مقالات

صورة العرب واليهود في الدراما التركية: سرد تاريخي بين الصراع والتعاطف

انتشرت  الدراما التركية في العقدين الأخيرين، وغزت معظم الفضائيات العربية والعالمية ومواقع التواصل الإجتماعي، حتى صارت إحدى أهم أدوات القوة الناعمة لتركيا التي غابت عن العالم منذ العام 1923، لتعود بشخصيتها الدرامية، وبصورتها الذهنية التي رسمتها تلك الدراما في أذهان العرب والمسلمين، حاملة رسائل الدولة التركية التي راحت تستدعي التراث العثماني والامتداد الاسلامي للأتراك.

بداية إنتشار الدراما التركية

لا يوجد تاريخ محدد لرواج الدراما التركية في المنطقة العربية، وإن كان البعض يرى أن المسلسلات التركية المدبلجة باللهجة الشامية والتي بدأت تظهر على الشاشات العربية عام 2006 كانت بداية اقتراب المُشاهد العربي منها.

جاء تلقي المشاهد العربي لتلك النوعية مفاجأة للجميع، فسرعان ما انتشرت بين الشباب الذين وجدوا فيها بديلًا لما تنتجه بلادهم من أعمال لم تلق نفس القبول في ظِل مخاض وإرهاصات الربيع العربي، حيث بدأ الضجر من الانظمة الحاكمة في تلك الفترة، وأسفر عن حراك ينذر بتغيرات في الأفق.

التنوع في المواضيع المطروحة

لم تقتصر الدرامة التركية على المواضيع العاطفية وقصص الحب الرومانسية، بل تعدتها للإهتمام بالقضايا الجوهرية، كقضية فلسطين، وقضايا المجتمع التركي التي كنا نتابعها في نشرات الأخبار، من تفجيرات حزب العمال الكردستاني وقضايا المافيا التركية. وتجوَّل المشاهد لأول مرة داخل قصور الخلافة العثمانية ليشاهد جوانب اجتماعية وصراعات، وخرج مع الكاميرا إلى الشوارع وشواطيء بحر مرمرة، ليشاهد قصص الحب الأفلاطوني، وعادت به المسلسلات إلى زمن المليودراما ذات الحبكة الجيدة.

كان دخول المسلسلات التركية إلى التلفزيونات والفضائيات العربية متدرجًا، حمل في بداياته موجة تطبيع وتقارب من الشخصية التركية التي أطلت بملامح في معظمها أوروبي ولهجة شامية، وأدخلتنا من خلال مسلسلات مثل (سنوات الضياع ) و(على مر الزمان) إلى الحياة الاجتماعية والسياسية في تركيا، لنتعرف على هذا البلد، ونعيد اكتشاف الموروث الثقافي المشترك بيننا وبينهم والتشابه في الهموم والمشاكل، وحتى في معظم العادات، وان كان الأتراك قد تغربوا وفقدوا الكثير من المظاهر الإسلامية إلَّا انهم ما زالوا قريبين وأزماتهم أقرب لنا منها للأروبيّين.

التوظيف السياسي 

انتبهت حكومة حزب “العدالة والتنمية” مبكرًا للأثر الذي أحدثته الموجة الأولى، فجاء توجه رئيس الوزراء الصاعد وقتها، رجب طيّب أردوغان، ومجموعة الحزب الحاكم، شطر العالم الإسلامي والعربي محفزًا لموجة ثانية تراعي سياسة الحكومة الصاعدة.

فالحزب الذي لم يتنصل من علمانية الدولة، أراد أن يمد جسور التواصل مع المحيط العربي، والتأكيد على وحدة العقيدة والثقافة للشخصية التركية مع امتدادها الجغرافي، وتاريخها الإسلامي، مع التأكيد على الريادة التركية وقيادة المنطقة لقرون طويلة، واعتبار أن العودة لهذا الماضي هي أساس بناء الذات الحاضرة، ومن هنا نشأت فكرة البطل التركي، قاهر الظلم، وراعي المظلومين، القادر على إعادة الحق لأصحابه.

