تقدير موقف

“الشراكة الاستراتيجية” بين مصر والاتحاد الأوروبي وأثرها على المسار الديمقراطي وحقوق الإنسان

للتحميل والقراءة بصيغة PDF

ملخص تنفيذي

أعلنت مصر والاتحاد الأوروبي الاتفاق على رفع مستوى العلاقة بينهما إلى “شراكة استراتيجية شاملة”، من خلال محاور تعاون متعددة، سياسية واقتصادية وتجارية واستثمارية، بالإضافة إلى قضايا المياه والهجرة والأمن والتعليم والتدريب. ويقترن الاتفاق بوعود بتقديم مساعدات مالية تصل إلى 7.4 مليار يورو، لمساعدة الاقتصاد المصري الذي يُعاني من أزمة نقد أجنبي.

جاء الاتفاق في سياق متغيرات سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية تشهدها مصر والمنطقة والعالم، دفعت الطرفين إلى التوافق من أجل حماية مصالحهما.

فعلى المستوى المحلي، جاء الاتفاق ليساعد مصر في أزمتها الاقتصادية، ودعم استقرار النظام فيها، في مقابل تعاونها في محاصرة أزمة الهجرة غير الشرعية، التي تواجه الدول الأوروبية المقبلة على انتخابات البرلمان الأوروبي في ظِل توقعات بتقدم اليمين المتطرف.

وعلى المستوى الإقليمي، يأتي الاتفاق لدعم استقرار الأمن الإقليمي، من خلال دعم أنظمة المنطقة المُهدَّدة بمواجهة اضطرابات في حال اتسعت رقعة الصراع الحالي في غزة.

وعلى المستوى الدولي، يمكن النظر إلى الاتفاق على أنه جزء من حالة الاستقطاب الدولي التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية، ومحاولة لقطع الطريق على تمدد النفوذ الروسي.

لم يكن الاتفاق هو الأول من نوعه بين أوروبا والدول العربية، فقد سبقه اتفاقان شبيهان مع تونس وموريتانيا، أثارا جدلًا بسبب التعاون مع حكومات غير ديمقراطية وتقديم أموال لها.

خلا اتفاق الشراكة مع مصر من أيّ شروط تقيّد التعاون الواسع النطاق وتربط المساعدات المالية الكبيرة بحدوث تقدم في مسار الانتقال الديمقراطي، وتحسين حقوق الإنسان.

تعرَّض الاتفاق لانتقادات كثيرة من البرلمان الأوروبي ومنظمات حقوق إنسان مصرية وإقليمية ودولية، واعتبر مكافأة للنظام المصري على انتهاكاته الحقوقية واستبداده السياسي، وصفقة في مقابل التعاون في موضوع الهجرة.

لم تمنع الانتقادات التي أحاطت بالاتفاق الاتحادَ الأوروبي من توقيعه، لوجود توافق بين الاتحاد والنظام المصري على تقديم المصلحة على أي اعتبار آخر، وهو ما يُواجَه بانتقاد داخل البرلمان الأوروبي الذي لا يملك القدرة على إنفاذ توصياته.

لا يوجد تغيُّر في مواقف الأطراف الفاعلة في ملف حقوق الإنسان في مصر، بعد توقيع اتفاق الشراكة، الأمر الذي يُرجِّح عدم حدوث تغيُّر جوهري أو ملحوظ في المرحلة المقبلة.

مقدمة

شهدت العلاقات المصرية الأوروبية نقلة جديدة في سبيل تعميق التعاون المشترك، من خلال اتفاق لرفع مستوى العلاقات إلى “شراكة استراتيجية شاملة”، مصحوب ببرنامج لتقديم مساعدات مادية كبيرة لمصر، على هامش قمَّة جمعت رأس النظام المصري، عبدالفتاح السيسي، بخمسة من قادة الدول الأوروبية، هي بلجيكا والنمسا وإيطاليا واليونان وقبرص، بالإضافة إلى رئيسة المفوضية الأوروبية، أرسولا فون دير لين.

تعرَّض الاتفاق لموجة من الانتقادات، بسبب اقترانه بحزمة كبيرة من المساعدات المالية، عُدَّت مساعدة غير مشروطة للنظام المصري، رغم سِجله السيء في مجال حقوق الإنسان.

تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على محاور الاتفاق، والسياقات المحلية والإقليمية والدولية التي عجَّلت به، خاصَّة وأنه الثالث من نوعه بعد اتفاقان شبيهان مع تونس وموريتانيا، والانتقادات الموجَّهة للاتفاق، ومواقف الأطراف الفاعلة، للوصول إلى مآلاته وآثاره.

اتفاق “الشراكة الاستراتيجية”

أعلنت مصر والاتحاد الأوروبي، في 17 مارس 2024م، عن ترفيع مستوى العلاقات بين الطرفين إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية والشاملة”. وقد اشتمل الإعلان على محاور الشراكة والتعاون[1]، وهي:

  • العلاقات السياسية: العمل على صياغة برنامج عمل إيجابي، وتنفيذه، لتحقيق الرخاء والاستقرار المشترك، ومواصلة العمل على الالتزامات بتعزيز الديمقراطية، والحريات الأساسية، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، وتكافؤ الفرص.
  • الاستقرار الاقتصادي: التأكيد على دعم أجندة التنمية المصرية لعام 2030، لضمان استقرار الاقتصاد المصري الكلي على المدى الطويل والنمو الاقتصادي المستدام.
  • الاستثمارات: الالتزام بتعزيز مجالات التعاون في قطاعات متعددة للاقتصاد الحديث، بما في ذلك الطاقة المتجددة، والتصنيع المتقدم، والزراعة، والأمن الغذائي.
  • التجارة: مراجعة وتحديث اتفاقيات الشراكة لتوائم التحديات المعاصرة.
  • قضايا المياه: تعزيز التعاون في إدارة مستدامة للمياه، ودعم الأمن المائي في مصر، والامتثال للقانون الدولي، مع التأكيد على مبدأ “عدم الإضرار”.
  • الهجرة والتنقل: مساعدة مصر في البرامج المتعلقة بالهجرة واستضافة اللاجئين، ومعالجة أسباب الهجرة، ومكافحة تهريب المهاجرين والاتجار في البشر، وتعزيز إدارة الحدود.
  • الأمن: تعميق التعاون من خلال الحوار بشأن مكافحة الإرهاب، وتعزيز هذا الحوار في مجال منع التهديدات والتحديات الأمنية ومكافحتها.
  • الديموغرافيا ورأس المال البشري: دعم مصر في مجالات التعليم الفني والمهني والتدريب.

وبالتزامن مع توقيع اتفاق الشراكة، تمَّ الإعلان عن حزمة مساعدات مالية سوف تقدم من الاتحاد الأوروبي لمصر، تبلغ 7.4 مليار يورو، تشمل مكونات رئيسة، هي: القروض المُيسَّرة، وضمانات الاستثمار، والمنح الخاصَّة بالدعم الفني لتنفيذ مشروعات التعاون الثنائي، وعلى رأسها محاربة الهجرة بشكل مباشر[2].

لم يكن هذا الاتفاق هو الأول من نوعه في اتفاقيات الشراكة الشاملة بين مصر والاتحاد الأوروبي؛ فقد سبق للقاهرة أن انضمت إلى اتفاقات مثل الشراكة الأورومتوسطية، في 2003، والذي تميَّز بشمولية أكبر من اتفاق الشراكة الأخير، ونصَّ على تفصيلات كثيرة في طبيعة العلاقات السياسية والتزامات تعزيز الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

سياق اتفاق الشراكة

جاء توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين مصر والاتحاد الأوروبي، وتقديم حزمة المساعدات المالية الكبيرة، في سياق متغيرات سياسية وعسكرية واقتصادية وأمنية، على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، دفعت الطرفين إلى التوافق من أجل حماية مصالح كلٍّ منهما.

فعلى المستوى المحلي، تعاني مصر من أزمة اقتصادية كبيرة ومشكلة في النقد الأجنبي، اضطرتها إلى اتخاذ قرارات مثل تخفيض قيمة العملة، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد معدلات التضخم وارتفاع الأسعار، وهو ما يزيد من رقعة السخط الشعبي على النظام الحاكم، مما ينذر بانفجار قد يؤدي إلى اضطراب الوضع في مصر.

هذا الاضطراب المحتمل، لن تنحصر تبعاته داخل حدود الدولة المصرية، وإنما سوف تمتد إلى أوروبا، التي سوف تستقبل مهاجرين مصريّين وغير مصريّين، من المقيمين على الأراضي المصرية، أو من العابرين إلى ليبيا من خلال الحدود المصرية، وهو ما يُفاقم أزمة الهجرة في الاتحاد الأوروبي، المقبل على انتخابات لبرلمانه بعد ثلاثة أشهر، في ظِل توقعات بتقدم الأحزاب اليمينة والقومية المتطرفة، التي تضع قضية الهجرة في مقدمة أولوياتها.

ولهذا يسعى الاتحاد الأوروبي من خلال الشراكة والدعم المالي إلى تجنب عدم الاستقرار في مصر، التي شكَّل مواطنوها أكبر مجموعة من المهاجرين غير الشرعيّين إلى أوروبا في 2022، وتستضيف 9 ملايين مهاجر ولاجئ، تعد الهجرة إلى أوروبا هدفًا بالنسبة لكثير منهم. 

وعلى المستوى الإقليمي، تشهد منطقة الشرق الأوسط حربًا في قطاع غزة، عززت من احتمالية حدوث حِراك شعبي عربي جديد، بسبب الغضب من العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيّين، وضعف مواقف الحكومات العربية، ودعم الحكومات الغربية غير المحدود للاحتلال، وهو ما يمكن أن يُدخِل المنطقة في موجة جديدة من موجات الربيع العربي، تهدد استقرار الأنظمة الاستبدادية التي يفضل الغرب التعامل معها، وهو ما سوف يؤثر سلبًا على مصالحه.

ولهذا فإن الدعم الغربي لاستقرار الأنظمة الحليفة، ومنها النظام المصري، مهم في هذا التوقيت. خاصَّة وأن موقف النظام المصري من المقاومة والحرب يتماهى مع الموقف الأوروبي، المعادي للمقاومة المسلحة، والداعي للعودة إلى المسار السياسي، من خلال حل الدولتين، بعد إنهاء الحرب قبل أن تتحول إلى صراع إقليمي شامل.

وعلى المستوى الدولي، يتصاعد التوتر في أوروبا بسبب الحرب بين روسيا وأكرانيا، ووَصَل التصعيد إلى حد الحديث عن احتمالية نشوب حرب عالمية ثالثة، بعد أن تتحوَّل الحرب إلى صراع شامل مع حلف الأطلسي، إذا أقدمت أوروبا على إرسال قوات إلى أوكرانيا.

ومع تصاعد التوتر، تتصاعد حالة الاستقطاب الدولي بين روسيا والغرب، حيث يحاول الروس التواجد في بلدان محسوبة على المعسكر الغربي، من خلال العلاقات السياسية والعسكرية، لتطويق جنوب أوروبا، من خلال التواجد في شمال إفريقيا، ومناطق النفوذ الغربي، في دول الساحل الإفريقي، وهو ما يواجهه الغرب بتوثيق علاقاته مع الدول الحليفة.

وفي هذا السياق، أكدت الألمانية “فيكتوريا ريتيغ”، خبيرة السياسية الخارجية، أنه “إذا لم تتعاون أوروبا مع مصر فسيكون هناك فراغ جيوسياسي، ستملأه روسيا والصين”[3].

الاتفاقات المثيلة مع الدول العربية

يُعد اتفاق الشراكة المصرية الأوروبية الثالث في سلسلة اتفاقات مثيلة، وقعها الاتحاد الأوروبي مع دول عربية إفريقية، شملت تونس وموريتانيا.

فقد وقعت تونس على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة في يوليو 2023، وتشمل مجالات الهجرة والاقتصاد الكلي والزراعة والتجارة والاستثمار والطاقة والانتقال الرقمي والنقل الجوي[4]. واقترنت الاتفاقية بالإعلان عن استعداد الاتحاد الأوروبي لتقديم حزمة مساعدات مالية، تصل إلى 900 مليون يورو، لدعم الاقتصاد التونسي المتدهور، وتقديم دعم فوري يقدر بـ150 مليون يورو، و100 مليون يورو أخرى لإدارة الحدود ومكافحة التهريب والهجرة غير الشرعية.

وُجِّهت انتقادات شديدة من جانب البرلمان الأوروبي للاتفاق التونسي الأوروبي، واعتبر مكافأة أوروبية للتحول الاستبدادي في تونس[5].

أما موريتانيا، فقد وقعت مع الاتحاد الأوروبي، في فبراير 2024، على اتفاق لمحاربة الهجرة غير النظامية، وهو ما اعتبره متابعون مقدمة لإعلان تعاون مشترك بين الطرفين[6]. واقترن الاتفاق بمساعدات مالية تقدر بـ200 مليون يورو.

وفي 7 مارس 2024، وقع الطرفان على إعلان مشترك للتعاون، يشكل إطارًا للدفع بالشراكة الاستراتيجية، التي تشمل مكونات اقتصادية ودبلوماسية وأمنية[7].

اعتبر البعض الاتفاق الموريتاني الأوروبي “صفقة” لتوطين المهاجرين في موريتانيا في مقابل المساعدات المالية، وعَبَّر متابعون موريتانيون عن مخاوفهم من جعل بلادهم أرضًا لاستقبال وتوطين المهاجرين الذين ترفضهم أوروبا.

المشترك بين الاتفاقات المثيلة

تتشابه الاتفاقيات التي وقعها الاتحاد الأوروبي مع كلٍّ من تونس وموريتانيا مع الاتفاق الموقع مع مصر من عدة أوجه، منها:

  • تعدد مجالات الشراكة، واقترانها بحزمة مساعدات مالية، تساعد في دعم الاقتصادات الضعيفة لهذه الدول، وهو ما يمكن أن يساعد في استقرار أنظمتها.
  • دعم أنظمة الدول الثلاثة في إطار التحولات السياسية والأمنية والعسكرية التي تشهدها منطقة شمال إفريقيا والصحراء، والتي تعد ساحة لصراع نفوذ بين القوى الكبرى.
  • الاهتمام بقضية الهجرة، من خلال تأهيل الدول الثلاث للعب دور في حراسة الحدود الأوروبية، عبر منع المهاجرين، واستيعاب المهاجرين المُرحَّلين من أوروبا على أراضيها، في إطار اتجاه أوروبي لاعتبار دول من خارج الاتحاد مناطق آمنة يمكن نقل المهاجرين واللاجئين الذين لا يتم قبول طلباتهم إليها[8].
  • استغلال الاتحاد الأوروبي الأزمات الاقتصادية في الدول الثلاث من أجل دفعها إلى الموافقة على التعاون في ملف الهجرة، الأمر الذي يمكن أن يُعرّض أمنها القومي للخطر[9].  
  • عدم وجود اشتراطات تقيّد التعاون المشترك بالتقدم في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وحقوق الإنسان.
  • وجود شكوك حول حسن تصرف حكومات الدول الثلاث في الأموال المقدمة لها في تحسين الأوضاع الاقتصادية، بما ينعكس على حياة مواطنيها.
  • كثرة الانتقادات التي وُجِّهت إلى الاتفاقات، من جانب منظمات حقوقية وكيانات سياسية، سواء قبل توقيع هذه الاتفاقات أو بعده، وسواء من داخل أوروبا أو من داخل البلاد الثلاثة.
  • عدم اكتراث الاتحاد الأوروبي بالانتقادات التي وُجِّهت إلى الاتفاقات مع الدول الثلاث، ومُضيّه في التوقيع، رعايةً لمصالحه.

غير أن هناك بُعدًا آخر وأكثر خطورة في الحالة المصرية، وهو أثر اتفاق الشراكة وحاجة النظام المصري إلى المساعدات المالية على القرار المصري، خاصَّة وأن موقع مصر وثقلها الإقليمي يجعلانها حاضرة في كثير من الملفات المهمة في المنطقة، وعلى رأسها ملف القضية الفلسطينية، حيث يمكن استخدام المساعدات المالية في التأثير على موقف مصر من أمور مثل السماح بهجرة فلسطينيّين من قطاع غزة إلى سيناء، وهو أمر ترفضه مصر رسميًّا حتى الآن، ولكن يمكن أن تغير موقفها مستقبلًا في ظِل الإغراءات المالية الأوروبية.

اتفاق الشراكة والملف الحقوقي

تَصدَّر المحور السياسي مجالات التعاون التي وردت في إعلان اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة، حيث وردت الإشارة في جزءٍ منه إلى ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، من خلال النصِّ على أن مصر والاتحاد الأوروبي سيواصلان العمل على التزاماتهما لمواصلة تعزيز الديمقراطية والحريات الأساسية وحقوق الإنسان.

كذلك، أبدى الاتحاد الأوروبي استعداده لمساعدة مصر في تنفيذ استراتيجيتها الوطنية لحقوق الإنسان[10]، التي أعلنت في 2021.

ولكن ما ورد في المحور السياسي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان لا يَعدو أن يكون إطارًا عامًّا، لا يوضح طبيعة الالتزام الأوروبي بتعزيز الديمقراطية والحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وكيفية تنفيذ هذا الالتزام، ولا يقترن بشروط تُقيّد الاستمرار في التعاون مع الجانب المصري أو تتيح حجب المساعدات المالية في حالة عدم استجابة الحكومة المصرية.

كما أن هذا المحور يتماهى مع محاولات النظام المصري لتحسين صورته أمام المنظمات الحقوقية الدولية وجماعات الضغط التي تنتقد سِجله الحقوقي وتمثل انتقاداتها حرجًا للقوى الدولية القادرة على الضغط عليه، وهي الدول الأوروبية والولايات المتحدة؛ لأنه يتحدث عن “تعزيز الديمقراطية”، على اعتبار أن هناك مسار ديمقراطي بالفعل، ويحتاج إلى التعزيز. ويتحدث أيضًا عن تنفيذ “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”، التي لم يتحقق منها شيءٌ على أرض الواقع، وكأنها آليَّة حقيقية، يهتم النظام بتنفيذها، ويستحق المساعدة في سبيل هذا التنفيذ.

وأغلب الظن أن تصدير إعلان الشراكة الاستراتيجية بالحديث العام عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، والذي لا يُلزِم أوروبا بإلزامات محددة وواضحة، ولا يُقيّد التعاون مع مصر بشروط واجبة، إنما جاء لأسباب، منها ما يلي:

  • تجنب الانتقادات التي وُجِّهت للاتحاد الأوروبي بعد التوقيع على اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع تونس، والذي خلا من محور سياسي، يتحدث عن الإصلاح السياسي، والديمقراطية، وحقوق الإنسان.
  • محاولة إرضاء الجهات الأوروبية الرافضة للتعاون مع نظام استبدادي ومساعدته ماليًّا، وعلى رأسها البرلمان الأوروبي، الذي رأى أعضاءٌ منه أن الدعم الأوروبي لنظام السيسي هو مكافأة له على القمع “المريع” الذي يقوم به، وشنت مجموعة من لجان حقوق الإنسان والعدالة والشؤون الخارجية فيه هجومًا لاذعًا على السلطة التنفيذية، قبل الإعلان عن الاتفاق[11].
  • الرد على الهجوم الذي يُوجَّه إلى الاتفاق، ومنه هجوم المعارضة الإيطالية التي هاجمت مشاركة رئيسة الوزراء “جورجا ميلوني” في تدشين الاتفاق، واتهمت الحكومة المصرية بعدم احترام حقوق الإنسان، وعرقلة العدالة في قضية قتل الباحث جوليو ريجيني.
  • الإيهام بالاستجابة للمنظمات الحقوقية التي ناشدت الاتحاد الأوروبي برعاية ملف حقوق الإنسان قبل توقيع الاتفاق مع مصر، وعلى رأسها “منظمة العفو الدولية”، التي دعت جميع القادة الأوربيّين إلى ضمان أن يكون احترام حقوق الإنسان في قلب جميع علاقات التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومصر[12].

انتقاد اتفاق الشراكة

أثار اتفاق الشراكة المصري الأوروبي انتقاد جهات عديدة، منها الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق إنسان مصرية وإقليمية ودولية، والتي تمثل موقفها من الاتفاق فيما يلي:

  • الاتفاق جزء من صفقات مع دول لا تولي أهمية للديمقراطية وسيادة القانون.
  • المساعدات المالية الضخمة تمويل للطغاة وأنظمتهم الاستبدادية.
  • الاتحاد الأوروبي يرتكب خطأ استراتيجيًّا وسياسيًّا بالاتفاق مع القاهرة.
  • الاتفاق يخلو من شروط واضحة حول ملف حقوق الإنسان والالتزام بالديمقراطية.
  • الاتحاد لم يضع شروطًا تنطوي على رقابة ماليَّة كافية.
  • الاتفاق لا يشتمل على مسؤولية مصر بشأن الأموال التي سوف تتلقاها.
  • الاعتراض على منح الأموال الأوروبية للدول بلا مقابل، وبأعين مغمضة.
  • رفض الخضوع للابتزاز المصري بالتهديد بإرسال اللاجئين لأوروبا.
  • ضرورة وجود ضمانات لاتباع الإجراءات الديمقراطية قبل صرف الأموال.
  • التأكد من أن أموال دافعي الضرائب الأوروبيّين تعود بالنفع الحقيقي عليهم.

 وقد رد الاتحاد الأوروبي على الانتقادات الموجهة إليه، من خلال المتحدث باسم مفوضية الاتحاد الأوروبي، الذي أكد على ما يلي:

  • بناء شراكات لتحسين الديمقراطية وحقوق الإنسان أفضل من قطع العلاقات.
  • ضرورة العمل مع الدول المجاورة، مع الأخذ في الاعتبار الحقائق على الأرض.
  • الاتحاد الأوروبي يعرف الانتقادات المتعلقة بحقوق الإنسان.
  • هناك آليَّات محددة لمناقشة حقوق الإنسان[13]

وكما يبدو من رد المتحدث باسم المفوضية، فإن الاتحاد الأوروبي يتعامل مع الأمر الواقع، ولن يثنيه سوء هذا الواقع ولا انتفادات أعضاء البرلمان الأوروبي والمنظمات الحقوقية عن الاستمرار في التعاون مع الأنظمة المتسببة فيه، وفق آليَّاته التي لم تحقق تغييرًا ملموسًا في الحالة الحقوقية من قبل.

الاتفاق ومواقف الأطراف الفاعلة

لمعرفة الأثر المحتمل لاتفاق الشراكة الاستراتيجية المصري الأوروبي على ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، لابد أن نعرف طبيعة العلاقة بين الأطراف الفاعلة ذات الصلة بهذا الملف، على مستوى العلاقة بين مصر والدول الأوروبية.

هذه الأطراف هي النظام المصري، وهو نظام استبدادي وصاحب سِجل سيء في مجال حقوق الإنسان، ولكنه ناجح حتى الآن في مقاومة الضغوط التي يَتعرَّض لها من الخارج لتحسين الحالة الحقوقية وإحداث إصلاح سياسي، وذلك من خلال ما يلي:

  • إنكار وجود انتهاكات حقوقية في مصر، والادعاء بأن أيَّ إجراء هو تحت مظلة القانون، ولا يدخل في دائرة الانتهاكات.
  • ادعاء وجود تجربة ديمقراطية تعددية، من خلال انتخابات رئاسية وبرلمانية صورية.
  • ادعاء وجود مسار إصلاحي، من خلال إطلاق “الحوار الوطني”، في 2022، تحت عنوان تأسيس “جمهورية جديدة”.
  • ادعاء وجود تحسُّن في حقوق الإنسان، من خلال مبادرات، مثل “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، و”لجنة العفو الرئاسي” المختصة بالإفراج عن المعتقلين.
  • تخويف الشركاء في الخارج من المد الإسلامي والإرهاب، واستغلال ذلك في التمادي في انتهاك حقوق الإنسان.
  • إرضاء الغرب من خلال الإفراج عن بعض المنتمين إلى تيارات تحظى باهتمامه، وتشريع قوانين واتخاذ إجراءات تتوافق مع مفاهيم غربية لحقوق الإنسان، مثل حقوق المرأة.
  • كسب تأييد الدول الغربية المهمة داخل الاتحاد الأوروبي من خلال تمكينها من الحصول على مكاسب وامتيازات ضخمة على حساب المصلحة المصرية.

هذه الاستراتيجية التي يتبعها النظام المصري، تُرضِي الحكومات الغربية، وترفع عنها بعض الحرج في مواجهة الانتقادات التي تُوجَّه إليها بسبب التعاون معه.

الطرف الثاني هو الاتحاد الأوروبي، على مستوى التعاون الجماعي مع مصر، والدول الأوروبية، على مستوى التعاون الثنائي. وهذا الطرف يقدم المصلحة العامَّة والفردية على أيّ اعتبارات أخرى.

فعلى المستوى الجماعي، يَرى الاتحاد الأوروبي أن لمصر الآن أهمية جيوستراتيجية كبيرة؛ لأنها تلعب دورًا لا يمكن الاستغناء عنه فيما يتعلق بالأمن والاستقرار في المنطقة، حسب ما أكدته رئيس المفوضية الأوروبية.

ولهذا فإن الدعم الأوروبي لمصر يستهدف ضمان استقرار مصر، ليَصب في النهاية في مصلحة دول الاتحاد التي ترى أن أهدافها تتحقق عن طريق نظام استبدادي يستخدم وسائل عسكرية وأمنية، ولا يهتم كثيرًا بمسألة حقوق الإنسان.

وعلى المستوى الثنائي، ربط النظام المصري علاقته مع الدول الأوروبية برباط المصالح، وهو ما حدث مع فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ودول أخرى.

ولعل وجود رئيسة الوزراء الإيطالية في القاهرة، للإعلان عن اتفاق الشراكة، دليل على ذلك، فقد شاركت في تقديم الدعم لنظام السيسي في الوقت الذي يُعاد فيه فتح ملف قضية الباحث الإيطالي “جوليو ريجيني”، الذي قتل تحت تعذيب الأمن المصري.

أما الطرف الثالث، فهو البرلمان الأوروبي، الذي يتعاطف مع الملف الحقوقي المصري، ودخل في خلافات كثيرة مع النظام المصري بسبب الحريات وحقوق الإنسان. ولكن دور البرلمان يقتصر على تقديم الاستشارات أو التوصيات؛ خاصَّة في قضايا السياسة الخارجية، مع قرارات يتخذها بهذا الشأن توصف بأنها “غير ملزمة”[14].

وبناءً عليه، فنحن أمام معادلة تتكون من طرفين قادرين على إنفاذ قراراتهما، ويقدمان المصلحة على حقوق الإنسان، في مقابل طرف ثالث يهتم بالشأن الحقوقي، ولكنه عاجز عن إنفاذ قراراته، وهو ما يُرجّح كفة المصلحة على حقوق الإنسان.

مآلات اتفاق الشراكة وآثاره

ثمَّة مآلات ثلاثة يمكن أن يؤول إليها الموقف الغربي من حقوق الإنسان في مصر، بتأثيرٍ من اتفاق الشراكة الاستراتيجية، وهي:

  1. التأثير الإيجابي، من خلال الضغط على مصر بحزمة المساعدات، من أجل تعديل سلوكها الحقوقي وإطلاق الحريات، واستجابة النظام المصري لهذه الضغوط.
  2. التأثير السلبي، من خلال تجنب الصدام مع النظام المصري، واستغلال النظام للدعم الغربي في ارتكاب مزيد من الانتهاكات الحقوقية.
  3. بقاء الوضع على ما هو عليه، من خلال الرضا بالمبادرات والإجراءات الشكلية التي يقوم بها النظام المصري، واعتبارها دليلًا على مساعيه للإصلاح، والاحتجاج بها أمام الجهات الرافضة للتعاون معه، واستمرار النظام في سياساته المقيدة للحريات والمنتهكة للحقوق بنفس الوتيرة الحالية.

لم يتغير شيءٌ في أوضاع أطراف المعادلة ذات الصلة باتفاق الشراكة الاستراتيجية ومواقفها من حقوق الإنسان، ولا يوجد في إعلان الاتفاق على الشراكة الاستراتيجية ما يشير إلى حدوث هذا التغيير، ما يجعلنا نذهب إلى ترجيح المآل الثالث، وهو بقاء الوضع على ما هو عليه.

ولعل قرار إغلاق ملف قضية التمويل الأجنبي، بحفظ التحقيق مع 5 مراكز حقوقية، بعد 13 عامًا، وإلغاء قرارات المنع من السفر والتحفظ على أموال حقوقيّين[15]، وقرار الإفراج عن صحفيي الجزيرة: ربيع الشيخ وبهاء إبراهيم[16]، اللذان صدرا بعد أيام من الإعلان عن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، يأتيان في إطار المآل الثالث.

فهما صورة من صور المبادرات والإجراءات الشكلية التي تُرضِي الغرب، ولكنها لا تغيّر شيئًا على أرض الواقع؛ لأن إغلاق ملف القضية لا يُعالِج جذور المشكلة، وهي القمع الحكومي الممنهج لمنظمات المجتمع المدني، وتقليص مساحة المجال العام، في ظِل قانون تنظيم عمل المنظمات غير الحكومية، لعام 2017، الذي يتيح مستويات غير مسبوقة من القمع، ويُجرّم عمل كثير من المنظمات غير الحكومية، ما يجعل عملها المستقل مستحيلًا.

كذلك، فإن الإفراج عن معتقل بعد سنوات من الحبس الاحتياطي، كما حدث مع صحفيي الجزيرة، يقابله اعتقال آخرين، لتظل مشكلة عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيّين والمعتقلين على ذمة قضايا الرأي، في ظِل حبس احتياطي تعسفي مطول، دون تقديم أدلة على ارتكابهم مخالفات، لمجرد ممارستهم حقهم في التجمع وحرية التعبير.

التقدير

من غير المتوقع أن يُحدِث اتفاق “الشراكة الاستراتيجية والشاملة” تغييرًا جوهريًّا أو ملحوظًا في مواقف النظام المصري والاتحاد الأوروبي من أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وهو ما حدث بعد اتفاقيات سابقة، مثل اتفاق الشراكة الأورومتوسطية، الذي انضمت إليه مصر، وكان يولي أهمية أكبر للجانب السياسي ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولكن إدراك النظام لحاجة الغرب إليه في المرحلة الراهنة، يمكن أن يمنحه نوعًا من الطمأنينة في ممارساته لمواجهة أيّ صعوبات بسبب الأزمات التي تواجهه، وهو الأمر المعتاد في مصر الآن، بسبب السياسة الأمنية المتبعة.

وينسحب هذا الحكم على باقي الدول التي وقعت أو في سبيلها للتوقع مستقبلًا على اتفاقات مثيلة، سوف تؤدي إلى مساعدتها اقتصاديًّا، في سبيل الوصول إلى حالة من الاستقرار. 

ومع ذلك، يمكن الاستفادة من الانتقادات التي توجَّه للاتحاد الأوروبي من جانب البرلمان الأوروبي والمنظمات الحقوقية، في الحصول على أقصى ما يمكن الحصول عليه لمصلحة تحسين الوضع الحقوقي في مصر والدول الأخرى، ومنع أنظمتها من التمادي في ممارساتها، بفعل الدعم الأوروبي لها.

خاتمة

لم يكن اتفاق “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” هو أول اتفاق شامل بين مصر والاتحاد الأوروبي، ولكن هذا الاتفاق يأتي في ظروف مغايرة، جعلت البحث عن المصلحة المشتركة مقدمًا على أيّ شيءٍ آخر. ولهذا فإن خلو الاتفاق من ضمانات بشأن الانتقال الديمقراطي والحريات وحقوق الإنسان أمر طبيعي، في وقت داست فيه الدول الأوروبية على كثير من القِيم في تعاملها مع شعوبها بعد الحرب في غزة، التي أظهرت زيف التمسُّك بهذه القيم وسهولة التضحية بها إذا تعارضت مع مصالح هذه الدول.

وإذا كان الاتفاق المصري الأوروبي وأمثاله يعملون على تدعيم استقرار أنظمة استبدادية في المنطقة، على رأسها النظام المصري، فإنه من غير المنتظر أن يُحدِث تغييرًا سلبيًّا في الوضع الراهن، الذي وصل إلى أسوأ حالاته، أو تغييرًا إيجابيًّا، لأن التغيير الإيجابي سوف يصب في مصلحة الشعوب العربية، التي سوف تمتلك حرية رفض الممارسات الغربية في المنطقة، وهو ما يتعارض مع مصالح الدول الأوروبية التي تريد أنظمة استبدادية تحافظ لها على مصالحها، بما تملكه هذه الأنظمة من قدرات قمعية.

ولكن هذا لا يمنع من وجود فرصة للضغط على الاتحاد الأوروبي، عبر الجهات التي تمتلك القدرة على الضغط عليه، لتقييد دعمه لهذه الأنظمة.


[1] – بوابة الأهرام، مصر والاتحاد الأوروبي يتفقان على الارتقاء بالعلاقة لمستوى الشراكة الاستراتيجية، 17 مارس 2024، الرابط

[2] – The Times, EU seeks to strike its own ‘stop the boats’ deal with Egypt, 18-03-2024, Link

[3] – DW عربي، مصر والاتحاد الأوروبي.. اتفاقية هجرة ذات أبعاد جيوسياسية!، 19 مارس 2024، الرابط

[4] – وكالة الأناضول، تونس والاتحاد الأوروبي.. أهم بنود مذكرة “الشراكة الشاملة”، 20 يوليو 2023، الرابط

[5] – The Guardian, European Commission accused of ‘bankrolling dictators’ by MEPs,13-03-2024, Link

[6] – صحيفة العرب، اتفاق الهجرة مقدمة لشراكة واعدة بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي، 9 مارس 2024، الرابط

[7] – وكالة الأنباء الموريتانية، التوقيع على إعلان مشترك للتعاون بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي، 7 مارس 2024، الرابط

[8] – الجزيرة نت، توطين اللاجئين في بلد ثالث، فكرة تشق طريقها بقوة في أوروبا، 1 يناير 2024، الرابط

[9] – العربية نت، “صفقة لتوطين المهاجرين”…جدل حول اتفاق لمكافحة الهجرة بين أوروبا وموريتانيا، 14 فبراير 2024، الرابط

[10] – صحيفة الشروق، ننشر نص الإعلان المشترك بشأن الشراكة الشاملة بين مصر والاتحاد الأوروبي، 17 مارس 2024، الرابط

[11] – عربي 21، بعد اتفاق تونس.. المفوضية الأوروبية متهمة بتمويل الطغاة، 14 مارس 2024، الرابط

[12] – منظمة العفو الدولية، ضعوا حقوق الإنسان في قلب جميع علاقات التعاون، 16 مارس 2024، الرابط

[13] – BBC عربي، عهد جديد للعلاقات بين مصر وأوروبا.. كيف ينعكس على حقوق الإنسان؟، 19 مارس 2024، الرابط

[14] – وكالة الأناضول، برلمان الاتحاد الأوروبي.. ضجّة كبيرة وتأثير معدوم، 19 مارس 2024، الرابط

[15] – RT عربي، مصر.. قضية “التمويل الأجنبي” تصل إلى نهايتها بعد تحقيقات استغرقت 13 عاما، 20 مارس 2024، الرابط

[16] – الجزيرة، مصر تفرج عن صحفيي الجزيرة ربيع الشيخ وبهاء إبراهيم، 22 مارس 2024، الرابط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى