تقدير موقف

انتخابات البلدية في تركيا.. النتيجة ودلالاتها وآثارها الراهنة والمستقبلية

للتحميل والقراءة بصيغة PDF

مقدمة

شهدت تركيا إجراء انتخابات البلدية، في 31 مارس 2024. وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات تختص باختيار القائمين على الإدارة المحلية وتقديم الخدمات للمواطنين، إلَّا أنها اكتسبت أهمية كبيرة، بسبب رغبة الحزب الحاكم في استعادة البلديات الكبرى، وعلى رأسها إسطنبول، وإلحاق هزيمة جديدة بالمعارضة، في مقابل مساع حثيثة من المعارضة للعودة مرة أخرى إلى الساحة كقوة سياسية مؤثرة، بعد سلسلة من الهزائم، الأمر الذي جعل المتابعين للشأن التركي يرون أن نتيجة هذه الانتخابات سوف تؤثر على مستقبل المشهد السياسي برمته.

وتسعى هذه الورقة إلى تقديم تقدير موقف لتأثير نتيجة هذه الانتخابات على المشهد التركي، وذلك من خلال استعراض نتيجة الانتخابات، ومؤشرات ودلالات هذه النتيجة، وأسباب خسارة الحزب الحاكم وفوز حزب المعارضة الرئيس، مع التركيز على نتيجة الانتخابات في إسطنبول لأهميتها، وذلك للوصول إلى تحديد المآلات المحتملة لتأثير هذه الانتخابات.

نتيجة انتخابات البلدية

أسفرت انتخابات البلدية التركية عن فوز حزب “الشعب الجمهوري” المعارض في عموم تركيا، بنسبة 37.8 بالمئة، وهو إنجاز لم يحققه منذ انتخابات عام 1997، بينما حلَّ حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في المرتبة الثانية، بنسبة 35,5 بالمئة، بعد أن مُنِي بأكبر هزيمة انتخابية منذ وصوله للسلطة في 2002. وجاء في المركز الثالث حزب “الرفاه من جديد”، بنسبة 6.2 بالمئة.

وبهذه الأرقام، يكون حزب “الشعب الجمهوري” قد فاز بإدارة 35 بلدية، بعد أن كان يسيطر على 21 بلدية فقط، ليتراجع نصيب حزب “العدالة والتنمية” إلى 24 بلدية، من أصل 39 بلدية فاز بها في الانتخابات الماضية.

كذلك، نجح حزب “الشعب الجمهوري” في المحافظة على رئاسة البلديات الكبرى، في إسطنبول وأنقرة وإزمير، بفارق كبير في الأصوات بين مرشحيه ومرشحي حزب “العدالة والتنمية”، وَصَل إلى أكثر من مليون صوت في انتخابات إسطنبول، وكانت نسبة مرشح الحزب الحاكم في أنقرة نصف النسبة التي حصل عليها مرشح حزب “الشعب الجمهوري” تقريبًا.

أما باقي الأحزاب، فكان أبرزها حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي، الذي حصل على 5.7 بالمئة من الأصوات، وفاز برئاسة 10 بلديات، بينما تراجعت نسبة المصوتين لأحزاب “الحركة القومية” المتحالف مع “العدالة والتنمية”، وحزب “الجيّد” القومي، و”السعادة” الإسلامي، وارتفعت نسبة المصوتين لحزب “الظفر” القومي[1].

هذا بالإضافة إلى خسارة حزب “العدالة والتنمية” للأغلبية في المجالس البلدية التي كان يسيطر عليها، في بلديتي أنقرة وإسطنبول، اللتين كانتا بحوزة التحالف الذي قاده في الانتخابات السابقة؛ رغم خسارته رئاسة البلديتين لصالح المعارضة حينها.

مؤشرات ودلالات مهمة

ثمَّة مؤشرات مهمة، لا تخلو من دلالات، وينبغي الالتفات إليها بعد استعراض نتيجة الانتخابات والأرقام التي حققتها الأحزاب المشاركة بشكل عام، ومن هذه المؤشرات ما يلي:

  • استمرار تراجع نتائج حزب “العدالة والتنمية”، والذي بدأ مع انتخابات 2019، حينما خسر الحزب انتخابات البلدية في معقله بإسطنبول، لمصلحة حزب “الشعب الجمهوري”، بفارق 13 ألف صوت، ثم أعيدت الانتخابات حينها ليخسرها مرة ثانية، بفارق 775 ألف صوت.

ثم واصل الحزب الحاكم تراجعه في انتخابات الرئاسة والبرلمان في 2023، رغم فوزه بالانتخابات، بعد أن احتاج مرشحه، الرئيس أردوغان، إلى الإعادة، لينجح بنسبة تقل عن نسبته في انتخابات 2018 بـ0.44 بالمئة من أصوات الناخبين، مع تراجع عدد مقاعده في البرلمان، بعد أن خسر 27 مقعدًا من المقاعد التي حصل عليها في الانتخابات السابقة، الأمر الذي جعل هذا الفوز فوزًا بطعم الهزيمة.

  • فوز حزب “الشعب الجمهوري” بانتخابات البلدية في عموم تركيا “منفردًا”، بينما دخل حزب “العدالة والتنمية” هذه الانتخابات ضمن تحالف انتخابي وسياسي، مع حزب “الحركة القومية” وحزب “الاتحاد القومي”، ومع ذلك خسر الانتخابات.
  • يمثل حصول حزب “الرفاه من جديد” على المركز الثالث وبنسبة تزيد عن 6 بالمئة من إجمالي أصوات الناخبين على مستوى تركيا، خصمًا من أصوات الإسلاميّين والمحافظين الذين يصوتون لحزب “العدالة والتنمية”.
  • خسارة حزب “العدالة والتنمية” بلديات إسطنبول وأنقرة وأزمير، وهو ما يعني استمرار فقدان حكومة الحزب الحاكم القدرة على ممارسة نفوذها بشكل كامل على بلديات هذه المدن الكبرى، وعدم القدرة على استغلال إمكانيات هذه الولايات في إقامة المشاريع وتقديم الخدمة للمواطنين والتواصل المباشر معهم، بما يمكِّن الحزب من استعادة مناصريه واجتذاب أنصار جدد عبر الإنجازات والخدمات.
  • لم تقتصر هزيمة العدالة والتنمية على رئاسة البلديات والمدن الكبرى، وإنما امتدت الهزيمة إلى البلديات الفرعية، أو بلديات أحياء المدن الكبرى، حيث رفع “الشعب الجمهوري” رصيده في أنقرة من 3 إلى 16، مقابل تراجع “العدالة والتنمية” من 19 إلى 8 من أصل 25 بلدية فرعية. وفي إسطنبول رفع “الشعب الجمهوري” رصيده من 14 إلى 26، مقابل تراجع العدالة والتنمية من 24 إلى 13 من أصل 39 بلدية فرعية[2].
  • تقدُّم أرقام المعارضة، منذ 2019 وحتى الآن، رغم هزيمتها في استحقاقات انتخابية مختلفة سابقة، ولكن هذا التقدُّم التدريجي في مقابل التراجع التدريجي للحزب الحاكم ينذر بإمكانية حدوث تغيير في المواقع في أقرب استحقاق انتتخابي، وهو انتخابات 2028، إذا استغلت المعارضة الفرصة ولم يُقدِّم الحزب الحاكم أداءً يستعيد به كتلته التصويتية ويُضِيف إليها مزيدًا من المؤيدين.
  • شهدت الانتخابات أدنى معدل مشاركة منذ عام 2004، وهو 78.5 بالمئة، الأمر الذي يدل على أن نسبة كبيرة فضلت الامتناع عن المشاركة، وهو ما أثر على عدد الناخبين المنتمين إلى حزب “العدالة والتنمية”، الذي تراجع بأكثر من مليوني صوت عن الانتخابات السابقة، وهو رد فعل متوقع من المتضررين من سياسات الحزب، ورسالة تحذير له من أجل إصلاح الأخطاء قبل انتخابات 2028. والملاحظ هو أن النسبة التي خسرها الحزب – بالمقارنة مع انتخابات 2019 – هي 10 بالمئة، وهي شبه مطابقة لنسبة المقاطعين للانتخابات.
  • هناك تصويت عقابي ضد “العدالة والتنمية”، والدليل على ذلك هو تلك الأصوات التي ذهبت إلى حزب “الرفاه من جديد”، ولم تذهب إلى “الشعب الجمهوري”، ليحل ثالثًا، وهو حزب إسلامي كان قد تحالف مع الحزب الحاكم في انتخابات 2023، وهو ما يمكن وصفه بـ”التصويت العقابي الآمن” من وجهة نظر الناخبين.

أسباب خسارة “العدالة والتنمية”

يمكن القول إن الأزمة الاقتصادية هي السبب الأول في الخسارة الكبيرة التي مُنِي بها حزب “العدالة والتنمية” في انتخابات البلدية، وذلك بعد أن وصلت معدلات التضخم إلى مستويات عالية، وارتفعت تكاليف المعيشة بالنسبة للمواطن التركي.

كانت الوعود بمعالجة الوضع الاقتصادي – خاصَّة فيما يتعلق بمعدلات التضخم العالية التي ألقت بظلالها على مختلف مظاهر الحياة في تركيا، وأدخلت المواطن في أزمة معيشية طاحنة بسبب غلاء الأسعار – على رأس الوعود التي قطعها الرئيس أردوغان على نفسه بعد انتخابات الرئاسة والبرلمان، ولكن بعد مرور 9 أشهر، ازداد الوضع سوءًا، وصارت الأسعار تزداد يومًا بعد يوم، مع تراجع في قيمة العملة، الأمر الذي أضاع أيَّ أثر لرفع الحد الأدنى للأجور مرتين في عام واحد لمساعدة المواطن في التغلب على مشكلة الأسعار، وأفقد الناس الثقة في قدرة إجراءات الحكومة على حل هذه الأزمة.

ولهذا صَوَّت كثير من الأتراك تصويتًا عقابيًّا ضد حزب “العدالة والتنمية”، وامتنع آخرون من أنصار الحزب عن المشاركة في الانتخابات. ويكفي أن نعلم أن هناك كتلة تصويتية تتكون من 16 مليون، من المتقاعدين، صَعَّدت من حدة معارضتها للحكومة في الآونة الأخيرة، بسبب ضعف معاشاتهم، وهي كفيلة بتغيير نتيجة أيّ انتخابات في تركيا، وهو ما استغلته المعارضة.

غير أن هناك أسبابًا أخرى ساعدت – على اختلاف درجات أهميتها – في تعرُّض الحزب للهزيمة أمام حزب “الشعب الجمهوري”، ومنها ما يأتي:

  • عدم نجاعة الإجراءات التي اتخذها حزب “العدالة والتنمية” في عملية النقد الذاتي والتغيير والتطوير ومراجعة أداء الحزب، بحسب وعود الرئيس أردوغان وقيادات حزبه بعد الهزيمة في انتخابات إسطنبول عام 2019، وبعد تراجع النتائج في انتخابات الرئاسة والبرلمان، عام 2023.
  • عدم قدرة الحزب على توسيع تحالفه الانتخابي، واقتصار التحالف على حزب “الحركة القومية”، الذي يخسر أصواتًا لمصلحة الأحزاب القومية الأخرى الأكثر تطرفًا، وحزب “الاتحاد القومي”، وهو حزب صغير، وغير مؤثر في الحياة السياسية التركية. بالإضافة إلى عدم تقدير الحزب لحجم الضرر الذي يمكن أن يلحق به نتيجة الفشل في التوافق مع حزب “الرفاه من جديد”، وتحول هذا الحزب إلى حزب منافس.
  • تفتيت أصوات الإسلاميّين والمحافظين، بعد أن فشل حزب “العدالة والتنمية” في إقامة تحالف مع حزب “الرفاه من جديد”، الذي شارك في انتخابات البلدية بمرشحين مستقلين، حصلوا على حصة من أصوات الكتلة المحافظة، التي تنتقد بعض سياسات “العدالة والتنمية”، حتى إن الحزب انتزع رئاسة بلدية “شانلي أورفا” من يد حزب “العدالة والتنمية”.
  • موقف الحكومة التركية من الحرب في غزة، وعدم اتخاذها إجراءات قوية تتناسب مع مطالب شعبية من جانب الإسلاميين والمحافظين بقطع التبادل التجاري مع إسرائيل، والتدخل بكافة الوسائل الممكنة لدعم أهالي قطاع غزة. وكان غريبًا على الحالة التركية أن يكون موقف بعض رموز المعارضة من فلسطين أفضل من موقف الرئيس أردوغان والحزب الحاكم.
  • فشل حزب “العدالة والتنمية” في اجتذاب أصوات الأكراد، بسبب عدم الوصول إلى حل سياسي لأزمتهم مع الدولة التركية، يوازي الحل العسكري الذي نجحت فيه الحكومة، واستطاعت من خلاله محاصرة مشكلة الإرهاب. وظهر هذا بوضوح في تصويت أكراد لحزب “الشعب الجمهوري” في إسطنبول رغم وجود مرشح كردي يمثلهم، لعلمهم أن مرشحهم لن يفوز، وأن أصواتهم يمكن أن تهزم مرشح “العدالة والتنمية”، وهو ما حدث بالفعل.
  • ضعف استيعاب حزب “العدالة والتنمية” للكتلة التصويتية الجديدة، التي أضيفت إلى أصحاب الحق في الانتخاب، وتقدر بمليون ونصف شاب، سوف يزيدون في الانتخابات القادمة، وهي كتلة لا تمتن لحزب “العدالة والتنمية” بسبب النقلة الحضارية التي أحدثها في تركيا؛ لأنها لم تعش مرحلة ما قبل وصول الحزب للسلطة، ولا تقارن حاضر تركيا بماضيها السيء في ظِل حكم العسكر والعلمانيّين، وإنما تقارن حاضر تركيا بحاضر الدول الأوروبية الأكثر تقدمًا.
  • الرغبة في التغيير لدى قطاعات من الشعب التركي، ترى أن بقاء الحزب في السلطة منذ 2002 أمرًا يضر بتركيا، ولا يتيح الفرصة لمعالجة الأخطاء، عبر تجربة جديدة، وهو أمر طبيعي في الدول ذات التجارب الديمقراطية.
  • اختيار شخصيات تفتقد إلى الكاريزما والتجربة السياسية الكبيرة والتواصل الفعَّال مع الجماهير، وهو خطأ كبير، ظهرت نتيجته في هزيمة مرشح الحزب في إسطنبول بفارق أكثر من مليون صوت، وخسارة مرشح الحزب في أنقرة بفارق نصف الأصوات تقريبًا.
  • الشكوى من وجود فساد ومحسوبية ومشاكل وصراعات داخل منظومة الحزب الحاكم، وهو أمر محتمل في ظِل انضمام أصحاب المطامع والمصالح إليه. هذا بالإضافة إلى ما يرتبط بترهل الحزب والحكومة شأن الأحزاب التي تحكم لمدة طويلة.

أسباب فوز “الشعب الجمهوري”

بالإضافة إلى الأسباب التي أدَّت إلى خسارة حزب “العدالة والتنمية” لانتخابات البلدية، ثمَّة أسباب أخرى لفوز حزب “الشعب الجمهوري” بهذه الانتخابات، ومنها ما يلي:

  • الالتزام الأيديولوجي الحاد من أنصار حزب “الشعب الجمهوري”، والذي أثبت أن انتماءه لمبادئ الحزب العلمانية أقوى من اهتمامه بالجانب الخدمي الذي تضطلع به البلديات، وهو ما ظهر في بلديات عديدة، أهمها إزمير، معقل العلمانية، التي تراجعت فيها الخدمات، واهترأت بنيتها التحتية، وعانى سكانها تحت رئاسات الحزب المتعاقبة لبلديتها، وهو وضع كان كفيلًا بتغيير اختيارات الناخبين صوب حزب آخر، لكنهم اختاروا التصويت المكثف لصالح مرشح حزب الشعب الجمهوري، ليحصل على فوز مريح[3].
  • عدم التزام شريحة من أنصار أحزاب المعارضة بالتصويت لمرشحي أحزابهم، بعد إدراكهم أن هؤلاء المرشحين لن يستطيعوا الفوز على مرشحي الحزب الحاكم، فذهبت أصواتهم إلى الأقدر على المنافسة، وهو مرشح حزب “الشعب الجمهوري”، حتى لا تضيع أصوات المعارضة التي فشلت أحزابها في إقامة تحالف انتخابي. وقد ظهر أثر ذلك في تراجع نسب التصويت لأحزاب المعارضة عن النسب المعتادة في الانتخابات السابقة.
  • نجاح التحالفات غير العلنية التي عقدها حزب “الشعب الجمهوري” مع حزب “المساواة وديمقراطية الشعوب” الكردي اليساري، حيث تحاشى الحزب عقد تحالف صريح معه ليتجنّب أخطاء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الماضية، نظرًا لعلاقة الحزب مع “حزب العمّال الكردستاني” المحظور[4]، وهو ما ظهر في تصويت الأكراد لمرشح حزب “الشعب الجمهوري” في إسطنبول، رغم وجود مرشح لحزبهم الكردي. 
  • وجود استراتيجيات انتخابية مدروسة لدى المعارضة، تلامس احتياجات الناخبين بدقة، وتركز في حملاتها الانتخابية على هموم الناس وأزماتهم اليومية.
  • الاستفادة من مقاطعة ملايين من القاعدة الانتخابية الأساسية لحزب “العدالة والتنمية” للانتخابات، والحشد بأقصى طاقة ممكنة للقواعد الثابتة للمعارضة.

إسطنبول ومستقبل إمام ‌أوغلو

تتمتع مدينة إسطنبول بامتلاك أكبر خزان بشري في تركيا، وتُعد صورة مصغرة للبلاد، بتعقيداتها وتشابكاتها، وميولها وتوجهاتها السياسية المختلفة. وتمثل ما يقرب من نصف القاعدة الضريبية في تركيا وحوالي ثلث ناتجها الاقتصادي.

ومَن يدير إسطنبول، تتاح له فرصة الوصول إلى 16 مليون شخص، فيهم 11 مليون ناخب، وهو ما يمنحه فرصة للعبور إلى المجال السياسي العام.

ويُعد الفوز برئاسة بلدية إسطنبول ذات الإمكانيات الكبيرة فوزًا معنويًّا وسياسيًّا؛ وهو ما عبَّر عنه الرئيس أردوغان بقوله إن “مَن يسيطر على مدينة إسطنبول يمكنه أيضًا حكم البلاد بأكملها في الانتخابات العامة”. ولهذا، ألقى الرئيس أردوغان بثقله كله وراء مرشح “العدالة والتنمية”، مراد كوروم، الأمر الذي جعل انتصار مرشح حزب “الشعب الجمهوري”، أكرم إمام‌أوغلو، انتصارًا على أردوغان شخصيًّا.

ومن المنتظر أن يؤدي انتصار إمام‌أوغلو إلى صعوده بسرعة كبيرة، ليتحول إلى قائد ظل لزعيم حزب “الشعب الجمهوري”، ورمز للمعارضة كلها في الفترة المقبلة، ومنافسًا أكيدًا في انتخابات الرئاسة المقبلة، بوصفه الرجل الذي استطاع أن يهزم أردوغان ثلاث مرات متتالية، بعد أن تجاوز انقسامات المعارضة.

وقد عقد البعض مقارنات بين صعود إمام‌أوغلو السياسي من مدينة إسطنبول وصعود أردوغان من نفس المدينة، جازمًا بأن إمام‌أوغلو سوف يُعيد تكرار مسيرة أردوغان، حتى إن البعض أطلق عليه لقب “أردوغان الثاني”.

ومع الإقرار بأن انتصار إمام‌أوغلو ومحافظته على رئاسة بلدية إسطنبول إنجاز مهم ونجاح ملحوظ، وأن رئاسة بلدية إسطنبول تمثل فرصة غير عادية لمَن يصل إليها، بسبب الإمكانيات التي تمتلكها البلدية وتتوفر له، فإن الجزم بتكرار مسيرة أردوغان أمر غير مقبول في عالم السياسية المتغير؛ لأن أردوغان لم يحقق ما حققه من نجاح سياسي بسبب وصوله إلى رئاسة بلدية إسطنبول ونجاحه فيها فقط، وإنما بسبب تاريخه في حزب الرفاه، ووجود حزب كبير ومنظم ومتحد وراءه فيما بعد، وهو حزب “العدالة والتنمية”.

هذا فضلًا عن أن تجربة إمام‌أوغلو في ولاية إسطنبول تشوبها الكثير من الشوائب، بسبب تقصيره في أداء مهامه، وهو ما يمكن أن يتكرر مرة أخرى في السنوات القادمة، ما قد يؤدي إلى تراجع شعبيته، وربما انهيارها.

كذلك فإن إمام‌أوغلو مدين بانتصاره على مرشح حزب “العدالة والتنمية” لأصوات الأكراد، وأصوات أنصار أحزاب معارضة أخرى تمرَّد أصحابها على الولاء الحزبي، وأصوات الغاضبين من أداء الحزب الحاكم التي ذهبت إلى حزب “الرفاه من جديد” ولم يستفد بها مرشح الحزب.

ثم إن الجزم بنجاح إمام‌أوغلو في قيادة المعارضة لهزيمة حزب “العدالة والتنمية” ومرشحه للرئاسة في الانتخابات العامة القادمة رهين باستسلام الحزب الحاكم للأزمات التي تواجهه، وفشله في القيام بالإصلاحات المطلوبة، بالتزامن مع تحسن وضع المعارضة وانتظام أمرها، وتعلمها من أخطائها في الانتخابات السابقة.

