة. وقد بدأت مرحلته الأولى بالفعل، والتي أعلنت فيها جبهات المقاومة في العراق وسوريا واليمن عن تواجدها، من خلال عمليات أقرب إلى الرمزية، لتدلل من خلالها على قدرتها على استهداف مصالح أمريكا وإسرائيل. أما حزب الله اللبناني فهو الأكثر تصعيدًا في اشتباكه مع القوات الإسرائيلية.
وهذه المرحلة ترغب إيران في عدم الاضطرار إلى تجاوزها، لأنها تريد المحافظة على أوراق الضغط على إسرائيل ومنها إلى الولايات المتحدة وباقي الدول، ولا تريد أن تستعمل كل أوراقها مرة واحدة[20].
ويمكن لإيران أن تنتقل إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة التصعيد، وتوحيد جبهات المقاومة، من خلال توجيه الأذرع المسلحة إلى الدخول في الحرب، إذا وقعت أعداد كبيرة من الضحايا المدنيّين أثناء الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة، أو أوشكت المقاومة الفلسطينية على الهزيمة.
أما المرحلة الثالثة والأخطر بالنسبة لإيران والمنطقة، فهي التدخل الإيراني المباشر في الحرب، في حال استهداف الأراضي الإيرانية.
- الجبهة اللبنانية
أعلن حزب الله، منذ الساعات الأولى لعملية “طوفان الأقصى”، أنه لا يقف على الحياد في هذه المواجهة. وأكد الحزب وجود اتصال مباشر بين قيادته وقيادة المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج، لإجراء تقييم متواصل للأحداث وسير العمليات، ورَهَن استعداده للانخراط في القتال المفتوح باحتمالية تنفيذ هجوم بري مُوسَّع على غزة.
وموقف الحزب الداعم لحركة حماس، هو دفاع عن وجوده، قبل أن يكون التزامًا تجاه جبهة من جبهات محور المقاومة، لأن القضاء على الحركة في القطاع يعني توجيه إسرائيل جهودها كاملة نحو جنوب لبنان، للقضاء على حزب الله في مرحلة تالية.
وفي ظِل طبيعة علاقة التأثير المتبادل بين حزب الله وحركة حماس، بدأ الحزب منذ اليوم الأول للحرب في القيام بسلسلة من العمليات ضد أهداف عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا اللبنانية. وتتصاعد عمليات الحزب مع تصاعد القصف على قطاع غزة واستعداد الجيش الإسرائيلي لاجتياحه.
ويؤدي الحزب دورًا مهمًّا في إشغال القوات الإسرائيلية، التي انتشر قسم منها على طول الحدود اللبنانية، ولكن بعض الخبراء العسكريّين يرون أن ما يجرى على الحدود اللبنانية الإسرائيلية ليس فتح جبهة قتالية، بل هو “تحرش” ليس من شأنه أن يخفف الضغط على غزة، لأنه لم يتم إطلاق أي صواريخ بعيدة المدى على أراضي الكيان الصهيوني.
ويرجع ذلك إلى أن الحزب يأخذ في الاعتبار التحذيرات والتهديدات الغربية، والاعتراض اللبناني على فتح جبهة الجنوب، التي يمكن أن تؤدي إلى تدمير لبنان الذي لا يملك مقومات الصمود في حرب مفتوحة مع إسرائيل، وسوف يتحمل كلفتها جميع اللبنانيّين.
ولهذا، فإن دور حزب الله لا يتعدى التدخل المحدود أو الرمزي، والذي لا يرقى إلى وصفه بجبهة حرب حتى الآن، الأمر الذي بدأ البعض من حماس في انتقاده[21].
وفي تطور جديد على الجبهة اللبنانية، أعلنت “قوات الفجر”، الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان، أنها استهدفت بالصواريخ مواقع إسرائيلية في الأراضي المحتلة، في إطار الدفاع عن لبنان ودعم أهل غزة.
واعتبر مراقبون أن صواريخ قوات الفجر – رغم محدودية أثرها في المعركة – تُعَد رسالة تحذير لجيش الاحتلال من تعدد القوى والفصائل الجاهزة لمواجهته على جبهته الشمالية إلى جانب حزب الله، في حالة اتساع رقعة الحرب[22].
- الجبهة العراقية
دعمت الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق هجوم حماس على إسرائيل، وأعلن الإطار “التنسيقي”، وهو “تحالف القيادات الشيعية” المشرف على الأحزاب السياسية التابعة لهذه الميليشيات، أن موقفه واضح، وهو أنه سوف يستهدف كل الأهداف الأمريكية، إذا تدخلت أمريكا في المعركة ولم تتوقف عن دعم الكيان الصهيوني. وهددت “منظمة بدر” الأمريكيّين، وأعلنت “عصائب أهل الحق” أنها مستعدة وتراقب الأحداث. وأكدت “كتائب حزب الله” أن واجبها الديني يلزمها بالتواجد في ساحة المعركة، وسوف توجه الصواريخ والطائرات بدون طيار والقوات الخاصة التابعة لها لاستهداف الأمريكيّين، وأن صواريخها يمكنها أن تصيب إسرائيل ومؤيديها إذا لزم الأمر[23].
وكانت معلومات قد كشفت عن أن مسؤولين إيرانيّين من “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري، زاروا العراق والتقوا قيادات الميليشيات المسلحة الموالية لطهران، وتباحثوا حول الأوضاع في غزة، وإمكانية تفجر الجبهة اللبنانية، ودور المقاومة العراقية في المواجهة.
وقد نفذت الميليشيات بعض تهديداتها، في 18 أكتوبر، حينما استهدفت القوات الأمريكية المتواجدة في العراق بهجومين منفصلين بطائرات مسيرة تابعة لجهة مجهولة، على قاعدتي عين الأسد وحريرة الجويتين، وأصيب عدد من الجنود. ثم تكرر الهجوم على قاعدة عين الأسد في 22 أكتوبر، من جانب ما يُعرَف بالمقاومة الإسلامية في العراق[24].
- الجبهة السورية
شهدت مناطق تواجد الميليشيات الإيرانية في سوريا حالة من الاستنفار، منذ انطلاق معركة “طوفان الأقصى”، وعززت هذه الميليشيات انتشار قواتها في مناطق توصف بأنها استراتيجية، على مقربة من الشريط الحدودي مع الجولان السوري المحتل.
ومنذ الأيام الأولى للحرب في غزة، قامت الميليشيات الإيرانية في سوريا بحملة لدعم ومساندة حركة حماس، وأعلنت عن فتح باب التبرعات والتطوع لقتال إسرائيل على الجبهة السورية الجنوبية[25].
وفي 11 أكتوبر، تمَّ إطلاق قذائف من محافظة درعا السورية على مواقع إسرائيلية بالجولان المحتل. وذكرت مصادر أن مسلحي الميليشيات المرتبطة بإيران هم من أطلق القذائف على الأغلب، لأن هناك انتشارًا لهم في المنطقة منذ سنوات، ويجري تكثيفه وتعزيزه بشكل دائم، وقد زاد ذلك منذ أن شنت حركة حماس معركة “طوفان الأقصى” ضد إسرائيل[26].
وهاجمت طائرات مسيرة تابعة لميليشيات موالية لإيران قاعدة “التنف” التابعة للتحالف الدولي في سوريا، في 19 أكتوبر، وأطلقت هذه الميليشيات صواريخ على منشأة عسكرية أميركية في منطقة كونوكو النفطية بالقرب من دير الزور.
وربما يُراد من هذه الهجمات إرسال رسائل تهديد إلى إسرائيل بإمكانية فتح جبهة الجولان إذا لم توقف حرب الإبادة والتدمير التي تشنها ضد الأهالي في غزة.
وقد تأتي حالة التصعيد مع إسرائيل من الجهة السورية وليس من لبنان، بحسب مسؤول إيراني مقرب من الحرس الثوري، يَرى أن طهران تريد الحفاظ على البنية التحتية العسكرية لحزب الله اللبناني لأطول وقتٍ ممكن.
- الجبهة اليمنية
حذر زعيم جماعة أنصار الله اليمنية، عبد الملك الحوثي، من إنه إذا تدخلت الولايات المتحدة في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بشكل مباشر، فسترد الجماعة بإطلاق طائرات مسيرة وصواريخ وستتخذ خيارات عسكرية أخرى. وقال إن الحوثيّين مستعدون للتنسيق مع جماعات أخرى[27]، في إشارة إلى باقي الفصائل في محور المقاومة بالمنطقة.
ويمكن للحوثيّين، في حالة المشاركة في المواجهة، أن يهددوا مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، باستهداف مصادر النفط وخطوط الملاحة البحرية في البحر الأحمر.
وفي 19 أكتوبر، برهن الحوثي على قدرته على استهداف إسرائيل، بعد أن أسقطت مدمّرة أمريكية في البحر الأحمر ثلاثة صواريخ وعدة مسيّرات، أطلقها الحوثيون من اليمن، ويُحتمل أنّها كانت موجّهة إلى أهداف في إسرائيل[28].
وزاد الحوثيون من استهداف الكيان الصهيوني بشكل علني، في 1 نوفمبر، من خلال إطلاق عدد من الصواريخ الباليستية والمُسيَّرات، استهدفوا بها العمق الإسرائيلي[29].
ولكن ما يقوم به الحوثيون – على أهميته – لا يُغنِي عن تدخل حزب الله اللبناني والميليشيات المتواجدة في سوريا؛ لبُعد الجبهة اليمينة، وضعف تأثير الصواريخ والمسيرات التي تتصدي لها الدفاعات الإسرائيلية والقوات الأمريكية بالبحر الأحمر. ولهذا، فإن التهديد الحقيقي الذي يمكن أن يمثله الحوثيون هو ضرب مواقع إنتاج النفط في الخليج، وتهديد الملاحة في جنوب البحر الأحمر، للضغط اقتصاديًّا على الولايات المتحدة، ومن ثمَّ على إسرائيل.
6 – موقف النظام المصري
يُعَد النظام المصري من المستفيدين من عملية “طوفان الأقصى”، التي جاءت في وقتٍ يسعى فيه عبدالفتاح السيسي لتجاوز مرحلة هي الأخطر في مسيرة حكمه لمصر، بعد أن تراجعت شعبيته بالداخل، وتقلصت أهميته بالنسبة لشركائه الإقليميّين والدوليّين.
فقد وُظِفت الأحداث في غزة للتغطية على الانتهاكات التي تحدث في عملية الترشح لانتخابات الرئاسة، وتراجع الحديث عن الحدث الانتخابي ليحل محله الحديث عن الحرب في غزة، وخطورتها على الأمن القومي المصري، وحاجة البلاد إلى الرئيس المنتمي للمؤسسة العسكرية من أجل المحافظة على سيناء، ولمواجهة التهديدات التي تتعرَّض لها.
وتمَّ تصوير السيسي على أنه الرئيس الوطني الذي يرفض التنازل عن جزء من سيناء لتوطين الفلسطينيّين، في مقابل الإخوان المسلمين الذين وافقوا على هذه المخطط.
كذلك، استغل النظام الأحداث في التواصل مع القوى الدولية، في محاولة منه للتذكير بأهمية الدور المصري في التعامل مع الملف الفلسطيني، وهو الدور الذي لا يمكن الاستغناء عنه بالكليَّة لصالح القوى الإقليمية المطبعة مع تلأبيب، مثل الإمارات، أو القوى الناشطة دبلوماسيًّا، مثل قطر.
ولكن تطورات الأحداث تضع السيسي ونظامه في مأزق، لأن حجم الرد الإسرائيلي على العملية غير المسبوقة فاق حدود الجهود والإمكانيات المصرية التي كانت توظف للوصول إلى تهدئة بعد عمليات محدودة، يعقبها هدنة، سرعان ما يتم خرقها، لتعاود القاهرة ممارسة دورها في الوساطة من جديد.
ومن ثمَّ، فإن القاهرة قد لا تستفيد من دورها في الوساطة، في ظِل تواتر الحديث عن خطط إسرائيلية أمريكية ترمي لاحتلال قطاع غزة وإنهاء حكم حماس، ودخول وسطاء آخرين، مثل قطر، التي تمكنت من إطلاق سراح محتجزتين أمريكيّتين لدى حماس.
- النزوح والتوطين
أعادت عملية طوفان الأقصى “صفقة القرن” إلى المشهد مرة أخرى، بعد أن طالب وزراء وقادة إسرائيليون، الفلسطينيّين في قطاع غزة بالنزوح إلى سيناء، لأنه سيجرى إبادة القطاع.
وفي 15 أكتوبر 2023، أكدت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن مصر تتعرض لضغوط شديدة لاستقبال لاجئين من غزة، وأن الرئيس الأمريكي جو بايدن يضغط على النظام المصري لقبول التهجير، وأن دولًا خليجية أغرتها ماليًّا، لكن السيسي يَتخوَّف من رد الفعل الداخلي. وأكدت الصحيفة أن هناك استعدادات لقبول نازحين في مدينتي رفح والشيخ زويد[30].
ثم كشف معهد “مسغاف” الإسرائيلي لبحوث الأمن القومي وللاستراتيجية الصهيونية، تفاصيل من خطة إسرائيلية لتهجير كافة سكان قطاع غزة وتوطينهم داخل مصر، وحتى في مناطق بالقاهرة، مقابل مساعدات اقتصادية وُصِفت بأنها غير مسبوقة، وتأتي في ظِل فرصة دولية وإقليمية مواتية[31].
رفض السيسي بشكل واضح نزوح الفلسطينيّين إلى سيناء وتوطينهم فيها، وطالب الشعب المصري بالخروج لتفويضه في التعامل مع قضية التوطين.
ولكن تاريخ النظام في التفريط في الأراضي المصرية، وتنازله عن تيران وصنافير للسعودية من قبل، ووجود استعدادات داخل سيناء يُعتقَد أنها لاستقبال نازحين، والأزمة الاقتصادية التي لا يبدو لها حل حتى الآن، ويمكن الخروج منها بإسقاط الديون أو تقديم المساعدات المالية، كلها أمور تجعل المراقبين للشأن المصري ينظرون بعين الريبة إلى هذا الرفض العلني.
ولهذا، فنحن أمام تفسيرين لهذا الرفض، وهما:
- أن السيسي يُسجِّل موقفه الرافض، لينفي عن نفسه التفريط في الأرض، خاصة وأن هذا التفريط لن يمر بسهولة، بعد أن فرط في تيران وصنافير. وكما أخرج السيسي مظاهرات تفويض، يمكن أن يُخرِج مظاهرات أخرى، تطالبه بفتح المعابر للفلسطينيّين لأسباب إنسانية، وعندها سيتم النزوح والتوطين نزولًا على الإرادة الشعبية.
- أن السيسي يواجه رفضًا من الجيش والمؤسسات المخابراتية والأمنية لتوطين الفلسطينيّين في سيناء، ولا يستطيع أن يتجاهل هذا الرفض. خاصة وأن التوطين ينقل التهديد الأمني الإسرائيلي إلى حدود مصر مباشرة، بعد احتلال غزة أو تفريغها من سكانها، وفق الرؤية الأمريكية الإسرائيلية.
وقد تأتي تطورات الحرب بأحداث تجبر الرافضين في الجيش والأجهزة الأمنية لنزوح الفلسطينيّين وتوطينهم في سيناء على تغيير موقفهم، وتوفر للسيسي الفرصة لتنفيذ عملية التهجير والحصول على مقابل يخرجه من أزمته الاقتصادية ويقوي علاقته بإسرائيل والقوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، كأن يؤدي الاجتياح البري المنتظر إلى كارثة انسانية كبرى تدفع أعدادًا كبيرة من سكان القطاع إلى اختراق الحدود المصرية.
- العلاقات المصرية الإسرائيلية
حرص النظام المصري على عدم انتقاد حماس بعد مبادرتها بعملية “طوفان الأقصى”، ولم يظهر في مظهر يبدو فيه مؤيدًا لإسرائيل. ويرجع موقف النظام إلى خوفه من فقدان ما تبقى له من شرعية أمام الشعب المصري ومكانة لدى العالم العربي، بعدما تطورت علاقة القاهرة مع تلأبيب، ووصلت إلى حدود غير مسبوقة من الشراكة منذ التطبيع.
وقد سمح النظام ببعض “الاستعراضات العامة للمشاعر المعادية لإسرائيل”، ومستوى معين من الاحتجاجات، لكنه يعمل في الوقت نفسه على الحد من نطاق هذه الأنشطة، لمنعها من النمو والتحول إلى حركة أكبر، تناهض السلطة قبل الانتخابات الرئاسية.
لكن ثمَّة تقديرات ترى أن دعم المصريّين الطبيعي للقضية الفلسطينية ورفضهم للعلاقات مع إسرائيل، قد يدفعهم إلى مواجهة عنيفة مع السلطة في حال التواطؤ مع إسرائيل ضد مصلحة الفلسطينيّين[32].
ولهذا، فإن السيسي ونظامه في مأزق، لأنه مضطر لاتخاذ موقف قوي ضد إسرائيل، الأمر الذي يوتر علاقته بحلفائه في تلأبيب وواشنطن.
وقد وصلت العلاقات بين مصر وإسرائيل إلى نقطة حرجة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، وصارت عرضة للتوتر نتيجة التصريحات الإسرائيلية غير المسؤولة بشأن مغادرة أهالي غزة إلى مصر، ونشر معلومات مفادها أن مصر حذرت إسرائيل من عملية لحركة حماس، وتهديد جيش الاحتلال مصر بضرب أي قوافل إغاثية تصل القطاع عبر معبر رفح البري، ووصول الأمر إلى قصف المعبر ذاته.
ثم إن تفضيل إسرائيل لوسيط عربي آخر غير مصر قد يُسهِم في تدهور العلاقات بين الطرفين، لاسيما مع تدهور الوضع الإنساني في غزة، والذي قد يضغط على القاهرة لاتخاذ خطوات ضد إسرائيل.
ومن الأمور التي زادت من حرج النظام المصري، وأظهرته في مظهر ضعيف في مواجهة الإسرائيليّين، قيام إسرائيل بمنع مصر من ممارسة حقوقها السيادية على معبر رفح، وفتحه لإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، وقصف المعبر، ثم قصف موقع داخل الأراضي المصرية، وإصابة جنود مصريّين.
- قمَّة السلام
دعت مصر لقمَّة سلام بالقاهرة، في 21 أكتوبر، لاحتواء الأزمة المتفاقمة في قطاع غزة، وخفض التصعيد العسكري بين المقاومة وإسرائيل. ولم تتوصل القمة لقرارات، ولم يصدر عنها بيان يشير إلى نتائجها، بعد أن شهدت خلافًا بين المجموعة العربية والمسؤولين الأوروبيّين بسبب رغبة الأوربيّين في وضع جملة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” وإدانة حماس بصراحة في البيان الختامي.
ركزت غالبية الكلمات من المسؤولين والقادة الغربيّين المشاركين في القمة على إدانة حركة حماس وتحميلها المسؤولية كاملة عن تداعيات الصراع الكارثية، واتجهت كلمات القادة العرب إلى التركيز على إدانة إبادة الفلسطينيّين ورفض تهجيرهم القسري أو تصفية قضيتهم.
وغاب في القمة الحديث الجدي عن وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، والوقوف في وجه التوغل البري الذي أعلنه الاحتلال الإسرائيلي، وأيضًا عدم الحديث عن آليَّة محددة لإيصال المساعدات إلى الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة بطريقة مستدامة.
وعلى الرغم من أن القمَّة فشلت في إحداث تغيير لصالح الفلسطينيّين، فإنها أظهرت أن الموقف الإقليمي في مصلحتهم بشكل عام، لأن القضية الفلسطينية مازالت قضية مركزية بالنسبة للعرب والمسلمين، وهو ما دفع هذه الحكومات – التي يُطبّع بعضها مع إسرائيل ويتعاون معها في محاصرة المقاومة – إلى عدم التجاوب مع الضغوط الغربية.
7 – سيناريوهات التصعيد والمواجهة
في الوقت الذي يتواصل فيه قصف قطاع غزة من جانب إسرائيل، ثمَّة مؤشرات على أن هناك استعدادات لاجتياح القطاع، ولكن سيناريو الاجتياح يمكن طرحه ضمن سيناريوهات أخرى، هي:
سيناريو (1): تراجع التصعيد والوصول لتهدئة وهدنة
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
تراجع التصعيد العسكري، والوصول إلى اتفاق للتهدئة وإقرار الهدنة بين الطرفين. | الانتهاء من قصف الأهداف العسكرية بالقطاع.تقلص مساحة الدعم الدولي لإسرائيل.الخوف من فتح جبهات أخرى للمقاومة.وجود الأسرى والمحتجزين لدى حماس، وضغط ذويهم على الحكومة الإسرائيلية لضمان أمنهم.صمود حركة حماس وصعوبة القضاء عليها.تحريك الرأي العام العالمي للضغط على الحكومات الداعمة لإسرائيل. | وقف إطلاق النار، والاتفاق على الهدنة، وفتح المعابر، والسماج بإدخال المساعدات. |
سيناريو (2): التصعيد دون الاجتياح البري
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
التصعيد، وإطالة أمد الحرب دون الاجتياح البري. | خوف إسرائيل من وقوع خسائر كبيرة نتيجة للاجتياح البري.صمود حركة حماس وقدرتها على الرد وإحداث خسائر في صفوف الإسرائيليّين.غياب الاستعداد والجهوزية للقيام بعملية برية.قدرة إسرائيل على تحمل التكلفة المادية والتبعات الأمنية للحرب.استمرار الدعم الدولي لإسرائيل. | مواصلة قصف قطاع غزة، مع تشديد الحصار عليه، ومنع وصول الإمدادات إليه. |
سيناريو (3): التوغل المحدود والسريع في القطاع
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
التوغل المحدود والسريع في القطاع. | قناعة إسرائيل بأن التوغل السريع رد مناسب على توغل حماس في الأراصي المحتلة.تدمير البنية التحتية العسكرية لحركة حماس وباقي الفصائل.تمشيط المنطقة المحاذية للحدود الإسرائيلية مع القطاع.تدمير البنية العسكرية الموجودة في القطاع.أخذ رهائن من سكان القطاع والمقاتلين، لاستخدامهم في مساومة المقاومة. | توغل القوات الإسرائيلية في مناطق من القطاع، وأداء مهام محددة، والرجوع إلى الأراضي المحتلة. |
سيناريو (4): الاجتياح البري الكامل لقطاع غزة
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
الاجتياح البري الكامل لقطاع غزة. | رغبة إسرائيل في الانتقام وترميم صورتها، وإعادة بناء منظومة الردع.إعلان الحكومة حالة الحرب، وضرورة تبرير إعلانها، من خلال عملية برية كبرى.الضغط الشعبي الإسرائيلي للقيام بعملية بريّة ضد حماس في قطاع غزة.ضغط العسكريّين لتنفيذ عملية تعيد الهيبة للجيش الإسرائيلي.الدعم الدولي والأمريكي الكبير لإسرائيل. | البدء في اجتياح قطاع غزة، والقضاء على سلطة حماس، والشروع في تغيير طبيعة الوضع فيه. |
والسيناريو المرجح هو السيناريو الثالث، وهو التوغل البري المحدود في قطاع غزة، لأن السيناريو الأول هو سيناريو هزيمة بالنسبة لإسرائيل، لأنه لا يحقق لها الهدف المعلن، وهو القضاء على حماس. والسيناريو الثاني يعني بقاء إسرائيل في حالة حرب، ويُعرّض اقتصادها وأمن مواطنيها ومشاريعها في المنطقة للخطر. مع الأخذ في الاعتبار أنه يَصعُب تحقيق الانتصار الكامل عن طريق القصف الجوي.
أما السيناريو الرابع فإنه سيناريو تهرَّب منه الاحتلال خلال المواجهات السابقة، ويجعله خيارًا أخيرًا، بسبب كلفته الباهظة. وذلك لطبيعة الحرب في المناطق الآهلة، التي لا يمكن التنبؤ بمساراتها، حتى إن بعض الخبراء يرى أن الذهاب إلى حرب برية في غزة، يمكن أن يُضاعِف الهزيمة الصهيونية بدلاً من أن يُعدّلها.
لن تهدف إسرائيل من وراء التوغل البري المحدود إلى احتلال قطاع غزة، فهذا الأمر له تبعات كبيرة، أمنية وعسكرية واقتصادية، والأهم سياسية ودولية، وبخاصة في ظل عدم قدرة السلطة الفلسطينية على السيطرة على القطاع. فضلاً عن ذلك فإن الثمن الذي تحتاجه إسرائيل لاحتلال كامل القطاع سيكون باهظًا، ويشمل سقوط مئات الجنود، وإطالة الحرب لمدى لا تستطيع إسرائيل، ولا المجتمع الإسرائيلي تحمُّله[33].
8 – مآلات الصراع
تسعى إسرائيل إلى تحقيق نصر عسكري كبير في قطاع غزة، يُعيد الثقة إلى جنودها ومجتمعها، ويمكنها من اجتثاث حماس وقوى المقاومة، وتغيير وجه الشرق الأوسط، وفق تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو.
ولهذا الانتصار الإسرائيلي، إذا تحقق بالصورة التي يُروِّج لها قادة إسرائيل، مآلات سياسية سوف تؤثر على شكل المنطقة وطبيعة العلاقات فيها بالفعل.
فعلى المستوى الإسرائيلي، يمكن لهذا النصر أن يُعيد لإسرائيل الصورة التي رسمتها لنفسها منذ نشأتها، كصاحبة حضور ونفوذ وتفوق نوعي في المنطقة، وأنّ جيشها قوي لا يقهر، ولا يتسامح مع أي ضربات، ما يَعني استعادة قدرتها على الردع. وهو ما سوف يساعدها في فرض هيمنتها على المنطقة، واستمرار عملية التطبيع.
وعلى المستوى الفلسطيني، سيقود القضاء على المقاومة إلى تنكر كامل للحقوق الفلسطينية، وتصفية القضية، عبر التهجير، وحسم الصراع لصالح المشروع الصهيوني بعد القضاء على المكتسبات الفلسطينية، على مساري التسوية والمقاومة معًا.
وعلى المستوى العربي، سوف تجد مصر والأردن نفسيهما أمام مخاطر تهدد أمنهما القومي. فقد تجد مصر نفسها مجبرة على تولي ملف قطاع غزة، بعد تقويض سلطة حماس فيه، وقد يتعرض الأردن لهجرة فلسطينية كبيرة، من الضفة وأراضي 48، وهو ما يعيد الحديث عن فكرة “الوطن البديل” التي يتبناها اليمين الإسرائيلي، ويهدد بقاء المملكة الأردنية.
وعلى مستوى محور المقاومة، فإن تصفية القضية الفلسطينية يعني بالتبعية تصفية هذا المحور، الذي يستمد وجوده من الدفاع عن حقوق الفلسطينيّين ومواجهة إسرائيل، وهو ما سوف يؤدي إلى تقليص النفوذ الإيراني بالمنطقة، لأن القضاء على المقاومة الفلسطينية سوف يتبعه القضاء على حزب الله اللبناني، وباقي الأذرع العسكرية الموالية لإيران، وعندها ستفقد إيران مبررات تدخلها في شؤون الدول التي تخضع لنفوذها[34].
وسوف يتغير المشهد السياسي في المنطقة أيضًا، إذا تمكنت المقاومة من الصمود، واستطاعت صَد الاجتياح الإسرائيلي، وكبَّدت القوات المهاجمة خسائر فادحة.
فعلى المستوى الإسرائيلي، يُعد صمود حماس وعدم القضاء عليها، مهما كانت الخسائر المادية والبشرية، انتصارًا للمقاومة، وسوف يقضي هذا الصمود على فكرة التفوق العسكري والأمني، ويُسقِط الحكومة اليمينية المتطرفة، ويُطيح بشخصيات عسكرية وأمنية وسياسية إسرائيلية، على رأسها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
هذا بالإضافة إلى ترسيخ الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، وزيادة حالة انعدام الثقة في الدولة العبرية، بشقيها المدني والعسكري. الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى حركة هجرة عكسية، من إسرائيل إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية.
وعلى مستوى فلسطين، سوف يؤدي صمود المقاومة إلى تواجدها في صلب المشهد الفلسطيني، ولن يعد بمقدور أحد أن يستثنيها من أي ترتيبات مستقبلية، لأن نجاح المقاومة يختصم من رصيد السلطة في الضفة، التي فشلت في حماية الفلسطينيّين والحصول على حقوقهم من خلال المسار السلمي. وسوف يؤدي هذا إلى مزيد من الخلاف بين المقاومة والسلطة، وصعوبة الوصول للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية، لاختلاف البرامج السياسية والتحالفات الإقليمية.
وفيما يخص قطاع غزة، لن تستمر معادلة التهدئة مقابل المساعدات هي النموذج الوحيد للتعامل مع حركة المقاومة، التي سوف تعمل على جني أكبر قدر ممكن من المكاسب بعد وقف الحرب والذهاب إلى المفاوضات.
كذلك، سوف تضطر القوى الدولية إلى البحث في إنشاء الدولة الفلسطينية، وفق حل الدولتين، ومنح السلطة الفلسطينية المنخرطة في المسار التفاوضي بعض الحقوق، لسحب شرعية المقاومة من الفصائل الفلسطينية المسلحة.
وعلى مستوى المنطقة العربية، قد تتوقف عملية التطبيع فترة من الزمن، بعد أن تفقد إسرائيل مكانتها كقوة قادرة على الدفاع عن حلفائها الجدد ضد المخاطر الإيرانية، وتبدو لهم عاجزة عن حماية نفسها أمام حركة مقاومة تعيش تحت الحصار.
وربما يُعاد النظر من جانب الدول العربية في مسار السلام، الذي قوضته إسرائيل، بعد أن طبَّعت علاقاتها مع دول عربية على حساب القضية الفلسطينية التي أثبتت الأحداث الأخيرة أنها قضية مركزية لدى الشعوب العربية ولا يمكن الوصول إلى التطبيع الكامل مع الإسرائيليّين على حسابها.
هذا فيما يخص الحكومات، أما الشعوب فقد أظهرت استجابتُها للإحداث أنها تنتظر الفرصة للحِراك مرة أخرى، وهو ما رأيناه في خروج بعض المظاهرات العفوية في مصر، رغم القبضة الأمنية الشديدة. ورأيناه مرة أخرى في المظاهرات المرتبة من جانب النظام المصري للتفويض، والتي تحولت إلى مظاهرات حقيقية لنصرة فلسطين، وهتف فيها البعض بهتافات ترتبط بثورة 25 يناير 2011.
وعلى مستوى إيران، فسوف يؤدي انتصار حماس إلى بقاء محور المقاومة واستمرار دعمه وتقويته، من جانب طهران التي سوف تحافظ على نفوذها في الشرق الأوسط، وتُبقي على الجبهات المحيطة بإسرائيل كوسيلة لردع تل أبيب.
وعلى المستوى الدولي، لابد من مراجعة العلاقة مع الولايات المتحدة والقوى الدولية التي كانت تقدم نفسها كوسيط في الصراع العربي الإسرائيلي، وأظهرت تحيزها الكامل لإسرائيل، ووقفت إلى جانبها في الحرب على غزة كشريك.
خاتمة
لا شك أن وضع السيناريوهات لأحداث الصراع بين حماس وإسرائيل والتنبؤ بمآلاته من الأمور الصعبة، لكثرة المتغيرات، وتعدد الأطراف المتداخلة في هذا الصراع، واختلاف الحسابات الخاصة بكل طرف، والتي يراعي فيها مصالحه التكتيكية والاستراتيجية.
ولكن المعطيات المتاحة للحرب الدائرة بين المقاومة الفلسطينية في غزة وإسرائيل، تشير إلى أن المقاومة استطاعت القيام بعمل غير مسبوق، أسقط مسلمات كثيرة، وسيؤدي إلى تغييرات في خريطة العلاقات والقوى في المنطقة، وأن الرد الإسرائيلي عليه لن يكون من نوعية الردود المعتادة، وقد يصل الأمر إلى اجتياح قطاع غزة – الذي يَتعرَّض لقصف شديد وخسائر كبيرة – بريًّا بالكامل.
ومهما كانت الخسائر، فإن قدرة المقاومة على صد هذا الاجتياح البري، والصمود في وجه الجيش الإسرائيلي، وتكبيده خسائر كبيرة، سوف يؤدي إلى تغييرات على جميع المستويات: إسرائيلية وفلسطينية وعربية وإقليمية.
[1] – مركز رؤية للتنمية السياسية، قراءة إسرائيلية في “طوفان الأقصى” و”السيوف الحديدية”، 15 أكتوبر 2023، https://cutt.us/M0wNh
[2] – ميديا نيتور، أدميرال بريطاني يرسم سيناريو الحرب العالمية الثالثة انطلاقا من غزة، 21 أكتوبر 2023، https://cutt.us/laDYr
[3] – TRT عربي، العملية البرية.. سيناريوهات الحرب في قطاع غزة، 14 أكتوبر 2023، https://cutt.us/TtRgl
[4] – الجزيرة، أصوات غربية تُغرّد خارج سرب تأييد إسرائيل وتدعم غزة، 23 أكتوبر 2023، https://cutt.us/Astb2
[5] – وكالة الأناضول، باراك: لا يمكن القضاء على “حماس” ، 16 أكتوبر 2023، https://cutt.us/xRajQ
[6] – CNN, Opinion: There’s a smarter way to eliminate Hamas, 01-11-2023, https://cutt.us/TbA3w
[7] – فرانس 24، إسرائيل تتهيأ لحرب طويلة، 20 أكتوبر 2023، https://cutt.us/smHWX
[8] – ملتقى أبوظبي الاستراتيجي، سيناريوهات التصعيد العسكري بين إسرائيل وحماس في غزة، 12 أكتوبر 2023، https://cutt.us/GIOeV
[9] – صدارة للمعلومات والاستشارات، استخبارات الصحافة، ع 202، 19 أكتوبر 2023، ص2.
[10] – مركز رؤية للتنمية السياسية، قراءة إسرائيلية في |”طوفان الأقصى” و”السيوف الحديدية”، 15 أكتوبر 2023، https://cutt.us/M0wNh
[11] – العربي الجيد، مشعل: الولايات المتحدة تقود الحرب على غزة لسحق “حماس” وتفكيك حاضنتها، 20 أكتوبر 2023، https://cutt.us/laEb0
[12] – الشروق، طوفان الأقصى تعيد واشنطن إلى موقع الداعم المطلق لإسرائيل، 10 أكتوبر 2023، https://cutt.us/Gy7UH
[13] – مركز رؤية للتنمية السياسية، معركة طوفان الأقصى.. سيناريوهات الحرب ومآلاتها، 19 أكتوبر 2023، https://cutt.us/8pMKO
[14] – صدارة للمعلومات والاستشارات، اتجاهات، العدد 2، 21 أكتوبر 2023، ص4.
[15] – المصدر السابق، ص5.
[16] – المدن، إيران تنفي مشاركتها في التخطيط لـ”طوفان الأقصى”، 9 أكتوبر 2023، https://cutt.us/tp2My
[17] – مركز المسار، الحِراك الإيراني والدعم الحكومي لجماعات المقاومة العربيَّة، 9 فبراير 2023، https://cutt.us/XjjpS
[18] – سكاي نيوز عربية، إيران تتحدث عن شرط حماس لإطلاق سراح الرهائن، 16 أكتوبر 2023، https://cutt.us/DhkHA
[19] – قناة الغد، إيران: إذا لم يتوقف العدوان فأيدي جميع الأطراف في المنطقة على الزناد، 15 أكتوبر 2023، https://cutt.us/OYSi8
[20] – الحرة، ثلاثة مستويات لتدخل إيران.. هل تتوسع حرب إسرائيل وغزة؟، 16 1اكتوبر2023، https://cutt.us/9SV65
[21] – الاستقلال، انتقادات حماس تتصاعد.. هل تكتب عملية طوفان الأقصى نهاية “محور المقاومة”؟، 23 أكتوبر 2023، https://cutt.us/QIu1K
[22] – الجزيرة، الجماعة الإسلامية بلبنان: سنواصل مقاومتنا دفاعا عن لبنان وغزة، 21 أكتوبر 2023، https://cutt.us/0bwMN
[23] – معهد واشنطن، الميليشيات المدعومة من إيران تشيد بـ “حماس” وتهدد الأمريكيين، 13 أكتوبر 2023، https://cutt.us/Z4Tjs
[24] – الجزيرة، هجوم بطائرة مسيّرة على قاعدة تضم قوات أميركية في العراق، 22 أكتوبر 2023، https://cutt.us/16BeQ
[25] – الشرق الأوسط، الميليشيات الإيرانية في سوريا تفتح باب التطوع لدعم “حماس”، 9 أكتوبر 2023، https://cutt.us/riXde
[26] – الشرق الأوسط، ما رسائل استهداف إسرائيل من سوريا؟، 11 أكتوبر 2023، https://cutt.us/Fu2Vc
[27] – المملكة، الحوثيون يحذرون واشنطن من إطلاق صواريخ ومسيرات إذا تدخلت في غزة، 10 أكتوبر 2023، https://cutt.us/y980O
[28] – لبنان 24، اعتراض صواريخ ومسيّرات حوثية… ويرجح أنها كانت تستهدف إسرائيل، 20 أكتوبر 2023، https://cutt.us/OdfCJ
[29] – وكالة الأناضول، “الحوثي” تنشر مشاهد إطلاق صواريخ ومسيرات على إسرائيل، 1 نوفمبر 2023، https://cutt.us/vG3gW
[30] – الاستقلال، تفويض أم تفريط.. لماذا دعا السيسي المصريين للتظاهر ضد تهجير سكان غزة؟، 21 أكتوبر 2023، https://cutt.us/CmUiJ
[31] – يورو نيوز، الأرض مقابل حوافز اقتصادية، 23 أكتوبر 2023، https://cutt.us/GxaT9
[32] – Stratfor, How the Gaza War Will Impact Egyptian Politics, 11-10-2023, https://cutt.us/TenNg
[33] – ملتقى أبوظبي الاستراتيجي، سيناريوهات التصعيد العسكري بين إسرائيل وحماس في غزة، 12 أكتوبر 2023، https://cutt.us/GIOeV
[34] – الجزيرة، عواقب نجاح إسرائيل في حربها على غزة، 18 أكتوبر 2023، https://cutt.us/8uVra