مقدمة
إن المستقبل سوف يقوم على إنتاج المعرفة وتوزيعها، وبناء اقتصاد المعرفة، وتشجيع أعضاء المجتمع على الابتكار.. لذلك فإن الدولة التي تريد أن تبني قوتها المعرفية يجب أن تحوّل جامعاتها إلى جامعات منتجة للمعرفة.
لكن لا يمكن تحقيق ذلك الهدف دون حماية منظومة من حقوق الباحثين وأعضاء هيئات التدريس والطلاب، لتشجيعهم على البحث وإنتاج الأفكار الجديدة.
هذه الحقوق جزء من مفهوم “الحرية الأكاديمية” الذي يرتبط بمفهوم آخر هو استقلال الجامعات، ومنع أيّ تدخل خارجي في شؤونها، ليقوم العلماء وحدهم بإدارتها، فهم الأكثر قدرة على حوكمتها، ذلك أن الجامعات مؤسسات ذات طبيعة خاصَّة لايمكن أن تقوم برسالتها دون رؤية تقوم على الحرية وحماية الكرامة الإنسانية داخل حرم الجامعات.
هناك أيضًا علاقة قوية بين الحرية الأكاديمية وجودة التعليم، فلا يمكن الثقة في قدرة الجامعات على إعداد الخريجين وتأهيلهم دون حماية حقوقهم، وحماية حريات مَن يقومون بالتدريس لهم في اختيار الموضوعات، وإعداد المناهج الدراسية، واستخدام الوسائل التي تشجع الطلاب على التفكير النقدي.
ومن هنا تكتسب هذه الدراسة أهميتها، فبالرغم من أنها تركز على وصف واقع الجامعات في مصر خلال الفترة من 2011 إلى 2024م، إلَّا أن هدفها الرئيس هو بناء المستقبل، عن طريق إضاءة الطريق للشعوب، حتى تكافح من أجل حماية الحرية الأكاديمية، لتتحول الجامعات إلى “جامعات منتجة للمعرفة”، وتشكل أساسًا لبناء مجتمع المعرفة.
كما تشكل هذه الدراسة أساسًا علميًّا لتطوير علوم جديدة، مثل الإدارة الجامعية، والقيادة التعليمية، والقيادة القائمة على المعرفة؛ فتطوير تلك العلوم يعتمد على وصف واقع الجامعات، وما يتمتع به المجتمع الجامعي من حقوق وحريات كأساس لتشجيع عملية إنتاج المعرفة والأفكار الجديدة، وبناء القوة المعرفية.
لذلك تنتمي هذه الدراسة إلى حقل الدراسات المستقبلية، فوصف الواقع يشكل تشخيصًا للمشكلة، تمهيدًا للتخطيط الإستراتيجي لتغييره والتوصل إلى حلول جديدة ومبدعة.
ويلاحظ أن التراث العلمي في هذا المجال مازال قليلًا، ومن الواضح أن تأثير التدخل في شؤؤن الجامعات كان العامل الأهم في التقليل من قدرة الباحثين على تقديم دراسات تفتح للجامعات آفاقًا جديدة للكفاح من أجل قيام بوظيفتها المجتمعية واعداد قادة المستقبل الذين يمارسون الحرية والديموقراطية والقيادة داخل الجامعات.
تساؤلات الدراسة
تستهدف الدراسة تقديم إجابات جديدة على التساؤلات التالية:
- ما مفهوم الحرية الأكاديمية؟
- ما علاقة هذا المفهوم باستقلال الجامعات؟
- كيف تصور المشرع الدستوري الحرية الأكاديمية؟ وما الضمانات التي وضعها لحمايتها؟
- ما مدي تمتع الجامعات المصرية بالحرية الأكاديمية والاستقلال خلال الفترة من 2011 إلى 2013، والفترة من 2013 إلى 2024م؟
- كيف يمكن بناء أسس الكفاح لمرحلة جديدة يتم قيها حماية الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات لتقوم بدورها في بناء مجتمع المعرفة؟
أولًا: مفهوم الحرية الأكاديمية، والأسس العلمية لحقوق المجتمع الأكاديمي
إن حماية الحرية الأكاديمية تحقق تقدم المجتمعات، فلا يمكن أن تتقدم المعرفة دون حماية حرية الأساتذة في البحث العلمي، ونشر نتائجه وتدريسه لطلابهم بأية وسيلة دون سيطرة أو رقابة، وحماية حرية الطلاب في دراسة أية موضوعات تجذب اهتمامهم، والتعبير عن آرائهم.
ويشمل مفهوم الحرية الأكاديمية الكثير من العناصر؛ حيث ركزت منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونسكو) في إعلانها الصادر عام 1997م على حرية إجراء البحوث العلمية ونشر نتائجها، وحرية أعضاء هيئات التدريس في التعبير عن الرأي دون رقابة.
وهذا ما ركز عليه أيضًا ميثاق الاتحاد الأوروبي، الصادر عام 2000م (مادة 13)، الذي أكد أن البحث العلمي يجب أن يكون حرًّا من أية قيود.
كما ركز المجلس الدستوري في فرنسا على حق أساتذة التعليم العالي في أن يكونوا مستقلين فيما يختص بأبحاثهم وأنشطتهم التعليمية، وأن يتمتعوا بالحق في التعبير.
وتتفاخر الدول الأوروبية بأنها ابتكرت مفهوم الحرية الأكاديمية الذي يرتبط بالجامعات الحديثة، بينما تروج أمريكا لفكرة أن التعديل الأول للدستور الأمريكي هو الذي يحمي هذه الحرية، وحق الأساتذة والباحثين والطلاب في إنتاج المعرفة ونشرها.
إعلان ليما 1988م
جاء إعلان ليما بشأن الحرية الأكاديمية واستقلال مؤسسات التعليم العالي، في العام 1988م، ليصبح بمثابة الوثيقة التي أسست لمفهوم الحرية الأكاديمية، مدعومة بتأييد عدد كبير من الأكاديميّين والمؤسسات المهتمة بالتعليم العالي.
وجاءت فكرة الإعلان، الذي يضم تسع عشرة مادة، من حلقة تدريبية نظمتها الخدمة الجامعية العالمية – وهي شبكة مهتمة بالتعليم العالي – في عام 1984م، وشارك في صياغته أكثر من 50 منظمة متخصصة.
نصَّ إعلان ليما على أن الحرية الأكاديمية شرط مسبق أساسي لوظائف التعليم والبحث والإدارة والخدمات التي تُسند إلى الجامعات، وغيرها من مؤسسات التعليم العالي. ويضيف أن كل عضو في المجتمع الأكاديمي يتمتع بوجهٍ خاص بحرية الفكر والضمير والدين والتعبير والاجتماع والانضمام إلى الجمعيات، وكذلك بالحق في الحرية والأمن الشخصي، وحرية الحركة. والدولة ملزمة بحماية هذه الحقوق التي ينص عليها عهد الأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان.. ولا يُفصَلُ أي عضو من المجتمع الأكاديمي دون تحقيقٍ عادلٍ أمام هيئة من المجتمع الأكاديمي منتخبة ديمقراطيًا[1].
وطبقًا لهذا الإعلان، فإن جميع أعضاء المجتمع الأكاديمي الذين يضطلعون بمهام بحثية لهم الحق في إجراء بحوثهم دون أي تدخل، ولهم الحق في إبلاغ نتائج بحوثهم إلى الآخرين بحرية، ونشرها دون رقابة، ولجميع أعضاء هيئة التدريس الحق في التدريس دون أي تدخل، ولجميع أعضاء المجتمع الأكاديمي حرية إقامة الاتصالات مع نظرائهم في العالم، والحرية في تنمية قدراتهم التعليمية.
ويشكل هذا الإعلان تطويرًا للمفهوم الذي أصبح يتسع للكثير من الحقوق.. كما قدم مفهوم “المجتمع الأكاديمي”، وهذا يعني أن هذا المجتمع يشمل الطلاب؛ فهم يقومون بإجراء أبحاث هي جزء من دراستهم، وكمشروعات للتخرج.
إعلان الحرية الأكاديمية 2005م
يشكل إعلان الحرية الأكاديمية 2005م، الصادر عن المؤتمر العالمي الأول لرؤساء الجامعات بجامعة كولومبيا، بدعوة من أمين عام الأمم المتحدة، تطورًا مهمًّا في تحديد مفهوم الحرية الأكاديمية، حيث اعتبرها متميزة عن حرية الفكر والرأي والتجمع والتنظيم المعترف بها لجميع الأشخاص بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهود الدولية الأخرى.
فالحرية الأكاديمية تعني طبقًا لهذا الإعلان: حرية البحث، والتدريس، والتحدث، والنشر، مع الالتزام بمعايير وقواعد البحث العلمي، دون تدخل أو فرض عقوبات[2].
إعلان عمان للحريات الأكاديمية 2004م
يعتبر إعلان عمان أول محاولة لمساهمةٍ عربيةٍ في تطوير مفهوم الحرية الأكاديمية. وكان مركز دراسات حقوق الإنسان في العاصمة الأردنية عمان قد نظم مؤتمر الحريات في ديسمبر/كانون الأول 2004م.
وصدر هذا الإعلان الذي طالب بإلغاء الوصاية السياسية عن المجتمع الأكاديمي، والتزام السلطات العمومية باحترام استقلال المجتمع العلمي بمكوناته الثلاثة: الأساتذة، والطلبة، والإداريون. كما أشار الإعلان إلى أن الحرية الأكاديمية تشمل: حق التعبير عن الرأي، وحرية الضمير، وحق نشر المعلومات والمعارف وتبادلها، كما تشمل حق المجتمع الأكاديمي في إدارة نفسه بنفسه، وتأكيد حق أعضاء الهيئة الأكاديمية العربية في الانسياب عبر الدول العربية، وفي التواصل مع المجتمع الأكاديمي على الصعيد العالمي[3].
وهذا الإعلان قدَّم إضافة مهمة لمفهوم الحرية الأكاديمية، وهو حق الضمير، فالعلماء يعملون وينتجون المعرفة انطلاقًا من ضميرهم، ومسؤوليتهم عن الأمة والمجتمع. ومفهوم الضمير يمكن أن يشكل تطويرًا لعلاقة الحرية بالمسؤولية.
ثانيًا: مفهوم الحرية الأكاديمية في مصر
شهدت مصر، في العام 1995م، محاولة لتأسيس لجنة للحريات الأكاديمية، وضعت مجموعة من المبادئ لتحديد مفهوم الحرية الأكاديمية، أبرزها: عدم تعرض أي باحث للقهر، أو الاضطهاد، أو أي شكل من أشكال العقاب في حياته الأكاديمية، أو في حياته العامة، بسبب الأبحاث التي يُجريها، أو بسبب نتائج هذه الأبحاث، وتوفير فرص حقيقية ومتساوية للجميع للانخراط في المجتمع الأكاديمي[4].
يقول الدكتور معتز خورشيد، وزير التعليم العالي الأسبق، إن الحرية الأكاديمية لا تنفصل عن المجتمع العام والحريات العامة، ولكن لابد أن يكون هناك نظرة خاصة للحريات الأكاديمية.
فالعالم يعيش في عصر معرفي جديد وتكنولوجيا متطورة، وهذا العصر يعتمد على البحث العلمي والابتكار على نحو أساسي، وإذا لم نترك الحرية الأكاديمية والبحثية للباحثين لينتجوا ويبتكروا فلن ننجح في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية في هذا المجال.
كما أن الحرية الأكاديمية مرتبطة بحرية الجامعات في اتخاذ القرار، وهناك اتفاق بين الباحثين والأكاديميّين بأن استقلال الجامعات وحريتها في اتخاذ القرار أمر مهم لنجاح الجامعات للارتقاء وتحقيق الأهداف التنموية والمعرفية للجامعة في مجال البحث العلمي والتعليم العالي وتحقيق النمو[5].
ويؤكد خورشيد على أن الدول المتقدمة فى المجالات المعرفية بوجه عام، والبحث العلمى والابتكار بوجه خاص، تتسم بحريات أكاديمية واستقلالية للجامعات عالية المستوى. وأن الدول التى تتبنى اقتصاديات السوق والمتقدمة تكنولوچيًّا، مثل دول منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية، قد حصدت مستويات عالية فى الحريات الأكاديمية.. فى حين تشهد المنطقة العربية والشرق الأوسط تواضعًا ملحوظًا فى مؤشرات الحرية الأكاديمية.
كما إن التجربة دلت على أن دليل الحريات الأكاديمية يُعَد إحدى الأدوات المفيدة فى رسم سياسات العلوم والتكنولوجيا وصياغة إستراتيجيات التعليم العالى. فهل يُراعي متخذو القرار الأكاديمى والبحثى فى دولنا العربية هذا البُعد السياسى للتعليم والبحث العلمى؟![6]
ما يؤكد على أهمية الحرية الأكاديمية وتأثيرها على صورة مصر وسمعتها ومستقبلها أن السفير المصري في بريطانيا، ناصر أحمد كمال، طلب من جامعة ليفربول إنشاء فرع لها في مصر، وقال إن الجامعة ستحقق أرباحًا كبيرة ؛ لكن الجامعة درست العرض، وأعلنت رفضها له، وقالت إن الضرر الذي سيلحق بسمعتها العلمية يفوق ما يمكن أن تحققه من مكاسب، وأنه سيتم تدمير سمعتها بسبب عدم وجود الحرية الأكاديمية في مصر، بالإضافة إلي سجل مصر السيء في مجال حقوق الإنسان.
ثالثًا: الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات في الدساتير المصرية
تنصُّ الدساتير على حماية الحريات العامة للمواطنين، وهذا ينطبق على أعضاء هيئات التدريس والطلاب والإداريّين في الجامعات، لكن الحرية الأكاديمية تحتاج إلي حماية خاصَّة في الدستور؛ لأنها تشكل أساس التقدم العلمي في المجتمع.. فكيف تصور المُشرِّع الدستوري هذه الحرية، وهل حاول حمايتها، وهل احترمت القوانين نصوص الدستور؟
دستور 1971م
لقد نصَّت المادة 18 في دستور عام 1971م على أن التعليم حق تكفله الدولة، وهو إلزامي في المرحلة الابتدائية، وتعمل الدولة على مد الإلزام إلى مراحل أخرى. وتشرف على التعليم كله، وتكفل استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي، وذلك كله بما يحقق الربط بينه وبين حاجات المجتمع والإنتاج.
ونصَّت المادة 49 على أن تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي، وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك.
وطبقًا لهذين النصَّين، فإن الدستور كفل استقلال الجامعات ومراكز البحث العلمي.. كما وفر حماية خاصَّة لحرية البحث العلمي.
لكن المُشرِّع القانوني لم يحترم ذلك، وأتاح للسلطة التنفيذية التدخل في شؤون الجامعات والتحكم فيها في القانون رقم 49 الصادر عام 1972م.
دستور عام 2012م
نصَّت المادة 59 من دستور 2012م على أن حرية البحث العلمى مكفولة، والجامعات والمجامع العلمية واللغوية ومراكز البحث العلمى مستقلة، وتخصص لها الدولة نسبة كافية من الناتج القومى.
ومن الواضح أن اللجنة التي وضعت دستور 2012 أرادت توفير شرط أساسي لضمان استقلال الجامعات، وهو توفير نسبة كافية من الناتج القومي لها، وبالتالي لا تتحكم الدولة في تحديد ميزانياتها، كما كفل الدستور حرية البحث العلمي.
ونصَّت المادة 60 على أن اللغة العربية مادة أساسية فى مراحل التعليم المختلفة بكل المؤسسات التعليمية، والتربية الدينية والتاريخ الوطنى مادتان أساسيتان فى التعليم قبل الجامعى بكل أنواعه، وتلتزم الجامعات بتدريس القيم والأخلاق اللازمة للتخصصات العلمية المختلفة.
وتلك إضافة مهمة، حيث إن تدريس أخلاقيات البحث العلمي، والمهن المختلفة التي سيمارسها الخريجون يمكن أن تزيد إمكانيات قيام الجامعات بمسؤوليتها الاجتماعية، ودورها في تطوير العمل في المهن المختلفة.
فالأخلاقيات هي التي يمكن أن تحقق التوازن بين الحرية التي كفلها الدستور، والمعايير التي تربط البحث العلمي والتدريس في الجامعات بالمجتمع ومنظومته القيمية.
وبذلك يُعد دستور 2012م تطورًا مهمًّا في ربط الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات بالمجتمع.
دستور 2014م
نصَّت المادة 21 من دستور 2014م على أن تكفل الدولة استقلال الجامعات والمجامع العلمية واللغوية، وتوفر التعليم الجامعي وفقًا لمعايير الجودة العالمية، وتعمل على تطوير التعليم الجامعي، وتكفل مجانيته في جامعات الدولة ومعاهدها، وفقًا للقانون.
وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم الجامعي على أن لا تقل عن 2 بالمئة من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيًّا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتعمل الدولة على تشجيع إنشاء الجامعات الأهلية التي لا تستهدف الربح، وتلتزم الدولة بضمان جودة التعليم في الجامعات الخاصَّة والأهلية والتزامها بمعايير الجودة العالمية، وإعداد كوادرها من أعضاء هيئات التدريس والباحثين، وتخصيص نسبة كافية من عوائدها لتطوير العملية التعليمية والبحثية.
ونصَّت المادة 22 على أن المعلمين، وأعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم، الركيزة الأساسية للتعليم، وتكفل الدولة تنمية كفاءاتهم العلمية، ومهاراتهم المهنية، ورعاية حقوقهم المادية والأدبية، بما يضمن جودة التعليم وتحقيق أهدافه.
ونصَّت المادة 23 على أن الدولة تكفل حرية البحث العلمى وتشجيع مؤسساته، باعتباره وسيلة لتحقيق السيادة الوطنية، وبناء اقتصاد المعرفة، وترعى الباحثين والمخترعين، وتخصص له نسبة من الإنفاق الحكومى على أن لا تقل عن 1 بالمئة من الناتج القومى الإجمالى، تتصاعد تدريجيًّا حتى تتفق مع المعدلات العالمية، كما تكفل الدولة سبل المساهمة الفعالة للقطاعين الخاص والأهلي وإسهام المصريّين فى الخارج فى نهضة البحث العلمى.
ونصَّت المادة 24 على أن اللغة العربية والتربية الدينية والتاريخ الوطنى بكل مراحله مواد أساسية فى التعليم قبل الجامعي الحكومى والخاص، وتعمل الجامعات على تدريس حقوق الإنسان والقيم والأخلاق المهنية للتخصصات العلمية المختلفة.
لكن ما مدي التزام السلطة بهذه النصوص البرَّاقة، وهل وجدت لها صدى في التطبيق العملي، وهل احترم المُشرِّع القانوني نصوص الدستور فيما أصدره من قوانين؟ للاجابة على تلك التساؤلات سنحاول توصيف الواقع في مصر.
رابعًا: الحرية الأكاديمية بين نصوص الدستور والواقع
عانت الجامعات المصرية لعقود من التدخل السياسي، وقهر الأجهزة الأمنية التي نظرت للجامعات باعتبارها مصدرًا للنشاط السياسي والمعارضة، وتمَّ التعامل معها كتهديد للأمن.
لذلك تمَّ وضع وحدات الأمن داخل كليات الجامعة بعد تولي الرئيس الأسبق، حسني مبارك، الحكم عام 1981م؛ بهدف منع كل أشكال النشاط، وقامت مباحث أمن الدولة والمخابرات بالتدخل في كل جوانب العملية التعليمية، وتمَّت إدارة الانتخابات الطلابية بواسطة الأمن، وتمَّ الضغط على أعضاء هيئات التدريس للانضمام للحزب الوطني الحاكم.
وفي التاسع من مارس 2003م، تأسست “مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات”، الشهيرة بـ”حركة 9 مارس”، التي تنادي باستقلال الجامعات.
وتعود تسمية الحركة إلى يوم 9 مارس 1932م، الذي قدَّم فيه الدكتور أحمد لطفي السيد، المفكر والفيلسوف المصري، استقالته من رئاسة جامعة قؤاد الأول (جامعة القاهرة)، احتجاجًا على تدخل وزارة التعليم في شؤون الجامعة وفصلها الدكتور طه حسين من هيئة التدريس بها.
وتصدَّت هذه الحركة منذ نشأتها عام 2003 لنظام مبارك، فاعترضت على بيع مقر جامعة الإسكندرية التاريخي، ووقفت أمام دعوات خصخصة التعليم في عهد وزير التعليم الأسبق هاني هلال.
وكان للحركة دور نضالي في إبعاد حرس وزارة الداخلية عن الجامعات، بحصولها على حكم قضائي من محكمة القضاء الإداري في 2010م.
وجاء في هذا الحكم أن وجود قوات للشرطة تابعة لوزارة الداخلية ممثلة في الحرس الجامعي يمثل انتقاصًا من الاستقلال الذي كفله الدستور للجامعات، وقيدًا على حرية الأساتذة والباحثين والطلاب فيها، وهم يرون جهة أخرى لا تتبع الجامعة تراقب تحركاتهم، وتتحكم في ممارستهم لأنشطتهم بالمنح والمنع، فتقلل من عزائمهم، وتبدد طاقاتهم هباءً بدلًا من أن تنطلق نحو الإبداع والابتكار.
وبناءً على هذه الحيثيات، حكمت المحكمة بإلغاء القرار الوزاري رقم 1812 لسنة 1981م في شأن ‘نشاء إدارة للحرس الجامعي تابعة لوزارة الداخلية داخل جامعة القاهرة وكلياتها ومعاهدها، مع ما يترتب على ذلك من آثار تتمثل في عدم تواجد الحرس الجامعي التابع لوزارة الداخلية داخل حرم الجامعة.
وهذا الحكم واضح في أن وجود الحرس الجامعي يتناقض مع كفالة الدستور لاستقلال الجامعات؛ ورغم ذلك استمر وجود الأجهزة الأمنية في الجامعات، ولم يتم تنفيذ الحكم.
كما تحكمت وزارة التعليم العالي والمجلس الأعلى للجامعات منذ عام 1981م في اتخاذ القرارات المهمة، مثل تقرير موازنات الجامعات، ولم يكن لهذه الجامعات قدرة على تغيير المناهج والبرامج ومعايير الدخول للجامعات، مما أدى إلى تناقص جودة التعليم والقدرات التنافسية للجامعات.
خامسًا: الحرية الأكاديمية في مصر بعد ثورة 25 يناير (2011 – 2013)
بعد ثورة 25 يناير 2011م، حدثت إصلاحات في النظام التعليمي في الجامعات؛ حيث تمَّ إجراء انتخابات حرة للاتحادات الطلابية، والمناصب الإدارية في الجامعات، وتمَّ كسر سيطرة الأجهزة الأمنية على الجامعات؛ فلم تعد تتدخل في الشؤون الجامعية بشكل مباشر.
كما تمَّ وضع خطط لتعديل القوانين المقيدة التي تحكم الجامعات، وبدأت المناقشات حول إصلاح الجامعات، وضرورة أن يكون لها ميزانياتها الخاصَّة.
وتمَّ إرسال مشروع قانون إلى الأقسام العلمية في الجامعات لإبداء الرأي فيه وتقديم المقترحات. وهذا يعني احترام إرادة المجتمع الأكاديمي في التشريعات التي تنظم العمل في الجامعات؛ لذلك بدأت الآمال ترتفع من أجل الإصلاح في الجامعات.
كما بدأ أساتذة الجامعات يقومون بدورهم المجتمعي في مناقشة مستقبل الجامعة، ووضع المعايير التي تكفل استقلالها. ففي 17 فبراير 2011م، تجمع عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس في جامعة القاهرة لمناقشة مستقبل الجامعات، وشاركت حركة 9 مارس مع الأكاديميّين الإسلاميّين قي الإعداد لهذا المؤتمر، وكانت التوقعات عالية؛ حيث طالب المؤتمر بإنهاء تدخل الأمن في شؤون الجامعات.
وتركزت مناقشات المؤتمر على إجراء انتخابات حرة لكل المناصب الإدارية (رئيس قسم –عميد – رئيس جامعة)، وإجراء عملية إصلاح شامل لمرتبات أعضاء هيئة التدريس التي يعترف الجميع بأنها منخفضة للغاية.
كما طالب الأساتذة بقانون جديد يُنظِّم الجامعات القومية، ولائحة طلابية جديدة تدخل إصلاحات في مجال الحوكمة وتوفير الحماية للحرية الأكاديمية وحرية التعبير داخل الحرم الجامعي.
وبالرغم من التقدم الذي حدث في بعض القضايا مثل انتخابات الاتحادات الطلابية والمناصب الإدارية والتقليل من سيطرة أجهزة الأمن على الجامعات؛ إلَّا أن ذلك لم يشكل التغيير الذي كان يطمح له الكثيرون.
لكن من المؤكد أن الجامعات أصبحت أكثر حرية بعد ثورة 25 يناير، وتمكن الطلاب والأساتذة من التعبير، حيث قاموا بتنظيم المعارض والمؤتمرات والمسيرات داخل الجامعات، ونظموا احتجاجات ضد إدارة المجلس العسكري للبلاد، ولم تعد أجهزة الأمن تتدخل بشكل مباشر في الشؤون الجامعية[7].
سادسًا: انتخاب القيادات الجامعية
ظلت عملية اختيار القيادات الجامعية تتم – طبقًا للقانون 49 لسنة 1972م – بالتعيين بواسطة رئيس الجمهورية، بناءً على ترشيحات وزارة التعليم العالي. وطبقًا لهذا القانون يمكن عزل رؤساء الجامعات من مناصبهم قبل نهاية مدتهم بقرار من رئيس الجمهورية؛ بناءً على طلب من المجلس الأعلى للجامعات.
لكن بعد ثورة 25 يناير، شهدت الجامعات الحكومية أول نظام ديمقراطي لاختيار القيادات الجامعية؛ حيث جرت انتخابات تنافسية على المناصب الجامعية (رؤساء الأقسام، والعمداء، ورؤساء الجامعات)، وكان ذلك من أهم إنجازات الثورة. وأثار ذلك آمال الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في أن تقوم القيادات الجديدة بحماية استقلال الجامعات والحرية الأكاديمية.
بالرغم من الانتقادات الموجهة لعملية الانتخابات، والتي كان من أهمها أن وزير التعليم العالي هو الذي أصدر الدعوة لهذه الانتخابات، وأنها لم تنجح في إبعاد المنتمين للحزب الوطني المنحل من تولي المناصب القيادية في الجامعات، إلَّا أن هذه الانتخابات شجعت أعضاء هيئة التدريس على القيام بدورهم المجتمعي والتعبير عن آرائهم، والشعور بالاعتزاز بوظيفتهم، ودورهم في فرض إرادتهم، وكانت تلك الانتخابات من أهم إنجازات ثورة 25 يناير.
لكن في 2014م، أصدر رأس النظام الانقلابي، عبدالفتاح السيسي، قرارًا بقضي بإلغاء الانتخابات، وأن يقوم رئيس الجمهورية بتعيين رؤساء الجامعات والعمداء بناءً على ترشيحات وزارة التعليم العالي.
كما قام السيسي بإقالة رؤساء الجامعات غير المرغوب فيهم، من الذين فازوا في الانتخابات. وبذلك ألغي كل مكتسبات ثورة 25 يناير.
وهذا القرار يشكل انتهاكًا للمادة 21 من الدستور المصري، التي نصَّت على أن الدولة تضمن استقلال الجامعات. وهذا الاستقلال يتطلب عدم تدخل الدولة، أو أي جهاز خارجي في الشؤون الإدارية للجامعات.
وهكذا عادت الأمور بعد الانقلاب العسكري إلى الممارسات السابقة في عهد مبارك؛ بعد فترة قصيرة شهدت تحسنًا في احترام الحرية الأكاديمية خلال الفترة من 2011 إلى 2013م، وتمَّ الاعتداء على الاحتجاجات الطلابية ضد الانقلاب، والقبض على الأساتذة الذين انتقدوا النظام العسكري، وتمَّ تصنيف مصر باعتبارها أقل الدول احترامًا للحرية الأكاديمية؛ وتمَّ فرض السيطرة على الجامعات.
سابعًا: حوكمة الجامعات
تعتبر المركزية من أهم خصائص التعليم العالي في مصر؛ حيث تسيطر وزارة التعليم العالي على عملية وضع سياسات التعليم العالي، ويقترح وزير التعليم العالي أسماء المرشحين لرئاسة الجامعات، ويرسلها إلي رئيس الجمهورية الذي يصدر القرارات الرسمية بتعيينهم.
ويتكون المجلس الأعلى للجامعات من رؤساء الجامعات، ولا يوجد فيه أي تمثيل للأساتذة أو الطلاب.
وتمول الدولة الجامعات الحكومية من ميزانيتها، لكن السنوات من 2013 إلى 2024م، شهدت تناقصًا في ميزانيات الجامعات، وتمَّ الضغط على الجامعات للبحث عن منح من ممولين خارجيّين، وزيادة أعداد الطلاب، مع زيادة مصاريف الدراسة التي يدفعونها دون أن يقابل ذلك زيادة في أعضاء هيئات التدريس، مما أدى إلى تناقص جودة التعليم؛ حيث بلغ المعدل عضو هيئة تدريس واحد لـ200 طالب في بعض الكليات.
وبلغ عدد الجامعات في مصر أكثر من 50 جامعة، يَدرِس فيها 3 مليون طالب، يشكلون 2 بالمئة من السكان، ويتم الالتحاق بالجامعات عبر نظام مركزي يقوم بتوزيع الطلاب على الجامعات طبقًا لشروط محددة، من أهمها المجموع الذي يحصل عليه الطالب في الثانوية العامة.
وشهدت هذه السنوات تزايد تحكم وزارة التعليم العالي في إدارة شؤون الجامعات، فالحق في اختيار القيادات يقع في يد رئيس الجمهورية الذي يعين رؤساء الجامعات والعمداء بناءً على ترشيحات وزارة التعليم العالي.
وهذه المركزية تقلل من مشاركة أعضاء هيئات الندريس في إدارة شؤؤن الجامعات، كما أدت إلى انتشار محاولات التقرب إلى السلطة لتولي المناصب؛ حيث يدرك الجميع أن الأجهزة الأمنية تقوم بالدور الأساسي في اختيار الذين يتم تعيينهم بصرف النظر عن كفاءتهم وعلاقتهم بزملائهم، وهذا يشكل امتهانًا لكرامة أعضاء هيئات التدريس، ويجعلهم يشعرون بالظلم وعدم جدوى الإنجازات العلمية.
ويقع الكثير من الظلم على الأساتذة المنتمين لتيارات سياسية، خاصَّة التيَّار الإسلامي. وتتزايد هذه الظاهرة في كليات العلوم الإنسانية؛ حيث يكون من الصعب إخفاء الانتماء السياسي أو الفكري لعضو هيئة التدريس.
ثامنًا: مرتبات أعضاء هيئة التدريس
يتم تحديد مرتبات أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الحكومية طبقًا لقانون أصدره الرئيس الأسبق، محمد أنور السادات، عام 1972م. ولكن لم يتم مراعاة نسبة التضخم، مما جعل هذه المرتبات لا توفر حياة كريمة لهم، ودفع ذلك إلى مطالبة نوادي أعضاء هيئات التدريس بشكل مستمر بإصلاح نظام المرتبات.
يقول معتز خورشيد ومحسن يوسف: إن ضعف مرتبات أعضاء هيئات التدريس أدَّي إلى انصراف البعض عن أداء الخدمة العلمية المطلوبة منهم، أو تقديمها بمستوي متدن؛ نتيجة انشغالهم بالبحث عن مصادر أخرى للدخل، قد يصل بعضها للدروس الخصوصية التي تتنافى مع أخلاقيات العمل الجامعي[8].
كما أدي ذلك إلى قبول الكثير من أعضاء هيئة التدريس العمل في الجامعات الخاصَّة، سواء بنظام الانتداب أو الإعارة، طبقًا لشروط عمل مجحفة، مما أثر على إنتاجهم العلمي.
وقد شهد عام 2012م أول محاولة جادة لرفع مرتبات أعضاء هيئة التدريس، حين قام الرئيس محمد مرسي بإصدار قانون كان قد أقره مجلس الشعب قبل حله، وكانت هذه الزيادة تشكل مرحلة أولي وعد الرئيس مرسي بأن تتبعها مراحل أخرى، حتى يتم توفير حياة كريمة لأعضاء هيئات التدريس.
لكن تلك المراحل توقفت بعد الانقلاب العسكري، وكتب أستاذ المحاصيل بكلية الزراعة، المتولي عبد الله، وهو من مؤيدي السيسي، أن مرسي رفع مرتبات أعضاء هيئة التدريس وخفضها السيسي.
تاسعًا: حرية البحث العلمي
يعاني الباحثون في مصر من انتهاكات تهدد أمنهم وسلامتهم، وتعوق عملهم العلمي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وتعد حالة الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الري بجامعة القاهرة، مثالًا لهذه الانتهاكات، حيث تمَّ استدعاؤه للتحقيق في الشكوى المقدمة من وزير الري بسبب نقده للحكومة في أسلوب إدارتها للمفاوضات في أزمة سد النهضة الإثيوبي.
ومعظم المشروعات العلمية في الجامعات المصرية تحتاج إلى موافقة من أجهزة الأمن قبل إجرائها، ويتم الحصول على الموافقات من ممثلي أجهزة الأمن في الجامعات، والذين أصبحوا يشاركون في اجتماعات مجالس الجامعات والمجلس الأعلى للجامعات[9].
ولكي يحضر عضو هيئة تدريس مؤتمرًا علميًّا في الخارج، يجب أن يحصل على موافقة من الأجهزة الأمنية.
وطبقًا لمقابلات أجراها إلياس صليبا مع عدد من أساتذة الجامعات – قام بإخفاء أسمائهم بهدف حمايتهم – فإن الأجهزة الأمنية تقوم بمراقبة رسائل الماجستير والدكتوراة، وإعطاء الموافقات قبل منحها.
وفي نوفمبر 2018م، أصدر نائب رئيس جامعة الإسكندرية لشؤون الدراسات العليا قرارًا بأن تتوافق كل رسائل الماجستير والكتوراة مع رؤية مصر لعام 2030م.
لذلك وصف موقع مونيتور الأمريكي، في سبتمبر 2016م، البحث العلمي في مصر بأنه أصبح “منطقة محرمة”؛ حيث يجري منع العديد من الباحثين من القيام بأبحاث معينة بدعوي الأمن القومي.
وروى الموقع قصة باحث مصري رغب في إجراء دراسة حول أنظمة الصرف الصحي (المجاري)، فطلب منه تصريح أمني، وبعد شهور قوبل طلبه بالرفض لأسباب تمس الأمن القومي.
وأشار التقرير ربع السنوي، في عام 2017م، لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، إلى القيود على الحرية الأكاديمية، وممارسة إدارات الجامعات والكليات ضغوطًا كبيرة على حرية الأساتذة في التدريس والبحث والتعبير.
كما أشار التقرير إلى شطب ووقف رسائل علمية لأسباب سياسية في جامعتي الأزهر وقناة السويس، وإحالة لجان المناقشة للتحقيق لتناولها موضوعات “التكييف الفقهي للثورات” ، ووصف 30 يونيو بالانقلاب. كما جري التحقيق مع أساتذة لموافقتهم على أبحاث من قبيل: “الديموقراطية بين الفكر والممارسة لدى الإخوان المسلمين والسلفيّين: دراسة تحليلية لحزبي الحرية والعدالة والنور”، و”الإخوان المسلمون وانتخابات مجلس الشعب 2005”[10].
عاشرًا: حرية التدريس
يتعرض أساتذة الجامعات للرقابة داخل قاعات المحاضرات من أجهزة الأمن التي تمارس عليهم الضغوط؛ لمنعهم من تدريس موضوعات معينة، وأدَّي ذلك إلى تزايد ظاهرة فرض أعضاء هيئات التدريس رقابة ذاتية على أنفسهم خوفًا من العقوبات. كما أصبح العمداء المعينون يمارسون الرقابة على أعضاء هيئات التدريس، ويقومون بمنع الأساتذة من تدريس موضوعات بعينها.
وأشار أساتذة أجرى معهم إلياس صليبا مقابلات إلى أنهم تلقوا تعليمات بعدم الإشارة إلى أية موضوعات تخص الجيش المصري، أو تيران وصنافير، أو الإسلام السياسي، أو أية قضايا دينية في محاضراتهم، أو حتي في مناقشاتهم مع زملائهم[11].
وعلى سبيل المثال، قام عميد كلية الهندسة بجامعة الاسكندرية بتحويل الدكتور هيثم عوض أستاذ الهندسة البيئية للتحقيق لأنه وضع سؤالًا في الامتحان حول تيران وصنافير.
كما تمَّت إحالة الدكتور مرزوق عبد الحكيم العادلي، أستاذ الصحافة والإعلام بجامعة سوهاج، إلى الشؤون القانونية بسبب طلبه من الطلاب تقمص دور المرشحين للرئاسة، عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي، وإقناع الشعب ببرامجهما الانتخابية، وذلك في إطار مادة فن الإقناع.
وتطرقت الدكتورة منى والي (اسم مستعار) الأستاذة بإحدى كليات جامعة القاهرة، إلى تلقي الأساتذة خطابات توجيهية تطلب عدم تناول موضوعات معينة في التدريس، وعدم الحديث عن السياسة بشكل عام في المحاضرات دون تحديد لمفهوم السياسة، وتجنب تناول حدود مصر في الأبحاث أو المحاضرات، تزامنًا مع أزمة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية التي أدَّت إلى انتقال ملكية جزيرتي تيران وصنافير إلى الرياض[12].
لذلك حذرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير من أن استمرار تلك الانتهاكات يعني تفريغ الجامعة من كوادرها التي تسارع إلى الهرب من المناخ الخانق للحرية الأكاديمية، مشيرة إلى أن تلك الهجرة للعلماء والأساتذة تمثل إهدارًا للموارد البشرية بالجامعات المصرية.
كما حذرت المؤسسة من تأثير هذا المناخ على التردي المستمر لواقع البحث العلمي، مما يؤدي بالضرورة إلى فقر الإنتاج المعرفي وعدم قدرة الجامعات والمؤسسات التعليمية والمراكز البحثية التابعة لها على القيام بأدوارها نحو تنمية المجتمع ومواجهة أزماته، والمساهمة في ارتقائه فكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا.
حادي عشر: حرية السفر والمشاركة في المؤتمرات
بالرغم من رغبة الجامعات في زيادة عدد الأبحاث المقدمة باسمها في المؤتمرات؛ إلَّا أنها لا توفر التمويل اللازم لأعضاء هيئات التدريس، مثل مصاريف السفر، بالإضافة إلى أن المشاركة في المؤتمرات تتطلب موافقة الأجهزة الأمنية، خاصة جهاز المخابرات.
وبشكل عام فإن حرية أعضاء هيئات التدريس في السفر مقيدة بالحصول على الموافقة الأمنية، وهذا يشكل تقييدًا لحريتهم الأكاديمية في البحث والتدريس في جامعات أخرى.
وترفض إدارات الجامعات الموافقة على سفر عضو هيئة التدريس بدون الحصول على الموافقة الأمنية، مما أدي إلي ضياع الكثير من المنح وفرص العمل في الجامعات الأجنبية.
على سبيل المثال، رفضت إدارة جامعة عين شمس السماح للأستاذ الدكتور محمد حسن سليمان، الأستاذ بكلية الهندسة، بالسفر في منحة للولايات المتحدة بدون موافقة أجهزة الأمن؛ لذلك فقد الأستاذ المنحة.
كما صدر قرار نائب رئيس جامعة طنطا لشئون الدراسات العليا والبحوث، بإلزام أعضاء هيئة التدريس بالحصول على موافقة وزارة الخارجية عن طريق وزارة التعليم العالي كشرط مسبق للمشاركة في الندوات أو المؤتمرات أو ورش العمل الدولية أو تقديم أوراق بحثية لجهات أجنبية.
وعلى نفس المنوال، جاء إعلان رئيس جامعة دمنهور، بمنع توقيع أي بروتوكولات أو اتفاقيات مع أي جامعة أجنبية داخل كليات الجامعة، إلَّا بعد الحصول على موافقات من وزارة الخارجية والجهات الرقابية والأمنية.
وكانت جامعة عين شمس قد ألغت اتفاقية مركز التعليم المفتوح الموقعة بين الجامعة وتركيا، لسفر عدد من الأساتذة للإشراف على امتحانات الطلاب السوريين اللاجئين المقيمين على الأراضي التركية، في يونيو 2023م. وتمَّ منع سفر الطلاب الأوائل بقسم اللغة التركية بكلية الألسن إلى تركيا في إطار المنحة المقدمة من السفارة التركية للطلاب، بسبب رفض الأجهزة الأمنية، لتوتر العلاقات السياسية بين البلدين.
وتعبر هذه القرارات الصادرة عن جامعات طنطا ودمنهور وعين شمس عن توجه إدارات الجامعات لفرض مزيد من القيود على الحرية الأكاديمية، وإلزام أعضاء هيئة التدريس بالعمل تحت وطأة موافقات الجهات التنفيذية والأمنية. وهذه القيود تمنع تواصل أعضاء هيئة التدريس مع الجامعات ومراكز الأبحاث الأجنبية، مما يلقي بظلال سلبية على تطور العمل الأكاديمي في الجامعات المصرية، وقدرة أعضاء هيئة التدريس والطلاب على البحث والإبداع والتعلم.
ثاني عشر: حرية أعضاء هيئات التدريس في الرأي والتعبير
فرضت إدارات الجامعات التي تمَّ تعيينها بعد الانقلاب الكثير من القيود على حرية أعضاء هيئات التدريس في التعبير عن آرائهم، أو المشاركة في الشؤون العامة، أو كتابة المقالات قي الصحف، أو الظهور في وسائل الاعلام.
وعلى سبيل المثال، أصدر رئيس جامعة كفر الشيخ قرارًا في سبتمبر 2015م بمنع الأساتذة من الظهور في وسائل الإعلام، أو نشر مقالات في الصحف بدون موافقة مكتوبة من رئيس الجامعة.
لكن من الواضح أن الأمر لم يقتصر على جامعة كفر الشيخ؛ حيث طبقت جامعة قناة السويس هذه التعليمات، وشمل المنع أيضًا الكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد أدرك الأساتذة خطورة ذلك، فلم يشاركوا في العمل العام خوفًا من الأجهزة الأمنية.
وفي 15 يناير/ كانون الثاني 2015م، أصدر السيسي قرارًا بتعديل قانون تنظيم الجامعات، للسماح لرؤساء الجامعات بإحالة أعضاء هيئة التدريس إلى مجلس تأديبي، بدعوى المشاركة أو التحريض أو المساعدة على العنف أو أعمال الشغب داخل الجامعات أو المشاركة في العمل السياسي الحزبي داخل الجامعة، ما قد يؤدّي إلى فصلهم بشكل انتقائي، حيث يستهدف المرسوم فقط الجهات التي تعارض النظام الحاكم.
كما تعرض الكثير من أغضاء هيئات تدريس الجامعات للحبس الاحتياطي والمحاكمات وإصدار أحكام عليهم باستخدام اتهامات مختلفة، وينتمي معظم هؤلاء لجماعة الإخوان المسلمين.
لكن شملت تلك الإجراءات التعسفية أعضاء أساتذة ينتمون إلى اتجاهات مختلفة، يمكن أن نذكر هنا بعض الحالات، ومنها:
1 – الدكتور يحيى القزاز، أستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان، الذي ألقت قوات الأمن القبض عليه في أغسطس 2018م، وظل في الحبس الاحتياطي تسعة أشهر حتى تمَّ الإفراج عنه في مايو 2019م.
وكان السبب الحقيقي لاعتقال القزاز هو معارضته اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية في 2017م. واستخدمت السلطة في ذلك بلاغًا تقدم به أحد المحامين ضد القزاز، متهمًا إيَّاه بإهانة رئيس الجمهورية والتحريض على قتله. وانتهت التحقيقات بإخلاء سبيله بكفالة قدرها 10 آلاف جنيه.
لم يكن حبس القزاز كافيًا لمعاقبته، ففي الوقت نفسه، قرر رئيس جامعة حلوان إحالته إلى مجلس تأديب؛ بزعم الإخلال بواجباته الوظيفية وانتمائه لجماعة إرهابية. وبعد خروج القزاز من حبسه الاحتياطي، لم يستطع العودة إلى وظيفته السابقة، كأستاذ جامعي، حيث أحيل لتحقيق إداري بسبب انقطاعه عن العمل في الفترة من شهر أغسطس 2018 وحتى مايو 2019، وهي الفترة التي كان فيها قيد الحبس الاحتياطي!
2 – الدكتور عبدالفتاح البنَّا، أستاذ علم الآثار بجامعة القاهرة، الذي أُلقي القبض عليه في أغسطس 2018م، وظل قيد الحبس الاحتياطي حتى مايو 2019م، على ذمة القضية نفسها التي اُتهِم فيه الدكتور القزاز. وبعد خروج البنَّا من محبسه، وجد قرارًا من رئيس جامعة القاهرة بوقفه عن العمل لمدة ثلاثة أشهر مع تخفيض راتبه الشهري إلى الربع، ومازالت قرارات الإيقاف عن العمل تتجدد تلقائيًّا كل ثلاثة أشهر.
3 – الدكتور أيمن منصور ندا، رئيس قسم الإذاعة والتليفزيون بجامعة القاهرة، الذي قررت كلية الإعلام بجامعة القاهرة، في مارس 2021م، إيقافه عن العمل بعد أن كتب مقالات على صفحته على الفيس بوك هاجم فيها الأداء الإعلامي غير المهني لإعلاميّين مقربين من السلطة، مثل أحمد موسى، وكرم جبر، وعمرو أديب، ونشأت الديهي، وانتقاده رئيس جامعة القاهرة، واتهامه إيَّاه بارتكاب مخالفات وبتمرير قرارات غير قانونية، ما عرّضه للمثول أمام النيابة العامة باتهامات السب والقذف، في سبتمبر 2021م، وسجنه 45 يومًا قبل أن يُخلى سبيله مع استمرار القضية.
4 – الدكتور أحمد التهامي عبد الحي، أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بجامعة الإسكندرية، والمحتجز منذ 3 يونيو/ حزيران 2020م دون محاكمة. وكما هو الحال في كثير من هذه الحالات، اتُهِم التهامي بالانضمام إلى جماعة إرهابية، ونشر أخبار وبيانات كاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
ثالث عشر: فصل أعضاء هيئة التدريس
في يناير 2015م، أصدر السيسي قرارًا بتعديل المادة 110 من القانون رقم 49 لسسنة 1972م، بشأن تنظيم الجامعات، ونصَّ التعديل على أن عضو هيئة التدريس يتم فصله في أربع حالات هي:
- إذا شارك أو حرض أو ساعد على العنف والتظاهر داخل الجامعة، أو منشآتها.
- إذا مارس أية أنشطة حزبية داخل الجامعة.
- إذا أحضر إلى الجامعة أي نوع من الأسلحة أو المتفجرات أو الألعاب النارية، أو أية مواد تعرض الأفراد والمنشآت والممتلكات للضرر.
- إذا ارتكب أي عمل يخل بشرف عضو هيئة التدريس، أو نزاهته أو كرامته أو كرامة المهنة.
وهذه التعديلات تتناقض مع المادة 74 من الدستور، التي تنصُّ على حق المواطنين في تشكيل الأحزاب السياسية.
رابع عشر: الحرية الأكاديمية بعد الانقلاب
في دراسة أجرتها مؤسسة الفكر والتعبير (AFTE)، أكدت أن الوضع الأكاديمي تدهور في مصر عقب انقلاب 2013م، حيث واجه الطلاب والأكاديميون انتهاكات مستمرة تهدف للسيطرة بشكل كامل على الجامعات والقضاء على استقلالها ومشاركتها في الشؤون العامة وفي الحياة السياسية بشكل عام.
وشملت تلك الانتهاكات تدخل السلطة التنفيذية في اختيار القيادات الجامعية وتقييد الحرية الأكاديمية، وانتهاك حقوق الطلاب، والقضاء على الحركة الطلابية.
أدَّي ذلك إلى تضييق مجال الحرية الأكاديمية، وخلق مناخ الخوف والشك، مما دفع الأساتذة والباحثين والطلاب إلى فرض الرقابة الذاتية على أنفسهم والامتناع عن التعبير عن آرائهم.
لذلك أرسلت لجنة الحرية الأكاديمية، التابعة لجمعية دراسات الشرق الأوسط لأمريكا الشمالية، في منتصف يونيو 2021م، رسالة إلى رئاسة الحمهورية ومجلس الوزراء للتعبير عن قلقها العميق بشأن تدهور الحرية الأكاديمية في مصر. ورغم اعترافها بالإفراج عن أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، حازم حسني، بعد 17 شهرًا في الاعتقال، عبّرت الجمعية عن قلقها من أنه في الأشهر الأخيرة كان هناك تصعيد في الاعتقالات وإدانة المعتقلين بتُهم جديدة، فضلًا عن تدهور الظروف التي يتعرض لها العلماء الذين سبق احتاجزهم واعتقالهم.
كما أدانت حركة “جامعة مستقلة”، في إحصائيتها الصادرة حديثًا، والخاصَّة بالانتهاكات الممارسة ضد أساتذة الجامعات في مصر، ارتفاع حصيلة الأساتذة المحكوم عليهم بالإعدام إلى 9 أساتذة جامعيّين، فضلًا عن استشهاد 13 من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية.
وفي تقريرها الذي يحمل عنوان: “انتهاكات العسكر ضد أساتذة الجامعات”، والذي يرصد ما يعانيه أعضاء هيئة التدريس الجامعي في مصر منذ الانقلاب العسكري في يوليو/تموز من العام 2013، وحتى 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023م، رصدت الحركة اعتقال 250 أستاذًا جامعيًّا، وفصل 40، من بينهم 15 أستاذًا جامعيًّا في محافظة القاهرة وحدها.
ووفقًا للمعلومات التي وردت في إحصائية حركة “جامعة مستقلة”، تمَّ الحكم بالمؤبد على 5 أساتذة جامعيّين في مصر، كما تمت معاقبة 137 آخرين إداريًّا.
وتضم قائمة الأساتذة الجامعيّين المحكوم عليهم بالإعدام، وفقًا لما صرّح به المتحدث باسم حركة “جامعة مستقلة”، الأستاذ الجامعي، أحمد عبد الباسط، كُلاًّ من رئيس الجمهورية الأسبق، الدكتور محمد مرسي (قبل وفاته) الأستاذ في كلية الهندسة جامعة الزقازيق، والدكتور محمد البلتاجي الأستاذ المساعد في كلية طب جامعة الأزهر، والدكتور محمد بديع الأستاذ في كلية الطب البيطري بجامعة بني سويف، والدكتور سعد الكتاتني الأستاذ في كلية العلوم جامعة المنيا، والدكتور محمود غزلان الأستاذ في كلية الزراعة جامعة الزقازيق، والدكتور حسام أبو بكر الصديق المدرس بكلية الهندسة، والدكتور صلاح سلطان الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، والدكتور رشاد بيومي الأستاذ في كلية العلوم جامعة القاهرة، والدكتور علي عز الدين، الأستاذ في كلية الطب جامعة أسيوط، وهو الذي حصل على حكم غيابي بالإعدام[13].
كما صدر في مارس 2021م التقرير السنوي لمؤشر الحرية الأكاديمية، والذي هو نتاج جهد تعاوني من قبل باحثين بجامعة في ألمانيا، ومعهد V-Dem في جامعة غوتنبرج في السويد، والمعهد العالمي للسياسة العامة في برلين، وشبكة باحثون في خطر في جامعة نيويورك، والذي صنّف مصر ضمن الفئة الأخيرة، أي الفئة الأسوأ والأدنى في مستوى أداء الحريات الأكاديمية.
يشارك في إعداد هذا التقرير 2000 خبير وأكاديمي من مختلف دول العالم، يُقيّمون الحرية الأكاديمية في 175 دولة، ويضعون كل دولة منها في فئات تبدأ من الفئة الأولى، وتنتهي عند الفئة الخامسة والأخيرة، والتي تعني مستويات متدنية جدًّا من الحريات الأكاديمية بتلك الدول.
ويعتمد المؤشر في حكمه النهائي على نتاج حصيلة خمسة عوامل، وهي: حرية البحث والتدريس، وحرية التبادل الأكاديمي والنشر، والاستقلالية المؤسسية، وحرية التعبير الأكاديمي والثقافي.
وطبقًا لهذا المؤشر، حصلت مصر على أسوأ الدرجات، وجاءت ضمن الفئة الخامسة والأخيرة، التي ضمت دولًا من بينها الصين وإيران وكوريا الشمالية واليمن وسوريا والبحرين والسعودية والإمارات وتركيا وغينيا الاستوائية وإريتريا وكوبا.
والمؤسف هو أن بعض الدول التي تحكمها حكومات شمولية قمعية، كالصين وإيران، حازت على درجات أعلى من مصر في تقييم الحريات الأكاديمية، بل إن اليمن التي تخوض حروبًا وصراعات داخلية جاءت في مرتبة أعلى من مصر أيضًا، ما يشير إلى مدى التدني الذي تمر به مصر في ملف الحريات الأكاديمية.
لذلك تشهد أوساط الأساتذة والطلاب الجامعيّين حالة من الغضب المكتوم بسبب عودة أجواء الخوف والكبت إلى الجامعات المختلفة، وهو ما دفع محمد حلمي قاعود إلى اتهام نظام الحكم بأنه أعاد البلاد لزمن الخوف الذي ظل حتى قبل اندلاع ثورة يناير، حيث تمَّ اعتقال مئات الأساتذة واتهامهم بتهم ملفقة، وحكم على العشرات منهم بالإعدام والسجن المشدد لمدد طويلة، وتمَّ فصل أعداد غير قليلة ممن لم يقعوا في قبضة الانقلاب أو يعيشون في المنافي هربًا بحياتهم، مع إلغاء الانتخابات وإصدار قرارات استبدادية ظالمة تمنح رئيس الجامعة المُعيَّن من قبل سلطة الانقلاب سلطة عزل الأساتذة الذين لا يؤيدون النظام الحاكم[14].
انتخابات اتحادات الطلاب
شهدت الجامعات المصرية عقب ثورة 25 يناير انتخابات حرة للاتحادات الطلابية؛ مما أدي إلى زيادة قوة الحركة الطلابية ونشاطها. كما أصدر رئيس الوزراء، هشام قنديل، قرارًا بعقد انتخابات اتحاد طلاب مصر، وأصدر وزير التعليم العالي، مصطفي مسعد، قراره بتوفير الأموال اللازمة لعقد هذه الانتخابات، وتمويل أنشطة هذا الاتحاد، وشكل ذلك أملًا لطلاب مصر، وفرصة لزيادة دورهم الوطني.
ولكن تمَّ إلغاء هذه الاتحادات بعد انقلاب 2013م، وفرضت أجهزة الأمن سيطرتها على هذه الاتحادات؛ حيث قامت باستبعاد طلاب ومجموعات من الترشح والانتخاب، واستهدفت هذه الإجراءات كل من تشك الأجهزة الأمنية في انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين أو حركة 6 أبريل، كما تمَّ حظر الكثير من الأنشطة الطلابية.
وفي أغسطس 2017م، أصدر المجلس الأعلى للجامعات، برئاسة خالد عبد الغفار وزير التعليم العالي، قرارًا بإلغاء اتحاد الطلاب على المستوي القومي، وإعادة العمل بلائحة 1979م الطلابية.
وبشكل عام، تحكمت الأجهزة الأمنية في السماح بالترشيح لانتخابات اتحادات الطلاب على مستوي الكليات والجامعات المصرية، واستبعدت الطلاب المعارضين من الترشيح بحجة الانتماء إلى جماعات ارهابية.
ويُقدَّر عدد الطلاب الذين تمَّ إلقاء القبض عليهم من داخل الجامعات خلال الفترة من يوليو 2013 حتي 2016م بأكثر من 1180 طالبًا، بسبب نشاطهم السياسي داخل الجامعات، وتمَّت محاكمة 65 طالبًا منهم أمام محاكم عسكرية، وتمَّ قتل 21 طالبًا خارج إطار القانون، كما تمَّ فصل أكثر من ألف طالب من الجامعات.
بالنسبة إلى الطلاب أيضًا، وخلال العامَين اللذين أعقبا تولي السيسي السلطة، أصدر المسؤولون الحكوميون العديد من المراسيم التي قلّلت من قدرة الاتحادات الطلابية على إدارة شؤونها وتنظيم فعالياتها. ونتيجة لذلك استبعد مئات الطلاب من المشاركة في الانتخابات الطلابية، حيث فرضت العديد من الجامعات عقوبات تأديبية متزايدة على الطلاب النشطاء.
في السنوات التي تلت ذلك، تزامنَ تراجُع نشاط اتحاد الطلاب بشكل كبير مع تزايُد الاعتقالات الجماعية، حيث تعرّض طلاب الجامعات – لا سيما الطلاب الذين يتظاهرون داخل الحرم الجامعي – لاعتقالات واسعة النطاق ومحاكمات عسكرية.
الخاتمة
تحتاج مصر لتبني مفهوم واسع وشامل للحرية الأكاديمية، لتحويل جامعاتها إلى جامعات منتجة للمعرفة، يمكن أن تقوم بدور مهم في بناء اقتصاد المعرفة، الذي يشكل الأمل للخروج من الأزمة الاقتصادية.
والجامعات يمكن أن تكتشف الثروات وتفتح المجال لإدارتها واستغلالها وتصنيعها وتسويقها.. لذلك فإن تبني مفهوم واسع للحرية الأكاديمية يسهم في بناء المستقبل، وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي وبناء القوة.
وبناء على هذه الدراسة، يمكن بناء هذا المفهوم على العناصر التالية:
- حماية الاستقلال الشامل للجامعات، ومنع أية جهة خارجية من التدخل في شؤونها.
- تحديد قيمة من الدخل القومي يتم إنفاقها على البحث العلمي، ويمكن للجامعات أن تقوم بتسويق الأبحاث والاختراعات وإستراتيجيات تطوير للشركات، ويمكنها عقد شراكات تستهدف تطوير البحث العلمي في مجالات معينة، ولكن من حق المجتمع أن يحمي الجامعات من أي تأثير خارجي من الحكومات أو رأس المال.
- حماية حرية الباحثين في اقتراح الموضوعات البحثية وتطويرها، ونشر نتائجها، ومناقشة هذه النتائج بواسطة زملاء في التخصص للتأكد من مصداقيتها والاعتماد عليها.
- حماية حرية الابتكار والإبداع في البحث العلمي، وعدم فرض أية قيود على الباحثين في الدراسات العليا، حيث إن اللجان العلمية المتخصصة والأساتذة هم الذين يمكن أن يقوموا بترشيد مسيرة الباحثين وتوجيههم.
- منع تدخل أجهزة الأمن في ترقيات أعضاء هيئات التدريس.
- حماية حق أعضاء هيئات التدريس في تصميم المناهج الدراسية، وتحديد المواد العلمية والكتب والمراجع، وعدم التدخل في المحاضرات، أو مراقبتها.
- احترام حرية الرأي والتعبير داخل الجامعات لأعضاء هيئة التدريس والطلاب، واحترام أعراف الجامعات وتقاليدها.
- إصدار ميثاق أخلاقي عام، يقوم على وضعه أعضاء هيئات التدريس في مؤتمر خاص بهم، يلتزمون به في علاقتهم مع زملائهم وطلابهم والإداريّين والمجتمع.
- انتخاب أعضاء هيئات التدريس قياداتهم (رئيس قسم – عميد كلية – رئيس جامعة)، فالعلماء لا يمكن أن يقودهم إلَّا علماء أمثالهم، ولا يجوز التدخل في العملية الانتخابية.
- إنشاء اتحاد عام يمثل أعضاء هيئات التدريس، ويحمي مصالحهم.
- ضمان حياة كريمة لعضو هيئة التدريس، وعدم فصله إلَّا إذا ارتكب جريمة مخلة بالشرف، وبعد صدور حكم جنائي نهائي، والجرائم السياسية غير مخلة بالشرف.
- حماية حقوق الطلاب في انتخاب قياداتهم واتحاداتهم بحرية.
إن شعب مصر يجب أن يبدأ مرحلة جديدة للكفاح من أجل بناء مستقبله، ومن المؤكد أن حماية الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات من أهم أسس بناء هذا المستقبل.
[1] – الجمعية العربية للحريات الأكاديمية، إعلان ليما بشأن الحرية الأكاديمية واستقلال مؤسسات التعليم العالي، ديسمبر 1988، https://arsaf.org/index.php
[2] – الجمعية العربية للحريات الأكاديمية ، إعلان الحرية الأكاديمية 2005، https://arsaf.org/index.php
[3] – الجمعية العربية للحريات الأكاديمية ، إعلان عمان للحريات الأكاديمية، https://arsaf.org/index.php/
[4] – أحمد نبيل الهلالي وآخرون، الحرية الفكرية والأكاديمية في مصر (القاهرة: دار الأمين للطباعة والنشر، 2000)
[5] – معتز خورشيد ومحسن يوسف، الجامعات وتعزيز قدرات منظومة التعليم العالي والبحث العلمي، مكتبة الاسكندرية، 2005م.
[6] – جريدة المصري اليوم، معتز خورشيد، مناخ الحريات الأكاديمية فى عصر المعرفة، 13 يوليو 2023، https://www.almasryalyoum.com/news/details/2932295
[7] – Lindsey Orsula, freedom and reforms at Egypt’s universities,
[8] – معتز خورشيد ومحسن يوسف، مصدر سابق.
[9] – Mostafa .M and Shaban. A, academic freedom and scientific research in Egypt. المفوضية المصرية للحقوق والحريات ECRF https://www.ec-rf.net/academic-freedom-and-scientific-research-freedom-in-egypt
[10] – Saliba Elias ,academic freedom in Egypt, https://www.econstor.eu/bitstream/10419/228741/1/Full-text-chapter-Saliba-Academic-freedom-in.pdf
[11] – ibid.
[12] – 12- جامعات بلا حرية أكاديمية.. هكذا قيدت السياسة الأساتذة والطلاب بمصر https://www.aljazeera.net/news/2020/7/27
[13] – – العربي الجديد ، 23 نوفمبر 2015 ، جامعة مستقلة : الحكم بإعدام 9 أساتذة جامعيين منذ الانقلاب
[14] – 14- جريدة القدس العربي ؛ 8 اكتوبر 2014 ، اعتقال أساتذة الجامعات بتهم ملفقة ، والصحفيون لا يجدون من يحميهم بعد رحيل مرسي https://www.alquds.co.uk/