وأخيرًا، هناك اختلاف في طبيعة تصويت المواطن التركي في انتخابات البلدية عن الانتخابات العامة، وكثيرًا ما يصوت بشكل عقابي في انتخابات البلدية، لتوصيل رسائل احتجاجية إلى الأحزاب، لعلمه أن هذه الانتخابات لن تقرر مصير الوطن وقضاياه الكبرى وشكل السلطة.

أثر الانتخابات على تركيا

لا شك في أن انتخابات البلدية في تركيا لها أهمية كبيرة؛ لأن نتيجتها تقدم مؤشرات على مستوى الرضا الشعبي عن أداء الأحزاب، وتمنح الفائز بها فرصة للتواصل المباشر مع جماهير الشعب التركي، بما يتيح الفرصة للدخول إلى عالم السياسة، ولكن تأثيرها يظل محدودًا نسبيًّا على الحالة السياسية العامة بالمقارنة مع انتخابات الرئاسة والبرلمان.

ولكن الهزيمة غير المسبوقة في تاريخ حزب “العدالة والتنمية” منذ تأسيسه، والفوز الذي لم يحققه حزب “الشعب الجمهوري” منذ 35 سنة، رفعا سقف التوقعات بإمكانية حدوث تغيير في المشهد السياسي التركي خلال الفترة المقبلة.

  • الأثر الراهن:

مِن غير المنتظر أن تهز نتيجة الانتخابات الاستقرار السياسي في تركيا، أو أن تؤدي إلى تغيير جذري في النظام السياسي العام في الوقت الراهن؛ لأن الرئيس أردوغان مازال لديه 4 سنوات في الحكم، ويمتلك سلطات واسعة بحكم الدستور، تمكنه من السيطرة على السلطة التنفيذية والتحكم في مقدرات الدولة وإمكانياتها، ويمتلك التحالف الذي يقوده حزب “العدالة والتنمية” الأغلبية المطلقة في البرلمان التركي، ما يعني السيطرة على السلطة التشريعية/الرقابية. هذا بالإضافة إلى تأثيره على المؤسسة القضائية، وفق التعديلات التي أجريت على مجلس القضاة، وجعلت تعيين أغلب أعضائه من جانب الرئيس والبرلمان.

ومع سيطرة الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم على السلطات الثلاث ومؤسسات الدولة الأخرى، فإن المعارضة لن تجد أمامها إلَّا محاولة إشغال الحكومة بقضايا تثير الرأي العام، لإحداث حالة من البلبلة والارتباك، على أمل أن تعطل عملية الإصلاح التي ينبغي أن يقوم بها الحزب قبل انتهاء الولاية الرئاسية والبرلمانية الحالية.

ولعل أولى محاولات المعارضة في هذا الشأن هي تلك الدعوات التي صدرت في أعقاب إعلان نتيجة الانتخابات بضرورة استقالة الرئيس أروغان وإجراء انتخابات عامة مبكرة.

فالمعارضة تدرك أن الدستور التركي قد حدد آليَّة الذهاب إلى انتخابات عامة مبكرة، ولا يملك الدعوة لهذه الانتخابات إلَّا رئيس الدولة والبرلمان، ولا علاقة لهذا الإجراء بانتخابات البلدية.

ولهذا، استبعد الرئيس أردوغان ضمنيًّا فكرة الانتخابات المبكرة، حينما صرح بأنه سيقضي السنوات الأربعة المتبقية في إصلاح الأخطاء[5].

  • الأثر المستقبلي:

يمكن أن تؤثر نتيجة انتخابات البلدية على المشهد السياسي التركي في المستقبل، وعند أقرب استحقاق للانتخابات العامة، في 2028، على حسب أداء الحزب الحاكم وكيفية تعاطيه مع تلك النتيجة وما حملته من رسائل تحذيرية للحكومة من جهةٍ، ومدى استغلال المعارضة للفرصة التي أتيحت لها بعد الفوز بالانتخابات من جهةٍ أخرى.

فعلى مستوى حزب “العدالة والتنمية”، من المنتظر أن يسعى الحزب إلى تدارك آثار الخسارة، لاستعاد الأصوات التي امتنعت عن المشاركة أو رفضت التصويت له، والمحافظة على حظوظه في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، للبقاء في السلطة، وذلك من خلال ما يأتي:

  • الإصلاح الحزبي، من خلال نقد ذاتي حقيقي، تعقبه عملية إصلاح وتحديث في منظومة الحزب، تعالج مواطن القصور، وتطور أساليب التواصل مع الشعب، خاصَّة الأجيال الجديدة التي يجب استيعابها، وتُقدِّم قيادات قادرة على المنافسة. بالإضافة إلى إعداد مرشح رئاسي قادر على استكمال مسيرة أردوغان، وإقامة تحالف سياسي وانتخابي قوي مع الأحزاب الأخرى، حتى يستعيد الكتلة التصويتية التي خسر جزءًا منها لصالح حزب “الرفاه من جديد”.
  • حل الأزمة الاقتصادية، والتي سوف يكون في حلها حلٌّ لقضايا أخرى، على رأسها قضية اللاجئين الذين يُحمّلهم البعض مسؤولية ارتفاع الأسعار وسوء الأحوال المعيشية.