في الموجة الثانية للدراما التركية، ركزت بعض الأعمال على قضايا الصراع مع الكيان الصهيوني، وتبنت القضية الفلسطينية في عدد من الأعمال، التي كان من بينها مسلسل (صرخة حجر)، لتحدث نقلة في الدراما التلفزيونية التي قدمت عن القضية الفلسطينية، بل وتصبح حالة مختلفة عن كل ما تناولته الدراما العربية في مناصرتها للقضية الفلسطينية.

فالدراما التلفزيونية العربية لم تقترب من القضية الفلسطينية والصراع مع الكيان الصهيوني بصورة جدية إلَّا نادرًا، وكانت عادة ما تأتي فلسطين في خلفية صراع بين دولة عربية والكيان الصهيوني، اللهم إلا مسلسل (التغريبة الفلسطينية)، الذي أنتجه التلفزيون السوري، وكتب السيناريو له الكاتب وليد سيف. وفيما عدا ذلك فالغالبية العظمى من الدراما التلفزيونية العربية جاء الصراع فيها على خلفية صراع بين الدولة المنتجة ودولة الاحتلال، وعادة هو صراع مخابراتي كما في المسلسلات المصرية.

صورة العرب واليهود في مسلسل “صرخة حجر”

بداية لابد أن نقر أن تركيا تحاول أن تحافظ على علاقاتها الدبلوماسية المتوازنة مع كل من العرب والكيان الصهيوني، وهو ما يحدد مصير الشخصيات في الدراما المنتجة بتوجيه سياسي، أو كما يشاع الدراما التي يتم طبخها في أروقة المخابرات التركية. فهي من جهةٍ أرادت أن ترسم لنفسها دور الزعيم الإسلامي الحامل للقيم والمدافع عن القضايا الدينية، بما فيها الأقصى، ومن جهةٍ آخرى تعي جغرافية المكان وما يفرضه عليها من توازنات مع القوى الغربية وأمريكا.

عُرض المسلسل أول مرة عام 2010، ليروي معاناة الفلسطينين مع الاحتلال، ويسلط الضوء على الأحداث المأساوية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، من قمع وحصار وانتهاكات لحقوق الإنسان. ويتناول جوانب متعددة من الصراع، بدءًا من التهجير القسري، والاعتداءات العسكرية، مرورًا بالاعتقالات العشوائية والقتل، وصولًا الى الحصار المفروض على قطاع غزة. كما يعرض قصة حب بين شاب مقاوم وفتاة تتعرض للاغتصاب في سجون الاحتلال، مما يُعزز أثر الاحتلال على الحياة الخاصة للإنسان الفلسطيني.

العرب في صرخة حجر.. الفلسطيني نموذجًا

في صرخة حجر، نرى الشخصية العربية متجسدة في (خالد)، الشاب الفلسطيني المقاوم، العاشق للحياة والمحب لها، ولكن ظروف الاحتلال تمنعه من مسيرته الطبيعية، وحصار الحدود يقف عائقًا أمامه، وهو يقوم بحقه المشروع تجاه وطنه، فخلف الرصاص والبندقية هناك الإنسان المتطلع للهدوء والسلام، المُجبَر على خوض المعركة أمام عدو غاشم.

ويجسد لنا المسلسل القيم العربية والإسلامية في شخصية (أبو حسن)، الأب الفلسطيني، راعي الأسرة الحكيم والقوي في ذات الوقت، فهو يرفض أن يترك منزله، ويتمسك به رغم قيام قوات الاحتلال بهدمه. وهو الناقل لإرث المقاومة لأبناءه وأحفاده، القادر على تثبيتهم وإلهامهم الصمود، فنراه في أحد مشاهد الحلقة السابعة جالسًا مع أبنائه بعد يوم من المواجهة المرة مع العدو، يحفزهم على الاستمرار:

  • خالد: يا أبي، كل يوم نخسر شهداء وبيوت يتم هدمها، هل يمكننا حقًا الاستمرار؟
  • أبو حسن: يا بني، الأرض لا تعطي ثمارها بسهولة، في كل مكان تظن أن الشجرة ماتت تعود للحياة من جديد، المقاومة مثل الأرض لا تموت،ا لمقاومة ليست سلاحًا فقط، بل هي الثيات والتمسك بالحلم، الإيمان بالحق هو ما يبقى.

ولا يترك المسلسل حظ الأجيال القادمة، فيقدم لنا شخصية (أحمد)، الطفل الفلسطيني، كرمز لبراءة الأطفال التي تسلب بسبب الاحتلال. فنحن أمام طفل يواجه كل يوم آله عسكرية تقف له على الحواجز أثناء ذهابه وعودته من المدرسة حاملًا حقيبته المدرسية التي يواجه بها جنودًا مدججين بالسلاح. أحمد تعوَّد كل يوم أن يرى هؤلاء المحتلين يصوبون بنادقهم تجاهه ويفتشون حقيبته، لذلك كان من الطبيعي أن يواجههم حينما دخلوا المخيم الذي يعيش فيه، ويقف في وجه آلياتهم طالبًا منهم الرحيل وحاملًا في يديه حجرًا. ومع ذلك فهو طفل لم يفقد طفولته، فنراه بعد أن يُقصَف المخيم يجلس مع رفاقه على أنقاض بيت متهدم وهم يلعبون، في رسالة واضحة أن الفلسطيني العربي إنسان.. احتياجاته هي احتياجات إنسانية، إنه ليس بندقية تسعى في الأرض، وعلى مَن أجبره على حمل البندقية أن يتحمل نتيجة ما فعل.

المرأة أيضًا كان لها نصيب من الصورة الذهنية للعرب الفلسطنين في المسلسل، فمريم في المسلسل هي الأم الفلسطينية الصامدة التي تخفي ابنها من جنود الاحتلال، وتواجههم حين يقتحمون البيت، وتقوم برعاية الجرحى من المقاومين، وتضمد جراحهم عندما يلجأون للاختباء في بيتها. ورغم الإمكانيات البسيطة من أدوات االتطبيب التي تمتلكها، نراها وهي تقوم بتطبيب عدد ممن لحقوا ببيتها:

  • مريم: لا تخف.. جرحك بسيط.. فقط عليك التحلي بالصبر.
  • الجريح: شكرًا لك يا خالة، لولاك ما استطعنا أن نواصل.
  • مريم: هذه أرضنا، وهذه معركتنا جميعًا، وعلينا أن نبقى أقوياء.

مشاهد عديدة تظهر فيها مريم كرمز للعفة والصمود والقوة والتمسك بالحق وعدم خشية الموت، فهي ترفض  ترك بيتها عندما يأمرها جنود الاحتلال بالخروج منه حتى يهدموه. وعندما يأتيها خبر استشهاد ابنها ترفض أن تبكيه، وتقول: “سأظل قوية لأربي بقية أبنائي، ولن نستسلم”.

خلاصة تقديم الشخصية العربية في المسلسل هي أنها شخصية قوية، لديها وفاء وحكمة، صامدة في مواجهة عدو يمتلك القوة بينما لا يمتلك الفلسطيني العربي شيئًا. شخصية محبة للحياة رغم قسوتها، وتتوارث مقاومة الاحتلال.

قدَّم المسلسل المجتمع الفلسطيني ككتلة واحدة، ولأنه رأى مقاومة الاحتلال أمرًا مشروعًا لم نر فروقًا بين مقاوم وقاعد عن المقاومة، حتى مَن لا يحمل السلاح هو مقاوم.

اليهود في صرخة حجر.. يهود الاحتلال في  فلسطين نموذجًا

في مقابل الحياة الفلسطينية بأبطالها، سنجد الحياة في المجتمع اليهودي المحتل، وهي حياة مليئة بالتعقيدات الإنسانية. فالمجتمع اليهودي وفقًا لصنَّاع العمل ليس أحادي الاتجاه، فهناك الجنود بمستوياتهم العسكرية المختلفة (قادة، وجنود عاديين)، والمستوطنون المتعصبون، والمدنيون. فالمجتمع اليهودي ليس كتلة واحدة، وهو ما يعكس أبعادًا مختلفة للمواجهة بين الطرفين العربي والإسرائيلي.

يقدم المسلسل الجنرال إيتان، وقائده الجنرال يعقوب، كعنصري الشر الأساسيّين. فهما رمز العنف والقمع وضد الفلسطينيين. فبحجة وجود مسلحين في أي قرية عسكرية، يأمر يعقوب بالهجوم على القرية، وينفذ إيتان الأوامر بكل صرامة وعنف ووحشية، متجاهلين تحذيرات المنظمات الإنسانية ورافضين لأية وساطات تحاول تهدئة الأمور.

هدم المنازل والإعدام دون محاكمات للشباب الفلسطيني، والقصف للمدنيّين الآمنين، مشاهد تتكرر دائمًا، ويقف خلفها الجنرال ومساعدة. ففي إحدى الحلقات يتم اعتقال مجموعة من الشبان الفلسطينين، ويأمر إيتان بإعدام أحدهم دون محاكمة، ليكون عبرة للآخرين، بهدف الترويع، للحيلولة دون أي أي محاولة أخرى للمقاومة. فبحجة الحفاظ على الأمن كل شيء مباح لدى قادة العسكر اليهود.

في المقابل، قدَّم المسلسل الجنود في حالة صراع نفسي، بين ما يقومون به من أعمال إجرامية وبين إنسانيتهم. ففي إحدى المواجهات بين القوات والشباب الذين يرمون الحجارة، يأمر القائد العسكري أحد الجنود بإطلاق  الرصاص، لكنه يرفض:

  • القائد: آدم.. أطلق النار على الطفل، إنه يشكل خطرًا علينا.
  • آدم: إنه مجرد طفل.. لا يمكنني فعل ذلك.
  • القائد: إنه أمر عسكري.

يظهر على آدم التردد، وينظر إلى زملائه، ولكنه ينفذ الأمر بالنهاية. فالصورة الذهنية هنا مترددة بين عنف القادة ومن خلفهم ساسة الكيان الصهيوني، ورفض قطاع عريض من الجنود ومن ثم القاعدة الشعبية في غالبيتها لهذا الإجرام. فمن جهةٍ يرسخ المسلسل حالة القمع الوحشي، ومن جهةٍ أخرى يتيح مساحة لفكرة أن يكون هناك سلام ما، أو تطبيع ما، مع أؤلئك الذين يرفضون تلك الممارسات.

ومع ذلك أدان المسلسل المستوطنين اليهود، واعتبر أن المستوطنات بقع احتلالية، قامت على أراض مغتصبة، وهو أمر يتماشى مع السياسية التركية، فالمستوطن قُدِّم في المسلسل على أنه الظهير الأكثر تعصبًا للدولة وحكومتها، فهو عنصري مستفز، لا يتورع عن العنف والقتل والتحرش بالفلسطينيين وفرض سيطرته على الأرض التي اغتصبها.

يظهر المستوطنون وهم يقومون بالاستيلاء على أرضي زراعية مملوكة للفلسطينيين بمساعدة قوات الاحتلال، بالاضافة لمشاهد وهم يتجولون بسلاحهم ويعتدون على الأطفال بالضرب ويحرضون الجنود على هدم المنازل وإطلاق النار على المدنيّين.

جاء موقف صنَّاع العمل من المدنيّين اليهود متعدد الأوجه، فهو يقدم بعضهم كمؤيدين للاحتلال ومطالبين بمزيد من طرد الفلسطينين وإخلاء فلسطين تمامًا من العرب، وبعضهم كمتعاطفين مع الفلسطينيين، وفئة ثالثة تحاول البقاء بعيدًا عن هذا الصراع وتحاول تجنبه قدر المستطاع.

علاقة الأتراك والعرب واليهود

حاول العمل أن يرسخ صورة ذهنية لعلاقته بالطرفين من خلال الصحفي التركي، فالعلاقة هنا هي التعاطف والدعم الكامل للفلسطينين الذي وصل إلى حد تصوير تركيا كما لو كانت هي التي تدعم المقاومة وتقوم على دعمها لوجيستيًّا، حيث يظهر المسلسل تنسيقًا بين القيادات التركية والقيادات الفلسطينية، وأن تركيا تملك قدرًا كبيرًا من أوراق اللعبة الفلسطينية الصهيونية (رسالة للغرب وللداخل التركي)، بينما حدد المسلسل الدور التركي في العلاقة مع الاحتلال الاسرائيلي في إطار الرفض والانتقادات دون الدخول في عداوة مع دولة الاحتلال، مع التأكيد على فضح الممارسات وإدانتها ومحاولة التخفيف من عبئها على الفلسطينين. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى