“على ضوء هذه المواقف الإثيوبية تكون المسارات التفاوضية قد انتهت، وتحتفظ مصر بحقها المكفول بموجب المواثيق الدولية للدفاع عن أمنها المائي والقومي في حاله تعرضه للضرر”.
هكذا كان رد فعل وزارة الري المصرية بعد انتهاء الجولة الرابعة من المفاوضات التي عقدت في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، في التاسع عشر من ديسمبر، والتي تتهم إثيوبيا صراحة “باستغلال الغطاء التفاوضي لتكريس الأمر الواقع على الأرض، والتفاوض بغرض استخلاص صك موافقة من دولتي المصب على التحكم الإثيوبي المطلق في النيل الأزرق بمعزل عن القانون الدولي”.
هذا الإقرار المصري جاء بعد 4 جولات من التفاوض تمَّ الاتفاق عليها في يوليو 2023م، تبدأ في أغسطس وتنتهي في ديسمبر، للبحث في قواعد ملء وتشغيل السد.
وربما جاء الإعلان المصري من وجهة نظرنا، متأخرًا بعض الشيء، لأنه مع بداية عملية التفاوض، أعلنت إثيوبيا في سبتمبر الماضي، إتمام المرحلة الرابعة والأكبر حتى الآن من الملء الأول من السد، وتقدر بـ 24 مليار متر مكعب، ليصل حجم المياه المخزنة في بحيرته إلى 41.5 مليار متر مكعب من إجمالي 74 مليار مليار متر مكعب (إجمالي مخزون البحيرة)، والذي يفترض أن يكتمل خلال موسم الأمطار القادم، في 2024م، أو بعد القادم، في 2025م، على أقصى تقدير.
هذا الإعلان ربما نسف المفاوضات من بدايتها، ويشبه إعلانات مماثلة سابقة، مثل الإعلان عن الملء الأول في يوليو 2020م، رغم وجود مفاوضات برعاية الاتحاد الإفريقي في وقتها. ومع ذلك اتبعت مصر “على ما يبدو” سياسة النفس الطويل في التفاوض، حتى وصلت إلى طريق مسدود في المرحلة الثامنة من مفاوضات السد التي بدأت قبل 12 عامًا، وتمَّ إعلان فشلها قبل ذلك 5 مرات، لأسباب تتعلق بالجانب الإثيوبي بالأساس.
ورغم سعي مصر لتدويل المفاوضات، مرة من خلال واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب، في 2020م، ومرة من خلال محاولة تدخل مجلس الأمن، إلَّا أن أديس أبابا كانت حريصة على أن تكون المفاوضات إمَّا في إطار ثلاثي مع مصر والسودان، أو في إطار إفريقي، على اعتبار عدم فاعلية دور الاتحاد الإفريقي في التوصل لتسوية “ملزمة” لها.
لماذا فشلت جولة المفاوضات الأخيرة؟
وفق الرواية المصرية، فإن الفشل يرجع إلى “مراوغة” الجانب الإثيوبي، وتقديم تفسيرات مطاطة لبعض المصطلحات، فضلًا عن الحديث عن قضايا لاحقة أو سابقة لأوانها، لا تتعلق بالمرحلة الحالية، ولكن تتعلق بما بعد بناء السد، مثل قضايا التنمية، وبناء سدود أخرى، فضلًا عن التراجع عن بعض ما تمَّ التوصل إليه في اتفاقات سابقة، خاصة ما يتعلق بالحصة التي يجب أن تحصل عليها مصر في موسم الجفاف أو الجفاف الممتد، وبحيث يكون الضرر الواقع عليها في حده الأدنى. وفي المقابل لم يتم الحديث عن القضايا الهامة، مثل كيفية التنسيق بين الدول الثلاث في قواعد الملء والتشغيل في فترات الجفاف والجفاف الممتد، وهل سيتم ملء بحيرة السد أولًا، خصمًا من حصة مصر والسودان، أم سيكون هناك توزيع متوازن “عادل” للمياه بين سدود الدول الثلاث.
أما الرواية الإثيوبية، فترى عكس ذلك، بل اعتمدت إثيوبيا نهج التصعيد الخطابي أيضًا، من خلال بيان صادر عن الخارجية، يرفض بدايةً ما جاء في البيان المصري، ثم يحمل القاهرة مسؤولية فشل المفاوضات، من خلال محافظة مصر على “عقلية الحقبة الاستعمارية، وإقامة الحواجز أمام الجهود الرامية لحدوث التقارب” بين الدول الثلاث.
إشكالية الاتفاق على قواعد الملء والتشغيل
يؤدي الانفراد الإثيوبي بإعلان مراحل الملء المنفرد الأربع السابقة، دون تنسيق مسبق مع دولتي المصب، إلى حدوث ضرر، خاصة لدى مصر، حتى في حالة الفيضان العالي أو المتوسط، إذ أن غياب المعلومات المسبقة لديها، يجعلها دائمًا، تحافظ على المياه المخزنة في بحيرة السد العالي، وبالتالي عدم ضخها للمزارعين العاملين في مجال الزراعات التي تحتاج إلى مياه كثيفة مثل الأرز، ومن ثم حرمان ملايين المزارعين من زراعة أراضيهم. وعندما يأتي موسم الفيضان مرتفعًا، تضطر مصر إلى تصريف جانب كبير من مياه بحيرة السد إلى مفيض توشكي دون استفادة منها، لتوفير حيز في البحيرة لاستقبال مياه الفيضان الجديد. لذا دائمًا ما تطالب مصر بضرورة التنسيق مع إثيوبيا في مجال توفير المعلومات خلال الملء الأول، ثم عند بدء عملية الملء المتكرر وتشغيل السد بعدها، وهو ما ذهبت إليه المادة 5 من إعلان مبادئ الخرطوم، في مارس 2015م، التي نصَّت على اتفاق الدول الثلاث على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي للسد، والتي يجوز بموجبها لمالك السد “إثيوبيا” ضبطها من وقت لآخر، مع إخطار دولتي المصب بأية ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية التشغيل. ولضمان استمرارية التعاون والتنسيق حول تشغيل سد النهضة مع خزانات دولتي المصب، سوف تنشئ الدول الثلاث، من خلال الوزارات المعنية بالمياه، آلية تنسيقية مناسبة فيما بينهم.
لكن دائمًا ما تتهم مصر، إثيوبيا بتعمد إخفاء المعلومات عنها، مما يؤثر على سياسة الري والزراعة المصرية، التي تبنى على تخمينات، تضر المصريّين حتى في سنوات الفيضان والفيضان المتوسط.
ما هي خيارات مصر؟
بصفة عامة، هناك ثلاث آليَّات رئيسة في عملية تسوية لنزاع “قانوني” تنطبق أيضًا على حالة سد النهضة، هي:
- الآليَّة التفاوضية: وقد جربتها مصر طيلة 12 عامًا، من خلال 8 مراحل تفاوضية، فشلت فيها المفاوضات 5 مرات، وثبت لمصر باليقين القاطع فشلها في المرة الأخيرة. وبالتالي قد تكون العودة لعملية التفاوض صعبة، لكنها تظل واردة في ظل صعوبة الآليتين الأخريين.
- الآلية القانونية: من خلال اللجوء إلى التحكيم، وهو محتمل بشرط موافقة أطراف النزاع عليه “مصر والسودان وإثيوبيا في حالتنا”، أو وجود نص ملزم في الاتفاق يحيل الخلاف للتحكيم “محكمة العدل الدولية” أو القضاء الدولي “محكمة خاصة”. لكن إثيوبيا حرصت في البند العاشر من اتفاق إعلان مبادئ الخرطوم والمعروف بالبند x””، على أن يكون طلب وساطة طرف خارجي، أو حتى اللجوء إلى وسائل قانونية، من اختصاص رؤساء دول وحكومات البلدان الثلاث، وأن يتم ذلك بالإجماع؛ ومن ثم فهي ترفض دائمًا اللجوء إلى فكرة التحكيم الدولي، ما دفع مصر إلى محاولة تفادي هذا البند في الاتفاقيات المزمع عقدها لتقنين عملية الملء والتشغيل، لكن إثيوبيا ما زالت ترفض ذلك حتى في الاتفاقية المزمعة أيضًا.
- الآلية العسكرية: والمتمثلة في توجيه ضربة عسكرية مصرية “جوية” للسد. وهذه الآلية مستبعدة من وجهة نظرنا لعدة اعتبارات، ومنها البُعد الجغرافي، والطبيعة الدولية للسد، من حيث الدول والشركات المساهمة في بنائه، وعدم قدرة الطائرات المصرية المتاحة حاليًا “ف 16 الأمريكية – رافال الفرنسية”، على القيام بذلك. فضلًا عن قرب امتلاء بحيرة السد، ومن ثم فإن هذه الضربة ستغرق العديد من المدن السودانية، وستكون لها آثار كارثية على السودان، وعلى مصر أيضًا.. ومما يؤكد استبعاد هذا السيناريو تصريحات السيسي عندما طالب في يونيو 2020م، وسائل الإعلام بعدم الحديث عن عمل عسكري ضد إثيوبيا، مؤكدًا أن مصر تخوض “معركة تفاوضية ستطول”.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو: هل ستفكر مصر مرة أخرى في الخيار العسكري في ظِل المعطيات الآخيرة؟ وفي حالة كانت الإجابة هي: لا، فما هي البدائل إذا؟
يمكن القول بوجود خيارين من وجهة نظرنا، يمكن اللجوء إليهما، وهما:
الأول: الخيار الاقتصادي. ويتمثل في التلويح المصري بمقاطعة نقل الكهرباء المتوقعة من سد النهضة من خلال خطوط ضغط عالي تمر عبر أراضيها، لنقلها إلى أوروبا والأردن والسعودية وغيرها. حيث إن الاستهلاك المحلي الإثيوبي من كهرباء السد، لا يزيد عن السدس، في حين أن النسبة الباقية ستخصص للتصدير. وبما أن الطاقة الكهرومائية يصعب تخزينها، كما أن مصر ستكون المنفذ الأساسي لتصدير هذه الكهرباء، للقارة الأوربية، فإنها قد تقطع الطريق على إثيوبيا، لا سيما أن عدم فتح التوربينات لتوليد الكهرباء، قد يؤدي إلى تجميع المزيد من المياه أمام البحيرة، وعبورها الجزء الأعلى من السد، ويزداد الوضع خطورة في حالة الفيضان العالي، الذي قد يؤدي إلى انهيار السد.
الثاني: الخيار القانوني. عبر إعلان مصر الانسحاب من اتفاق إعلان مبادئ الخرطوم الذي لم يصادق عليه البرلمان حتى الآن. صحيح أن هذا الإجراء لن يغير من الأمر الواقع شيئًا، لكنه سيعيد الطعن في مشروعية السد، أو التأثير على تمويل المؤسسات الدولية للسدود الأخرى المستقبلية.
استيراتيجية المعارضة في التعامل مع الأزمة
في هذا الإطار، وبالرغم من أن الانقلاب هو المسؤول عما وصل إليه الحال بخصوص السد، إلَّا أن تأثير القضية لن يفرق بين مؤيد ومعارض للانقلاب. وبالتالي قد يكون البحث عن مخرج أمرًا مطلوبًا باعتبار القضية قضية وطنية.
وبالتالي، من المهم التأكيد على دعم الشعب المصري في الحصول على حقوقه التاريخية كاملة غير منقوصة. ورغم الاختلاف مع النظام، إلَّا أننا نرفض المناورات الإثيوبية في التعاطي مع هذا الملف الحيوي لجميع المصريّين. كما أننا نقدم هذه الرؤية للمصريّين، ونضعها بين أيديهم، للضغط على النظام لاتخاذ خطوات تنقذ مصر من هذا الكابوس القادم.
لذا نطالب بما يلي:
- مطالبة الرأي العام المصري بالضغط على السيسي من أجل الهروب من هذا الاتفاق وعدم التصديق عليه على اعتبار أن التصديق يتطلب موافقة البرلمان. وبما أن البرلمان تابع للسيسي، فيمكن أن يخطو هذه الخطوة حتى وإن كانت لن توقف بناء السد، لكنها سوف تسحب عنه المشروعية القانونية. تمامًا كما فعل البرلمان الإثيوبي بخصوص اتفاق إعلان المبادئ الذي تمَّ توقيعه مع مصر عام 1993، حيث لم تتم المصادقة الإثيوبية عليه.
- مطالبة الرأي العام بالضغط على نظام الانقلاب لعرض الموضوع على محكمة العدل الدولية، لأخذ فتوى منها بشأن مشروعية بناء السد بصورة أحادية. صحيح أن رأي المحكمة في هذه الحالة غير ملزم لكن الأمر يأتي في إطار سياسة المناوشات أيضًا.
- الدعم المصري السري لقوى المعارضة في إثيوبيا خاصة الأوجادين، لأن الدعم العلني سيساهم في تكرار لهجة التهديدات الإثيوبية لمصر كما حدث في 2010م، إبان حكم زيناوي، الذي هدد بعدم قدرة مصر على كسب حرب ضد بلاده، متهمًا إيَّاها بدعمها لقوى المعارضة.. وربما نتذكر في هذا الشأن استخدام عبد الناصر نهاية الخمسينات ورقة المعارضة الإثيوبية، كبني شنقول وغيرها، للضغط على هيلاسلاسي، للكف عن تشكيل تكتل دولي ضد مصر لمنعها من تنفيذ مشروع السد العالي.
- توطيد العلاقات مع السودان، من خلال الدخول في عملية تكامل بخصوص مثلث حلايب حتى يكون نقطة تعاون بدلا من نقطة صراع وخلاف تؤثر على الاستفادة المتبادلة التي تعود على كلا البلدين جراء هذا التعاون. وتفعيل اتفاقية الحريات الأربع، التي وقعت في 2004، والمساهمة في شق الطرق البرية والنهرية لزيادة التبادل التجاري، فضلًا عن الإسراع في بناء خط السكك الحديدية الذي يربط مصر بجوبا وأوغندا حتى جنوب أفريقيا.
- البحث عن مصادر أخرى للمياه بخلاف إثيوبيا، من أجل زيادة حصة مصر من الماء، ومن ذلك البحث في إمكانية إيصال نهر الكونجو بنهر النيل، والذي سوف يوفر حال توافر الدراسات الدقيقة بشأنه عشرات المليارات من المياه لمصر. والشروع في تنفيذ قناة جونجلي التي تقع الأن في جنوب السودان، والتي كانت توقفت بسبب الحرب الأهلية في السودان، عام 1983م، وانحياز القاهرة لصالح الخرطوم.
هذا الأمر يتطلب توطيد العلاقات مع جنوب السودان للشروع في استكمال إنشاء قناة جونجلي، والتي ستعود بالنفع الأساسي على مصر، واعتبار ذلك هو المتاح على المستوى القريب، لحين تحسن العلاقات مع إثيوبيا. هذا يتطلب تقديم مشروعات تنموية لجنوب السودان مقابل المشروعات المائية، فالجنوب يحتاج إلى الطاقة الكهربائية أكثر من احتياجه للمياه، إذ يسقط عليه 800 مليون متر مكعب في موسم الأمطار “ثمانية أشهر” من إجمالي 1042 مليون متر مكعب تشكل حصة السودان ككل، وهو بذلك يقترب من حصة إثيوبيا المطرية “960 مليون متر مكعب”، كما أن الجنوب لا يستخدم مياه النيل لعدم وجود أراضي زراعية به، إذ يُلاحَظ أن الأراضي القابلة للري غير موجودة في الجنوب بسبب المستنقعات. ومعنى هذا إمكانية الاستفادة من المياه مقابل الطاقة.
التقدير
مصر في موقف لا تحسد عليه بسبب السياسات الفاشلة للانقلاب على الصعيد الخارجي.. وبالرغم من أن فضح الانقلاب قد يكون هدفًا، لكن يبقى الأهم كيفية الخروج من هذا المأزق الوطني، لا سيما وأن الآثار السلبية للسد ربما تتجاوز في مداها الزمني الانقلاب الذي يتمنى رافضوه أن يسقط قريبًا. صحيح أن هذه الطلبات ربما تكون مثالية، وغير منطقية، لكن قد يكون هذا هو المتاح لفضح الانقلاب. ولأنه لا يوجد بدائل أخرى إلَّا الاستسلام للأمر الواقع وهو ما قد يُلحِق أكبر الضرر بالشعب المصري.