ولكن الحلول التي يطرحها الفريق الاقتصادي بالحكومة تحتاج إلى وقت وصبر من جانب الشعب التركي، وهو ما يعني إطالة أمد الأزمة، وزيادة حدة السخط الذي سوف تنميه المعارضة وتستغله. ولكن النجاح في حل الأزمة يمكن أن يعيد الثقة في الحزب، ويقوي موقفه في الانتخابات القادمة، ومِن ثمَّ بقاؤه في السلطة.

  • قطع الطريق على المعارضة ووقف تقدمها، بحرمانها من الاستفادة المُثلَى من ميزة إدارة البلديات، عن طريق إنجاز مشاريع عملاقة على المستوى الوطني، تعود بالنفع المباشر على المواطنين ويشعرون بأثرها على حياتهم، مثل استكمال مشروع محطة الطاقة النووية، واستغلال اكتشافات الغاز، ومشاريع الطرق والإسكان.
  • الدخول في معارك سياسية على المستوى الداخلي، تضمن عودة الالتفاف الشعبي حول الحزب الحاكم، من خلال فتح ملفات قضايا مثل صياغة الدستور الجديد، للتخلص من الدستور المكتوب في عهد العسكر، وكتابة دستور مدني. ومحاولة معالجة قضية الأكراد، التي تعد من التحديات السياسية الكبرى في تركيا.
  • التمسُك بسياسة التهدئة والمصالح المشتركة على المستوى الخارجي، من خلال إدارة فعالة تتسم بالتوازن في العلاقة مع الغرب، واستمرار تصفير المشاكل في العلاقة مع دول المنطقة، خاصَّة مصر ودول الخليج، من أجل مواجهة الأزمة الاقتصادية، عبر زيادة معدلات التصدير، وجذب رؤوس الأموال الخليجية للاستثمار في الأسواق التركية، وتخفيف حدة العداء لتركيا من جانب هذه الدول التي كانت تشكل محاور تهدد المصالح التركية.

وعلى الجانب الآخر، ترى المعارضة في انتخابات البلدية مقدمة للتغيير، وهو ما عبَّر عنه رئيس حزب “الشعب الجمهوري”، أوزغور أوزيل، الذي قال إن “الناخبين اختاروا تغيير وجه تركيا بعد 22 عامًا من هيمنة حزب العدالة والتنمية”.

ولكن هذا التغيير مرهون بفشل الحزب الحاكم في إجراء الإصلاحات التي تمكنه من المحافظة على السلطة من ناحيةٍ، وتمكُّن المعارضة من إحداث حالة نجاح في إدارة البلديات تشبه الحالة التي حققها حزب “العدالة والتنمية” من قبل، وأهلته للوصول إلى السلطة.

وإذا تحقق ذلك فإن فرصة المعارضة سوف تزداد في الفوز بالانتخابات العامة في 2028، بعد خروجها من دائرة الهزيمة، وحصولها على جرعة كبيرة من الثقة، لتقضي على إرث أردوغان في الحكم، داخليًّا وخارجيًّا، في حال الوصول للسلطة.

فعلى المستوى الداخلي، سوف تقوم المعارضة – في حال حصولها على الأغلبية اللازمة لتعديل الدستور – بالعمل على العودة إلى النظام البرلماني، بكل ما فيه من مشاكل تعطل مؤسسة الحكم، والانقلاب على الخطوات التي اتخذها أردوغان لتعزيز الهوية الإسلامية للبلاد.

وعلى المستوى الخارجي، سوف تعود تركيا إلى سابق علاقاتها بالغرب وإسرائيل وحلفائهما بمنطقة الشرق الأوسط، على حساب القضايا التي تهم شعوب العالمين العربي والإسلامي.

ولهذا، من المنتظر أن تحظى المعارضة ومرشحها المحتمل في انتخابات الرئاسة المقبلة بمزيد من الدعم الغربي، لاستئناف مشروع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لتغيير النظام السياسي في تركيا عبر صناديق الاقتراع.

وبالتوازي مع هذا الدعم، يمكن أن يزيد الغرب من الضغط على الرئيس أردوغان وحكومة “العدالة والتنمية” من خلال ملفات مثل ملف حقوق الإنسان، وملف التعاون الاقتصادي.

المآلات المحتملة لأثر الانتخابات

وفق ما تمَّ عرضه من أسباب وفرص وإمكانيات للتأثير الراهن والمستقبلي لانتخابات البلدية على الحالة التركية، فإنه ثمَّة مآلات ثلاثة محتملة لأثر انتخابات البلدية على الشأن العام في تركيا، وهي:

1 – نجاح حزب “العدالة والتنمية” في إجراء الإصلاحات المطلوبة، وسَد الثغرات التي كشفت عنها الهزيمة في انتخابات البلدية، على مستواه الداخلي، وعلى مستوى الأداء الحكومي، وتمكنه من المحافظة على كتلته التصويتية، ودخول الانتخابات بقوة تؤهله للفوز بها والحفاظ على السلطة. وذلك بالتزامن مع فشل المعارضة في استغلال الفرصة التي سنحت لها بعد الفوز بانتخابات البلدية، مِن توفر الوسيلة للتواصل مع الشعب التركي، وخدمته، وكسب تأييده.

2 – نجاح المعارضة في كسب ثقة المواطنين، وزيادة أنصارها عبر النجاح في خدمتهم من خلال البلديات، واستغلال الدفعة المعنوية الكبيرة بعد الفوز في انتخابات البلدية في إصلاح الأوضاع الحزبية الداخلية والاتفاق على تحالف انتخابي وسياسي لمواجهة الحزب الحاكم، وتتويج ذلك بالوصول إلى السلطة. وذلك بالتزامن مع فشل حزب “العدالة والتنمية” في مراجعاته الداخلية وعجزه عن حل الأزمات التي تواجه حكومته.

3 – عدم تفوق أيّ طرف من الحكومة والمعارضة على الآخر، قبل المواجهة في الانتخابات العامة في 2028، وذلك إمَّا بفشل كليهما في إنجاز ما يُرجّح كفة أحدهما على الآخر، أو بنجاح كليهما في تحقيق الإصلاحات والإنجازات المطلوبة منه، وليكون الحكم هو صندوق الانتخابات، وفق انتخابات لا يمكن توقع نتيجتها.

لا يمكن ترجيح أحد المآلات المحتملة، لأن كلا الطرفين القادرين على التنافس على السلطة، وهما حزب “العدالة والتنمية” وحزب “الشعب الجمهوري”، يمتلكان أدوات المنافسة وإمكانياتها، بشرط أن يعمل كلٌّ منهما على استغلال ما يملكه من أدوات وإمكانيات في تحقيق حالة النجاح المنشود، على مستوى أداء الحزب الحاكم من خلال عمل الحكومة، وأداء المعارضة من خلال عملها في البلديات.

خاتمة

يرى البعض أن نتيجة انتخابات البلدية غير متوقعة، بعد أن خسر حزب “العدالة والتنمية” لمصلحة حزب “الشعب الجمهوري” المعارض، وهو أمر غير صحيح؛ لأن الظروف التي أحاطت بالانتخابات كانت تنذر بهزيمة الحزب الحاكم، لأسباب داخلية تخص منظومة الحزب، وأسباب أخرى خاصَّة بأداء الحكومة، التي لم تستطع الوفاء بوعودها في تحسين الأوضاع الاقتصادية، وهو ما أدى إلى زيادة السخط بين شرائح عريضة من الشعب التركي الذي عاقب الحزب الحاكم من خلال صندوق الانتخابات.

ولكن حجم الخسارة لدى الحزب الحاكم، وحجم الفوز لدى الحزب المعارض، أثارا التكهنات بإمكانية التغيير في المستقبل، وهو أمر وارد، ويرتبط بأداء كلا الطرفين.


[1] – صحيفة Yeni Safak بالعربية، نتائج الانتخابات المحلية في تركيا 31 مارس 2024، 1 أبريل 2024، الرابط

 [2]- الجزيرة، “التصويت العقابي”.. لماذا خسر العدالة والتنمية الانتخابات في تركيا؟، 1 أبريل 2024، الرابط

[3] – الجزيرة نت، قراءة في هزيمة حزب أردوغان، 2 أبريل 2024، الرابط

[4] – المصدر السابق، الرابط

[5] – نفس المصدر، الرابط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى