مقدمة
بعد إعلان النظام المصري نجاحه في القضاء على “الإرهاب” في شمال سيناء، وبينما ينتظر المصريون الاحتفال المقرر إقامته بمناسبة هذا النجاح، جاء حادث الهجوم على مقر الأمن الوطني في العريش ليؤكد أن الصراع مع الجماعات المسلحة لم ينتهِ بعد.
وقد أثار الهجوم الأخير حالة من الجدل، بسبب وقوعه في منطقة حصينة، وغياب الرواية الرسمية للحادث، بالإضافة إلى عدم تبني الجماعات المسلحة للعملية التي أسقطت عددًا كبيرًا من القتلى والمصابين من رجال الأمن.
ترصد هذه الورقة الروايات المختلفة حول الحادث، كخطوة في سبيل الوصول إلى الرواية الأكثر قبولًا والأقرب للحدوث في ظِل المتاح من معلومات واستنتاجات وشهادات.
كما تتناول الورقة رد الفعل الشعبي على الهجوم، وترصد الأشكال المختلفة التي عبَّر من خلالها المواطنون عن رؤيتهم للحادث.
وتنتقل الورقة بعد ذلك إلى الحديث عن التبعات السياسية لهذا الحادث على النظام، خاصَّة وأنه وقع في وقتٍ يُعاني فيه من أزمات متراكمة ومتتالية، وهو ما يؤثر بشكل سلبي على روايته حول توفير الأمن وتحقيق الإنجازات قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
استهداف مقر الأمن الوطني
تعرَّض مقر جهاز الأمن الوطني ومحيطه بمدينة العريش بمحافظة شمال سيناء لهجوم مسلح، أسفر عن مقتل ثمانية أفراد، وإصابة ما يقرب من 22 آخرين، كلهم من رجال الشرطة، بعد إطلاق للنار استغرق حوالي ثماني ساعات متواصلة، وبدأ في صباح الأحد 30 يوليو/تموز 2023.
ويقع مقر الأمن الوطني داخل مربع أمني حصين، يضم مديرية أمن شمال سيناء، وديوان عام المحافظة، ومكتب المخابرات العامة، ومحكمة شمال سيناء.
خلق إطلاق النار حالة من القلق والتوتر في المنطقة، خاصَّة وأنه استمر من الساعة السابعة إلى الساعة الثالثة عصرًا، وتزامن مع انقطاع جميع شبكات الاتصال وخدمات الإنترنت.
وأفاد شهود عيان من مواطني شمال سيناء، أن الاشتباكات سابقة لم تحدث منذ سنوات عديدة، وأنهم شاهدوا أفرادًا يعتلون سطح مقر الأمن الوطني ويطلقون الرصاص في اتجاهات مختلفة، قبل أن تشتعل النيران في الدور الأخير من المبنى.
وتناقلت وسائل إعلام أخبار الحادث، وأفاد بعضها بوقوع اشتباك مسلح داخل المقر الأمني، وأفاد البعض الآخر بقيام بعض المحتجزين داخل مقر الأمن الوطني بالاستيلاء على أسلحة داخل مجمع الأمن المركزي بالعريش، وقتلوا وأصابوا عددًا من رجال الأمن.
لم يتبنى أيُّ تنظيم مسلح من التنظيمات الموجودة في سيناء، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، الهجوم على مقر أمن الدولة.
وذكرت وكالة أسوشيتدبرس، أن المستشفى العسكري في العريش استقبل جثامين القتلى، وهم من قوات العمليات الخاصَّة بقطاع اﻷمن المركزي، وفيهم قائد هذه القوات بشمال سيناء، العقيد محمد مؤنس.
وأضافت الوكالة أن قائمة الضحايا التي حصلت عليها، أظهرت أن بعض القوات أصيب بطلقات نارية، والبعض الآخر واجه صعوبات في التنفس جراء إطلاق الغاز المسيل للدموع داخل المقر، كما أظهرت القائمة أن بين الجرحى ثمانية ضبّاط[1].
غياب الرواية الرسمية
التزم النظام المصري الصمت حيال الاشتباك المسلح الذي وقع بمقر الأمن الوطني بالعريش، ولم تصدر عنه أية تصريحات أو بيانات رسمية حول الحادث الذي وقع في مكان يُعتبَر من أكثر المواقع تحصينًا في سيناء، وأسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى.
وعلى غير العادة، لم يَظهر رأس النظام، عبدالفتاح السيسي، لمخاطبة الشعب المصري وطمأنته، كما فعل في مرات سابقة، شهدت وقوع هجمات من مسلحين وسقوط قتلى من الجيش أو الشرطة.
ولكن اتحاد قبائل سيناء، وهو جهة مقربة من الجيش المصري، أعلن عبر صفحته الموثوقة على تويتر، أن العقيد بالقوات الخاصَّة محمد مؤنس من بين القتلى.
كما تحدث الإعلامي المصري، عمرو أديب، عن وقوع حادث “أمني” وليس “هجومًا” بالقرب من مقر مبنى الأمن الوطني بالعريش، وقال إنه تأكد من تفاصيل الحادث، وأن الخبر لديه من أصدقاء الشهداء، ولكنه فضل عدم ذكر ما لديه من تفاصيل[1].
واستشهد أديب بتغريدة لنائبة رئيس الوزراء ووزيرة التخطيط، هالة السعيد، على حسابها على تويتر، نعت فيها وفاة رجال الأمن، وترحَّمت عليهم.
لم يكتف النظام بالامتناع عن إصدار بيان رسمي، يحتوي على روايته للأحداث، وإنما عمد أيضًا إلى فرض حالة من السرية والتعتيم على الاشتباك المسلح وما ترتب عليه من خسائر.
فقد حذفت وزيرة التخطيط تغريدتها، التي تعترف فيها بوقوع الحادث وسقوط القتلى من رجال الأمن، كما قام غيرها بحذف تغريداته، ومنهم شقيق زوجة الضابط القتيل، الذي قال إنه قتل في عملية غادرة بالعريش دون تفاصيل، ثم حذف تغريدته، فيما يدل على أن تعليمات قد صدرت إليهم من جانب الجهات الأمنية بحذف تغريداتهم.
أما وسائل الإعلام الرسمية، فقد خلت من الإشارة إلى الحادث، وابتعدت برامج “التوك شو” الليلية على الفضائيات المصرية عن تناول الحادث.
ويمكن طرح العديد من التكهنات حول السبب في غياب رد الفعل الرسمي على الحادث، وهي هواجس يقوي بعضها بعضًا، وتنتفي عنها صفة التضارب في ظِل غياب رواية مؤكدة، ومنها ما يلي:
- صدمة النظام وارتباكه، لخطورة الحادث، وتوقيته، وحجم الخسائر، ورمزية المكان الذي وقع فيه، بوصفه رمزًا لقوة النظام وأداته الرئيسة في البطش.
- عدم رغبة النظام في توسيع دائرة تناول هذا الحدث، في وقتٍ يُتهَم فيه بالفشل في جميع المجالات، والتعويل على الوقت في نسيان الحادث أو التخفيف من آثاره.
- انتظار تبني أي جماعة مسلحة في سيناء للحادث، حتى لا يخرج البيان بمعلومات يكذبها بيان الجماعات المسلحة، خاصَّة إذا كانت هذه الجماعات تمتلك مادة يمكن استغلالها في تكذيب النظام، كمقاطع مصورة أو رهائن من رجال الأمن.
- إصدار بيان رسمي سوف يضع النظام في مأزق، أيًّا ما كان مضمون البيان، لأنه اعتراف بالفشل في مواجهة عناصر الأمن للهجوم، سواء كان داخليًّا أو خارجيًّا، وإقرار بالكذب في الادعاء بالقضاء على الإرهاب.
- التمهل لإعداد رواية تتلافى الثغرات، ويمكن تمريرها بدون انتقادات أو اتهامات بالكذب، خاصَّة وأن الأجواء في مصر مهيئة للتشكيك في أي رواية تصدر عن النظام.
- الإعداد لعملية انتقام تخفف وقع الفشل الأمني، وهو ما يمكن أن يوفر مادة إعلامية تتجاوز الحدث الأصلي، وتركز على بطولة الجيش وقدرته على الانتقام من الجهة المهاجمة.
الروايات المتضاربة
أدَّى غياب الرواية الرسمية حول أحداث الهجوم المسلح على مقر الأمن الوطني بالعريش، وعدم تبني أي من التنظيمات المسلحة المتواجدة في شمال سيناء للحادث، إلى ظهور عدد من الروايات المتضاربة، والتي لا يمكن التأكد من صحتها في ظِل العزلة المفروضة على سيناء ومنع وسائل الإعلام المستقلة والمنظمات الحقوقية من الوصول إلى حقيقة الأحداث فيها.
- الرواية الأولى:
وهي الأكثر شيوعًا، والتي تقول إن اشتباكات اندلعت بعد أن قامت مجموع من المحتجزين بالاستيلاء على أسلحة داخل مجمع الأمن المركزي، وهاجمت القوات المتواجدة[1].
وعلى الرغم من تأكيد البعض صحة هذه الرواية، بناءً على مصادر موثوقة، ومنهم الدكتور حسام فوزي رئيس لجنة المصالحات السابق في سيناء، والإعلامي عمرو أديب، فإن البعض يشكك فيها، مستندًا إلى خبراء ومعتقلين سابقين بمقرات أمن الدولة.
يقول هؤلاء المشككون إن هذه الرواية لا يمكن تصديقها، لأن المعتقلين في مقار الأمن الوطني تقيد أيديهم وأرجلهم طوال الوقت، وتغمى أعينهم أثناء الخروج من محبسهم.
- الرواية الثانية:
وتقول إن مقر الأمن الوطني تعرض لهجوم “إرهابي” من جانب تنظيم ولاية سيناء، التابع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأنه تمَّ القضاء على العناصر المهاجمة بعد سقوط قتلى وجرحى في صفوف قوات الأمن[1].
ولكن هذه الرواية لم يؤكدها بيان صادر عن هذا التنظيم، يتبنى فيه الهجوم، رغم ما زعمته صفحة مؤيدة للجيش على وسائل التواصل الاجتماعي، من أن هناك عملية مطاردة واسعة النطاق جارية لملاحقة جماعة إرهابية نفذت هجوم العريش. ولعل المطاردة كانت لمعتقلين نجحوا في الفرار من مقر الأمن بعد أن اشتبكوا مع القوات داخله.
كما أن صفحات عديدة استبعدت أن تكون الجماعات المسلحة هي التي قامت بالهجوم، نظرًا لأن مكان الحادث يقع في مربع أمني شديد التحصين ويصعب التسلل إليه، كما أنه لم ترصد أيّ تحركات غير اعتيادية قبل الحادث في المناطق القريبة.
- الرواية الثالثة:
وتقول إن الميليشيات التابعة لرجل الأعمال السيناوي المقرّب من النظام، ومؤسس اتحاد قبائل سيناء، إبراهيم العرجاني، هي التي هاجمت مقر الأمن الوطني، لإطلاق سراح بعض المحتجزين من أفراد هذه الميليشيات[1] التي كونها النظام المصري من أبناء سيناء بحجة محاربة الإرهاب.
ولكن اتحاد القبائل الذي يرأسه العرجاني نفى أي علاقة للرجل بالحادث، بالإضاف إلى قيام شخصيات محسوبة على النظام بالدفاع عنه، مثل مصطفى بكري، الذي أشاد بدور العرجاني في مكافحة الإرهاب.
كما يرى البعض أن العرجاني لا يمكن أن يقدم على هذه الخطوة، رغم ماضيه الذي شهد تجاوزات في حق الجيش والشرطة، لأن لديه الآن من النفوذ ما يمكنه من حماية أتباعه، دون معاداة النظام الذي يستخدمه كواجهة في إدارة مصالحه الاقتصادية الضخمة.
- الرواية الرابعة:
وتقول إن ضبَّاطًا من الجيش المصري هاجموا مقر الأمن الوطني بالدبابات، وأطلقوا عليه قذائف هاون وآر بى جي، بعد أن اعتقل الجهاز زملاء لهم بالجيش، وأن هؤلاء الضباط حرروا زملاءهم المعتقلين[1]. ويستشهد أنصار هذه الرواية بحوادث سابقة، قام فيها ضباط من الجيش بالاصطدام بالشرطة.
ولكن البعض يرفض هذه الرواية، مستندًا إلى أن الأمن الوطني لا يستطيع اعتقال ضابط جيش في الخدمة، وأن محاسبة ضبَّاط الجيش من مسؤولية الأمن الحربي والمخابرات الحربية، ولا دخل للأمن الوطني أو وزارة الداخلية في ذلك.
- الرواية الخامسة:
وهي الرواية التي تقول إن الحادث كان تصفية حسابات بين القوات المتواجدة في مقر أمن الدولة ومحيطها، لخلافات على المصالح. ويتبنى هذه الرواية الناشط السيناوي مسعد أبو فجر، الذي ينقل عن مصادر له في سيناء، أن ما حدث في العريش هو صراع بين أفراد الشرطة أنفسهم. وأن الدليل على ذلك هو أن القتلى والمصابين الذين سربت المخابرات أسماءهم كلهم تقريبًا من الأمن المركزي[1].
- الرواية السادسة:
وهي الرواية التي أطلقها بعض رواد وسائل التواصل الاجتماعي، ومفادها أن الحادث من تدبير النظام المصري نفسه، وأنه عمل مخابراتي، من أجل أن يُخيّر الشعب بين السيسي والإرهاب[1].
ولكن هذه الرواية، وإنْ استندت إلى ممارسات شبيهة قام بها النظام المصري، فإنها مستبعدة في الوقت الراهن، لأن الحادث يكذب مزاعم النظام حول نجاحه في القضاء على الإرهاب، قبل انتخابات الرئاسة المقبلة، ويضعه في حرج أمام أهم حلفائه، وهي الولايات المتحدة.
كما أن قيام النظام بهذا العمل لتخويف المصريّين من الإرهاب، يستدعي إعداد المشهد بكل تفاصيله، والتي تحتوي على البيان الرسمي، واتهام جماعة إرهابية، والحشد الإعلامي، والإجراءات القمعية، وخروج السيسي لمخاطبة الشعب، وهو ما لم يحدث.
الرواية الأقرب للحدوث
بعد استعراض الروايات المختلفة، لا يمكن ترجيح رواية على أخرى بنسبة مائة في المائة في ظِل الصمت الرسمي، والتعتيم الإعلامي، وغياب الوسائل الإعلامية والحقوقية المحايدة عن المشهد في سيناء، إلى جانب عدم وجود رواية من جانب الجماعات المسلحة، تتبنى فيها الأحداث وتذكر فيها تفاصيل الاشتباك مع قوات الأمن ونتائجه.
وعلى الرغم من التضارب بين الروايات المختلفة، فإن هذه الروايات يربط بينها رابط واحد، وهو أن جميعها يُسيء إلى النظام، لأنها تؤكد مجتمعة على وجود تقصير أمني، وربما تواطؤ من داخل المنظومة الأمنية، أدَّى إلى اختراق الإجراءات المشددة التي تتبع في هذه المنطقة الحصينة.
ولكن تظل الرواية الأولى هي الأقرب حتى الآن، وإلى أن يصدر بيان رسمي من الدولة أو من الجماعات المسلحة في سيناء، وذلك لأسباب عديدة، منها ما يلي:
- تحصين المكان وصعوبة الوصول إليه من جانب جماعة مسلحة تهاجمه من الخارج.
- التأكيد من جهات عديدة، منها جهات تابعة للنظام، على أن الحادث “أمني”، وليس “هجومًا” من خارج مقر الأمن الوطني.
- عدم تدخل الجيش المصري، رغم تواجده في محيط مقر الأمن الوطني، وتركه الأمر لرجال الأمن داخل مقرهم بالإضافة إلى قوات الأمن المركزي القريبة من المقر.
- الشهادات التي نقلت عن شهود عيان بأن الحادث لم تسبقة أي تحركات غير طبيعية بالمنطقة، تنذر بوجود هجوم من الخارج.
- الشهادات التي نقلت عن مصادر في سيناء بأن الحادث لم يؤدي إلى اتخاذ أي إجراءات استثنائية في محيط المكان بعد انتهائه.
- وجود سابقة للرواية الأولى، حينما أعلنت السلطات المصرية مقتل 4 سجناء محكوم عليهم بالإعدام إثر محاولتهم الهروب من سجن طرة بالقاهرة، ومقتل ضابطين ومجند أثناء التصدي لهم[1].
- عدم وجود روايات لشهود عيان أو دليل مادي على وجود هجوم من الخارج.
- وجود شهادات منقولة عن بعض أهالي المصابين تؤكد أن الحادث تمَّ من الداخل، وأن هناك تواطؤ أتاح لبعض المعتقلين الوصول إلى غرفة السلاح.
التفاعل الشعبي
حظي حادث الاشتباك داخل مقر الأمن الوطني بالعريش بمتابعة واسعة من جانب المصريّين الذين تفاعلوا مع الحدث على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، ولم يخرج تفاعل غالبيتهم عن الهجوم والسخرية وإطلاق الاتهامات.
فقد استنكر المصريون حالة الصمت الرسمي تجاه الحادث، واعتبروا عدم إصدار بيان رسمي يشرح لهم ما حدث في العريش نوعًا من “الاستهزاء” و”الاستخفاف” بالشعب، خاصَّة وأن خبر الحادث تمَّت تغطيته من جانب وسائل الإعلام الخارجية.
وعبَّر المواطنون عن غضبهم من الحادث وتعامل النظام معه بأساليب عديدة، منها ما يلي:
- مهاجمة السيسي، من خلال اقتران تعليقات بعض المصريّين على الخبر بوسوم من قبيل: “ارحل يا سيسي”، و”ضيعت البلد يا فاجر”، و”السيسي خربها”.
- السخرية من المؤسسة العسكرية، ممثلة في متحدثها العسكري، الذي لم يعلق على هجوم العريش، ونشر على صفحته الرسمية دعاية للمركز الطبي العالمي التابع للقوات المسلحة.
- مهاجمة الإعلام المصري واتهامه بالكذب، لعدم قيامه بدوره في إطلاع الشعب على ما يحدث في سيناء، وكأن هذا الشعب من “العبيد”، ولا يستحق أن يطلع على الأحداث.
- إظهار عدم الثقة في النظام، والشعور بأن هناك أمرًا مريبًا يرغب المسؤولون في التكتم عليه، خاصَّة وأن عدد القتلى والمصابين من رجال الأمن يدل على أن مواجهة عنيفة دارت داخل مقر الأمن الوطني.
- اتهام الحكومة بعدم الشفافية والتخبط، واتهام الداخلية والجيش بالضعف والتقصير أمام الجماعات المسلحة، والاستقواء على المواطنين.
ولكن المهم في متابعة الشعب المصري للحادث، هو الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة، والانتقال إلى قضايا أخرى تتولد عن الحادث الأصلي، وترتبط بالحالة العامة للوضع في مصر، ومنها:
- الالتفات إلى ما ورد في رواية هروب المعتقلين من مقر الأمن الوطني، حول صعود أحدهم إلى سطح المبنى، وعثوره على مدفع جرينوف والكثير من الذخيرة، فاستخدمه ضد العناصر الأمنية الموجودة في محيط المقر.
استنتج البعض من هذه المعلومة أن النظام يستعد بتسليح مقاره الأمنية في مختلف أنحاء البلاد بأسلحة ثقيلة وكميات كبيرة من الذخيرة ليواجه بها أيَّ حصار في حالة وقوع انفجار شعبي. وعلق البعض الآخر على ذلك بأن النظام يُعاني من حالة من “الذعر” و”الهلع” من أي احتمالية لخروج الشعب المصري عليه ومحاصرة مقراته الأمنية ومبانيه الحكومية كما حدث في يناير 2011.
- الحديث عن أن الجميع في مصر ضحايا للنظام “القمعي”، الذي يضع المعتقلين السياسيّين في مواجهة رجال الأمن، ليضطر البعض إلى استخدام السلاح للدفاع عن نفسه.
- تذكر الرئيس السابق محمد مرسي، والحديث عن أن الإرهاب الذي كان محتملًا في عهده صار حقيقة في عهد السيسي.
- الحديث عن استخدام الجيش للـ”بلطجة”، ممثلة في ميليشيات تستخدم كواجهة للجيش والمخابرات في الأعمال المشبوهة.
- التذكير بموت المعتقلين السياسيّين في السجون والمعتقلات، من خلال السخرية من تأخر بيان الداخلية عن الحادث، وأن الداخلية سوف تقول إن السبب في موت عناصرها في مقر الأمن الوطني بالعريش هو “هبوط في الدور الدموية”، كما تزعم في حالة موت المعتقلين.
- الإشارة إلى أن القتلى في صفوف الشرطة والجيش غالبًا ما يكونون من أبناء الفقراء، الذين يتم إرسالهم إلى الأماكن الخطيرة، مثل شمال سيناء.
التبعات السياسية
لا يمكن النظر إلى حادث الهجوم على مقر الأمن الوطني بالعريش على أنه مجرد حادث “أمني”، وحصره في إطار الخلل الأمني، الذي قد يصل إلى حد التواطؤ.
وسواء كان الهجوم من داخل المقر أو من خارجه، فإن توقيت الحادث والظروف المحيطة به من ناحيةٍ، ووضع السيسي ونظامه الحالي من ناحيةٍ أخرى، سوف يجعلان لهذا الهجوم تبعات سياسية، ليست في مصلحة النظام الذي يعاني من مشاكل عديدة. ومن هذه التبعات ما يلي:
- تسليط الضوء على الميليشيات التي يقودها إبراهيم العرجاني من أبناء القبائل في سيناء، والتي تشكلت تحت إشراف جهاز المخابرات والقوات المسلحة المصرية. وهو ما يُعرّض الدولة المصرية للخطر، ويتعارض مع ما يزعمه النظام عن إقامة “الجمهورية الجديدة”، لأن من شروط الدولة الحديثة أن يكون السلاح في يد جهة واحدة، هي قواتها المسلحة.
وقد قارن البعض بين هذه الميليشيات المسلحة وقوات الدعم السريع السودانية، ومجموعة فاغنر الروسية، واستشعروا الخطر على الدولة في حالة تنامي قوة هذه الميليشيات التي يمكن أن تتمرد على الدولة في المستقبل، وتدخلها في صراع مسلح، كما فعلت قوات الدعم السريع في السودان.
- التشكيك في قدرة النظام على حماية الأمن والقضاء على الإرهاب، وهو أحد الركائز التي استند إليها السيسي في تكوين حاضنة شعبية لانقلابه العسكري على الرئيس الشرعي، محمد مرسي.
فالحادث الذي وقع في أكثر أماكن سيناء تحصينًا، ينسف رواية السيسي حول نجاح نظامه في القضاء على الإرهاب بشكل كامل. كما أنه يفتح باب التساؤلات حول الثمن الفادح الذي دفعته البلاد من أرواح وأموال وتهجير مواطنين لتحقيق الأمن الذي تمَّ اختراقه من داخل أحد مقراته الحصينة.
إن تكرار حوادث الإرهاب يجرد السيسي من “شرعية التفويض” التي يتمسَّك بها، ويؤثر سلبيًّا على الدعايات التي تصوره كقائد أنقذ مصر من الإرهاب، في وقتٍ يستعد فيه لانتخابات رئاسية قريبة، يدخلها بحملة انتخابية تقوم على ركيزيتين: الأمن والإنجازات.
كما أنه يؤكد أن منطقة شمال سيناء سوف تظل منطقة صراع ومواجهات، وأن على الدولة أن تعيد النظر في استراتيجيتها لمواجهة الجماعات المسلحة، عبر مقاربات مختلفة، تحترم حقوق المواطن في سيناء التي أهدرت خلال المواجهة مع المسلحين، وتقضي على الأسباب التي تجعل من شمال سيناء بيئة خصبة لظهور الجماعات المسلحة، وفي صدارتها غياب التنمية.
- إحراج النظام أمام أهم حلفائه، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، التي تهتم بأمن شمال سيناء، كجزء من تأمين حدود إسرائيل.
فقد جاء حادث الهجوم على مقر الأمن الوطني بالعريش بعد يومين من زيارة قام بها قائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال مايكل كوريلا، لشمال سيناء، التقى خلالها بقائد الجيش الثاني الميداني، اللواء محمد ربيع، المكلف بملف مكافحة الإرهاب وطرد تنظيم داعش الإرهابي من صحراء سيناء.
لاشك أن الحادث سوف يُظهِر تقصير النظام المصري في أهم ملفات التعاون مع واشنطن، وسوف يزيد من مخاوف الولايات المتحدة التي ركزت في زيارة كوريلا على الأمور الأمنية المشتركة، بما في ذلك أمن الحدود مع إسرائيل، وهو أمر له الأولوية دائمًا بالنسبة للإدارة الأمريكية في علاقاتها مع الجيش المصري[1].
- تكريس حالة الفشل التي يُعاني منها النظام في الفترة الأخيرة، على جميع المستويات، بعد أن يُضاف الفشل الأمني إلى الفشل الاقتصادي وحالة الاستبداد السياسي.
فحادث الهجوم على مقر الأمن الوطني يتزامن مع أزمة خانقة في الكهرباء، وأزمة أخرى في العملة الصعبة، وهما أزمتان أظهرتا عجز النظام عن إيجاد حلول حقيقية لمشاكله، الأمر الذي اضطره إلى القيام بإجراءات مثيرة للجدل، مثل قطع الكهرباء لتوفير الغاز وتصديره، والإعفاء من الخدمة العسكرية في مقابل بدل مادي بالدولار.
وبذلك يفقد السيسي الركيزة الثانية في الدعاية لنظامه، وهي الإنجازات، وهو ما يصعب من عملية الدعاية له على أساس توفير الأمن وتحقيق الإنجازات.
خاتمة
أتاح غياب الرواية الرسمية لأحداث الهجوم على مقر الأمن الوطني بالعريش الفرصة لظهور روايات عديدة، لكل منها نصيب من المصداقية والقبول، على ضوء ممارسات النظام السابقة والشهادات المتضاربة. ولكن كثرة الثغرات في هذه الروايات، وغياب المعلومات الصادرة عن جهات محايدة وموثوقة، يدفعانا إلى القبول بالرواية الأقرب للحدوث في ظِل المعطيات المتوفرة، وهي وقوع الهجوم من داخل مقر الأمن الوطني.
وبغض النظر عن طبيعة الهجوم، وهل هو من داخل المقر أم من خارجه، فإن الحادث يدل على وجود خلل أمني، كان من نتيجته مقتل وإصابة ما يقرب من 30 فردًا من رجال الأمن، وقد يصل هذا الخلل إلى حد التواطؤ مع المعتقلين الذين لا يُعرَف حتى الآن الجهة التي ينتمون إليها.
وقد أظهر التعامل الشعبي مع الهجوم مدى انعدام الثقة في النظام من جانب المواطنين الذين تفاعلوا مع الحادث، وعَبَّروا عن غضبهم من طريقة تعامل النظام معه، وانتقدوا فشله الذي طال جميع المجالات.
ومهما يكن مضمون البيان الرسمي المنتظر، والذي لم يصدر من جانب النظام المصري حتى الآن، فإن هذا النظام يتحمل المسؤولية السياسية عن هذا الحادث، الذي سوف تكون له تبعات تنفي مزاعم النظام حول تأسيس الجمهورية الجديدة، وتحقيق الأمن والقضاء على الإرهاب، وتُضعِف موقفه أمام الولايات المتحدة كنظام قوي وقادر على فرض الأمن على الحدود مع إسرائيل، وتكرس حالة الفشل الذي أظهره في جميع المجالات.