تقارير

الاقتصاد العالمي.. الأداء وآفاق المستقبل

للتحميل والقراءة بصيغة PDF

مقدمة

يُصدّر صندوق النقد الدولي، عبر تقريره “مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي.. قاتمة وأكثر ضبابية – يوليو 2022” حالة من التشاؤم بشأن معدلات النمو للاقتصاد العالمي، فبعد أن حقق الاقتصاد العالمي معدلًا للنمو يمكن اعتباره إيجابيًّا عند 6.1 بالمئة، وهو ما مثل بداية التعافي من جائحة فيروس كورونا، أتت التداعيات السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا لتعود بمعدلات النمو إلى حالة من التراجع، فيتوقع تقرير صندوق النقد أن تكون معدلات نمو الاقتصاد العالمي عند 3.2 بالمئة في عام 2022، وتشهد المزيد من التراجع في عام 2023 عند معدل 2.9 بالمئة[1]

وثمَّة مجموعة من القضايا تشغل المعنيين بالاقتصاد الدولي، منها قضية التضخم وأثره على الاقتصادات المختلفة، والمخاوف المترتبة على ارتفاع معدلات التضخم، خشية أن يؤدي ذلك إلى ركود، في ظل استمرار ارتفاع أسعار الطاقة، وعمليات الإغلاق في الصين بسبب عودة انتشار فيروس كورونا.

وفي ضوء المعالجات المطروحة لمواجهة ارتفاع التضخم، يتوقع أن تسير السياسات المالية إلى فرض المزيد من الضرائب، وكذلك تقليص الإنفاق الحكومي، وهي سياسات تنتج المزيد من الركود، ولكن صندوق النقد الدولي، يؤيد تلك السياسات ويطالب بمراعاة أوضاع الفئات الضعيفة من خلال الحماية الاجتماعية، ولكن بدون أن يؤدي ذلك إلى تشوه الأسعار.

إلَّا أن الحرب الروسية الأوكرانية أدت إلى زيادة احتمالات أن يشهد العالم نظامًا اقتصاديًّا جديدًا، وبخاصة بعد أداء روسيا الضاغط عبر بوابة النفط على الاقتصادات الأوروبية، وتعرضها لأزمة حقيقية، من خلال ارتفاع الأسعار، والعودة مرة أخرى لاستخدام الفحم، وتأجيل برامج التخلص من المحطات النووية، وكذلك تأجيل خطط الطاقة الخضراء.

وإذا انطلقنا من فرضية أن الأزمة الاقتصادية الحالية التي يمر بها العالم، ترجع إلى أمرين: الأول ما تبقى من تحديات فرضتها جائحة فيروس كورونا، والثاني التداعيات السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا، فلا يزال السببان قائمين، حيث تعاني الصين بشكل واضح من عمليات الإغلاق لمدن عدة وكبيرة، تؤثر على أدائها الاقتصادي. وكذلك فإن الحرب الروسية على أوكرانيا لا يظهر لها بوادر حل عسكري أو سياسي، ولا يعلم لها أمد زمني يمكن في ضوئه قراءة مستقبل الاقتصاد العالمي، وعليه فإن مستقبل أداء الاقتصاد العالمي تابع لهذين المتغيرين، وينبغي العمل على تجاوز تداعيات كل من بقايا جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، وما لم يتحقق ذلك فعلى العالم أن يتعايش مع تلك الأزمات، وستكون التداعيات بلا شك مزيدًا من الآثار السلبية على مستوى المعيشة في العديد من الدول، بل والدخول في المزيد من الحروب المباشرة وغير المباشر.

وهذا الوضع يضعنا أمام مجموعة من المشكلات والقضايا، تسيطر على مشهد الاقتصاد العالمي، وفي ضوئها يمكن استشراف المستقبل القريب، ومن الصعب أن يتم قراءة مستقبل الاقتصاد العالمي في مدى الأجلين المتوسط والطويل، بسبب تعقد المشهد من جهة، وتطور الأحداث من جهة أخرى.

ومن هنا يمكن تحديد المحاور التي ستتناولها الورقة فيما يلي:

أولًا: خريطة القوى الاقتصادية العالمية في ضوء التطورات الحالية

كان أداء الصين في أزمة كوفيد 19، وما تبعها من أزمات على الصعيد الاقتصادي، مثل توقف الإمدادات، وبخاصة تلك التي تخرج من الصين إلى مختلف أنحاء العالم، أو زيادة تكاليف الشحن والنقل بسبب تغيب العاملين بتلك المرافق عنها في ضوء عمليات الحجر، من أهم الأسباب التي جعلت البعض يذهب إلى القول بتقلص الفجوة بشكل كبير بين الاقتصاد الأمريكي والصيني، وأن الأمر لا يتعدى سوى فترة زمنية، وتُحسَم ريادة العالم الاقتصادية لصالح الصين.

الناتج المحلي الإجمالي لكل من أمريكا والصين 2017 – 2021

القيمة بالتريليون دولار

العامأمريكاالصينالفارق لصالح أمريكا
201719.412.37.1
201820.513.86.7
201921.314.27.1
202020.814.66.2
20212317.75.3

المصدر: قاعدة بيانات البنك الدولي، https://bit.ly/3BuUTPY

وقد ساعد على هذا التصور، وجود عمليات اختناق في توفير السلع التقليدية في أمريكا وأوروبا، وكان ذلك جرس إنذار لكل من أمريكا وأوروبا، لأن تعيد النظر في سياساتها الخاصة تجاه التجارة والاستثمار، فتمت الدعوة بشكل كبير لتبني نهج آخر، لعودة الاستثمارات الأمريكية والأوروبية إلى بلادها، أو على الأقل خروجها من الصين، وتوجيهها لبلدان أخرى يمكن أن تقوم بالدور الذي أدته الصين خلال الفترة الماضية، بحيث لا تشكل تهديدًا إستراتيجيًّا محتملًا للاقتصادين الأمريكي والأوروبي.

إلَّا أن المحور المفصلي في الحرب الاقتصادية بين الصين وكل من أمريكا وأوروبا، والتي تدور رحاها منذ فترة، هو التكنولوجيا، لذلك شهدت إمدادات التكنولوجيا الأمريكية والأوروبية عمليات بطأ أو خنق[2]، لكي تظل دافة القيمة المضافة العالية، في غير صالح الصين. ومن جهة أخرى إضعاف دور الصين في خريطة القوى الاقتصادية، وكأن الشرط غير المعلن لأمريكا وأوروبا لإمداد الصين بالتكنولوجيا، أن تعود الصين مجرد مصنع العالم، وليس منافسًا على ريادة العالم اقتصاديًّا.

وبجانب تلك الحرب الاقتصادية الباردة بين الصين من جهة وكل من أوروبا وأمريكا من جهة أخرى، فإن الصين تعاني من مشكلات اقتصادية داخلية، ليست سهلة أو هينة، فهناك أزمة عقارية كبيرة، وكذلك أزمة مديونية الشركات المحلية، ويتوقع في ضوء السياسات الأمريكية والأوروبية الحالية والهادفة لخروج استثماراتهم من الصين، وكذلك الحد من حركة التجارة البينية لهما مع الصين، أن يتأثر الوضع الاقتصادي بالصين بشكل كبير، تكون نتيجته ضعف منافسة الصين على خريطة القوى الاقتصادية الدولية.

بقيت نقطة مهمة، تتعلق بدور تجمع البيركس في هذا الصراع، على اعتبار أن كلًّا من روسيا والصين، من أعمدة هذه التجمع، فهل يمكن أن يكون هذا التجمع أداة في الصراع الصيني والروسي مع أمريكا وأوروبا؟ والإجابة يمكن التوصل إليها من خلال أمرين: الأول: معرفة باقي أعضاء هذا التجمع، وهم البرازيل والهند وجنوب إفريقيا، وهي دول لم تدخل معترك الحرب الاقتصادية الدائرة بين القطبين الكبيرين، ولها مصالح كبيرة على الصعيد الاقتصادي مع أمريكا وأوروبا، كما أن التجمع لا يهدف أصلًا للدخول في هذا الصراع، ولكنه أنشئ ليكون واجهة للتعاون الاقتصادي[3].

والأمر الثاني هو أن العلاقات الثنائية بين أعضاء تجمع البريكس، لا تؤهل لتكوين تحالف لمواجهة أمريكا وأوروبا، فالهند تُعَد المنافس التقليدي للصين على صُعد مختلفة، ولازالت الحرب التي انتصرت فيها الصين على الهند في مطلع الستينيات من القرن الماضي محددة لكثير من جوانب العلاقة بين البلدين. أما البرازيل وجنوب إفريقيا، فكل منهما معني بما يحصل عليه من مصالح اقتصادية، وسينظر لكلا الجانبين في ضوء تلك المصالح، وهما غير مؤهلتين لممارسة دور على الصعيد العالمي، سواء بمفرديهما أو بالمشاركة مع آخرين.

وثمَّة ملمح مهم قد ينظر إليه البعض على أنه من مؤشرات انهيار النظام المالي العالمي، الذي تتحكم فيه أمريكا بشكل كبير، وهو إعلان روسيا بيع نفطها بعملات أخرى بخلاف الدولار واليورو، أو بيع النفط بالروبل الروسي، وكذلك ما يُعلَن من اعتماد العملات المحلية في تسوية التجارة الخارجية لبعض الدول، مع الصين أو روسيا. والبناء على هذا التصور، يرجع بشكل كبير إلى القراءات الرغائبية، التي تعاني من ظلم أمريكا وأوروبا للدول النامية سياسيًّا واقتصاديًّا.. بينما حقيقة الأمر أن ممارسات روسيا غير مؤثرة إلى الحد الذي يمكن اعتباره يؤدي إلى تغير في وضع الدولار كمكون مهم في النظام المالي العالمي، بسبب صغر مساهمة روسيا في التجارة العالمية، فضلًا عن أن الأمر لم يلق قبولًا من دول كثيرة، فمعدل الاستجابة غير مؤثر، فضلًا عمَّا تمَّ خلال الربع الثاني من عام 2022 بخصوص السياسة المالية والنقدية في أمريكا، من زيادة سعر الفائدة، وما أدت إليه من سياسة “الدولار القوي” والتي هزت مختلف اقتصادات العالم، المتقدمة منها والنامية، وأدت إلى تراجع معظم العملات.

الأمر الثاني هو أن عمليات التسويات التجارية البينية بالعملات المحلية، لم تصل بعد للاستغناء عن الدولار، بل تكون في العادة لفترة محددة، ولتكن 5 سنوات، وفي نهاية المدة تتم تسوية العجز أو الفائض بين الطرفين بالدولار، ولن يكون لهذه الخطوة أثر كبير، إلَّا إذا تمت عملية توسيط العملات المحلية في التجارة الدولية من قبل مجموعة كبيرة من الدول، بحيث يمكنهم الاستغناء عن مشاركة أمريكا، أو عدم التأثر بالتجارة معها، أو مع باقي مكونات النظام المالي الذي تتحكم فيه.

ونختم هذا المحور، بما يُذكَر في هذا السياق من نجاح حالة بنك آسيا للتنمية التحتية، وكذلك تلك الاستثمارات الضخمة في مشروع طريق الحرير، وهو ما يمكن لدور مهم للصين وتجمع البريكس على خريطة القوى الاقتصادية، والتعليق على هذا الأمر يتمثل في أنه على الرغم من نجاح حالة بنك آسيا للبنية الأساسية على مدار السنوات الماضية، إلَّا أنه لم يستطع أن يكون بديلًا كاملًا للمؤسسات المالية الدولية (البنك والصندوق الدوليَّان) والتي تتحكم فيها أمريكا وأوروبا، وتحتاج إليها معظم دول العالم. أما مشروع طريق الحرير، فقد حرك أمريكا لتطرح بالتعاون مع مجموعة السبع الصناعية مبادرة “بناء أفضل للعالم”، في يونيو 2021، وهو ما يعني أن أمريكا وأوروبا يستحضران خطر التمدد الصيني[4].

وفي ضوء ما سبق، يمكن استشراف مستقبل خريطة القوى الاقتصادية العالمية، من خلال سيناريوهين: الأول أن تنجح أمريكا وأوروبا، عبر بوابة التكنولوجيا وسحب الاستثمارات والحد من التجارة مع الصين، في إخضاع الصين لتكون تحت مظلة الرأسمالية العالمية، وبالتالي ستظل خريطة القوى الاقتصادية العالمية كما هي، وعلى رأسها أمريكا، مع أدوار أكبر لأوروبا واليابان، على أن تُعطى مساحات للدول الصاعدة.. ونذهب إلى أن يكون هذا هو السيناريو المرجح.

أما السيناريو الثاني، فهو أن تتجاوز الصين تلك العقبات التي تضعها أمريكا وأوروبا في طريقها، وبخاصة في مجال التكنولوجيا. وبالتالي سيكون ذلك تغيرًا كبيرًا في خريطة القوى الاقتصادية العالمية، وسنشهد تراجعًا في وضع أمريكا وأوروبا. ولكن هذا السيناريو يفتقد مقومات حدوثه بشكل متكامل، كما يصعب التوقع بتحقيقه في إطار زمني معين.. ومن هنا فهو سيناريو مستعبد.

ثانيًا: أزمتا الطاقة والغذاء

مع حلول أزمة جائحة فيروس كورونا، شهد العالم أزمة غذاء، بعد تعقد نقله، وتعثر سلاسل الإمداد. واستمرت موجة ارتفاع الأسعار بشكل كبير، حتى منتصف عام 2021، ثم بدأت أزمة الطاقة منذ أغسطس 2021، ليقف الاقتصاد العالمي أمام موجة كبيرة من التضخم، عانت منها كافة دول العالم، وبخاصة بعد فبراير 2022، حيث شنت روسيا حربها على أوكرانيا. وبدأت مخاوف عالمية من اتساع فجوة الجوع، وزيادة معاناة الدول الفقيرة والأشد فقرًا.

كانت الأشهر القليلة الماضية قد شهدت تراجعًا ملحوظًا في أسعار الغذاء، وكذلك بدأت موجة من الهدوء الحذر في سوق النفط العالمي، حيث هبطت الأسعار لخامي برنت والأمريكي لما دون الـ 100 دولار للبرميل، وحسب أسعار اليوم الجمعة 23 سبتمبر 2022، بلغ سعر برميل النفط من خام برنت 87.1 دولار، والخام الأمريكي 79.8 دولار للبرميل[5].

ولكن هذا الأداء في أزمتي الغذاء والطاقة، يعتبر هشًّا، ويتوقف بشكل كبير على مستقبل الحرب الروسية على أوكرانيا، وتطوراتها، فقد تتوقف الحرب نتيجة تسوية سياسية أو عسكرية، أو تزداد ضراوتها، ولكن في ضوء قراءة الطلب على النفط، والمتوقع تراجعه خلال الفترة القادمة، سوف تتجه أسعار النفط للتراجع. وفيما يلي نقدم قراءة في واقع ومستقبل أزمتي الطاقة والغذاء.

  • أزمة الطاقة

تبقي قضية الطاقة، وبخاصة النفط والغاز الطبيعي، عصب الحضارة الحالية. فعلى مدار أكثر من 4 عقود لم تفلح جهود توفير بديل للوقود الأحفوري (النفط والغاز والفحم). وتعتبر الطاقة البديلة ذات تكلفة مرتفعة مقارنة بالطاقة التقليدية، فضلًا عن قدرتها على توفير كميات يمكن الاعتماد عليها، للوفاء باحتياطات العالم من الوقود والاستخدامات الأخرى للطاقة.

ومع أزمة الحرب الروسية على أوكرانيا، اتجهت أسعار النفط لمنحنى غير مسبوق، وشهدت الأسواق الدولية قفزة ليصل سعر برميل النفط قرابة 120 دولار للبرميل، وزاد من حدة الأزمة الممارسات الروسية، باستخدام ورقة النفط في إدارة أزمتها في أوروبا وأمريكا، وكذلك موقف تكتل “أوبك +” الذي يضم دول أوبك وبعض الدول من خارجها، وأبرزها روسيا، حيث تمسَّك هذا التكتل بتبني إستراتيجية امتصاص الفائض من المعروض النفطي، من خلال الالتزام بسقف منخفض للإنتاج. 

ووفق تقرير منظمة أوبك لشهر سبتمبر 2022، فقد بلغ الطلب على التفط خلال شهر أغسطس 2022 عند 29.6 مليون برميل يوميًا، ويتوقع التقرير أن يعود الطلب على النفط في عام 2023 إلى ما كان عليه في عام 2019م[6]، قبل جائحة فيروس كورونا، وهو ما يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة في ضوء توقعات صندوق النقد الدولي الخاصة بتراجع معدل نمو الاقتصاد العالمي إلى 2.9 بالمئة في عام 2023، فكيف سيزيد الطلب على النفط؟

إذا افترضنا صحة توقع تقرير أوبك وكذلك تقديرات صندوق النقد الدولي، فقد يكون السبب في الزيادة على الطلب راجعًا إلى إعادة بناء المخزونات الإستراتيجية لدى الدول المتقدمة، والتي فقدت جزءًا كبيرًا منها خلال الفترة الماضية.

وثمَّة تفسير لواقع أسعار النفط في السوق الدولية، عند هذا التراجع، لعدة أسباب، منها: لجوء أمريكا لمخروناتها الإستراتيجية من النفط والغاز، وضخ كميات كبيرة لتخفيض الأسعار، لكي تنحج في عمليات تبريد التضخم المرتفع، والذي لم تشهده لعقود، ويؤثر على مستوى معيشة الأسر الأمريكية، والعامل الثاني الذي تؤكد عليه عدة مصادر، هو التخوف من حالة الركود وتراجع النمو المنتظرة في ظل سياسات مواجهة التضخم التي تتبعها البنوك المركزية، من رفع سعر الفائدة وتقليص الإنفاق العام، لكي يتراجع الطلب الكلي في العديد من الاقتصادات الكبرى. والعامل الثالث هو أن هناك حالة تخوف من بقاء دور تكتل “أوبك +” على ما هو عليه، في ظل تراجع روسيا عسكريًّا، ولجوء بوتين لاستدعاء الاحتياطي الجزئي بين مواطنيه، وهو ما يعني بوادر هزيمة بوتين، أو على الأقل خسارته سياسيًّا في الأجل القصير، ومن هنا فالدور الذي مارسته “أوبك +” على مدار الفترة من 2021 وحتى الآن معرض للتراجع، بل وفقدان قدرته التأثيرية على أسعار النفط. وبالتالي سيكون لأمريكا وأوروبا دور أكبر في العودة إلى إستراتيجية النفط الرخيص، لضمان انتعاش اقتصادهما والاقتصاد العالمي، والخروج من الأزمات الاقتصادية المتتابعة التي خلفتها أزمتا كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا.

وهنا لابد لنا من نظرة استشرافية، تتعلق بموقف أمريكا وأوروبا من دول الخليج النفطية، وبخاصة السعودية والإمارات، بسبب وقوفهما إلى جانب روسيا في تكتل “أوبك +” ورفع سعر النفط في السوق الدولية، ورفض مطلب الرئيس الأمريكي بايدن في أغسطس 2021 برفع كميات الإنتاج، وكذلك زيارة بايدن للسعودية في 2022، والتي كان يتوقع بعدها أو أثنائها أن تعلن السعودية عن زيادة إنتاجها من النفط، وهو الأمر الذي لم يتم، ما جعل البعض يرى أن زيارة بايدن للسعودية لم تنجح أو لم تحقق الغرض منها.

فهل سيكون هناك أجندة جديدة في علاقة أمريكا مع النظامين السعودي والإماراتي؟ أم أن أمريكا ستكتفي بأن تعود الأمور لطبيعتها وإلى ما كانت عليه قبل عام 2019، فيما يتعلق بسياسات النفط وغيرها من السياسات التي تتعلق بمنطقة الشرق الأوسط.

  • أزمة الغذاء

كما أن الأوراق الاقتصادية يمكن اعتبارها ضاغطة في إدارة الحرب بين الأطراف المختلفة، وهو ما رأيناه في الحرب الروسية على أوكرانيا، وكيف استخدمت ورقة النفط والعقوبات الاقتصادية من قبل أطراف الأزمة، فكذلك يمكن اعتبار الأوراق الاقتصادية عامل تهدئة كذلك، وهو ما تحقق من خلال اتفاقية تصدير الحبوب والأسمدة من أوكرانيا وروسيا إلى مختلف دول العالم.

نجحت تركيا في توقيع اتفاق بين روسيا وأوكرانيا، وتحت رعاية الأمم المتحدة، لتصدير الحبوب والأسمدة من أوكرانيا وروسيا إلى جميع دول العالم[7]، عبر تنظيم آلية تضمن حركة السفن في البحر الأسود لأغراض مدنية، وبعيدًا عن الاستخدامات الحربية، وهو ما مثل مخرجًا اقتصاديًّا ضروريًّا للبلدين لحاجتيهما لعوائد الصادرات، وكذلك إرسال رسالة طمئنة لسوق الغذاء بتوفير المزيد من المعروض الغذائي، مما يساعد على استمرار تراجع أسعار الغذاء، فضلًا عن ضمان توفير السلع، وإبعاد شبح المجاعة عن الدول الفقيرة والأشد فقرًا، وإن كانت اتفاقية إسطنبول قد استفادت منها الدول المتقدمة كذلك، بالحصول على كميات ليست بالقليلة من الحبوب والأسمدة المصدرة من أوكرانيا وروسيا. 

وحسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإن تقرير شهر أغسطس 2022 يفيد بتراجع أسعار غالبية السلع الزراعية، فالقمح يشهد تراجعًا في أسعاره للشهر الثالث على التوالي في الأسواق الدولية، بسبب الأخبار الإيجابية عن كميات الإنتاج في الدول الرئيسة للإنتاج، وكذلك بسبب اتفاقية إسطنبول لعودة الصادرات من كل من أوكرانيا وروسيا. وبلغت نسبة تراجع أسعار القمح في أغسطس 2022 نحو 5.1 بالمئة. بينما أسعار الزيوت النباتية انخفضت خلال نفس الشهر بنسبة 3.3 بالمئة، والألبان انخفضت أسعارها بنسبة 2 بالمئة، واللحوم بنسبة 1.5 بالمئة خلال أغسطس أيضًا. وشهد السكر أيضًا انخفاضًا بنسبة 2.1 بالمئة خلال نفس الشهر.. وبشكل عام يرصد مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء تراجعًا في الأسعار على مدار الشهور الماضية، بالنسبة لغالبية السلع الرئيسة، بعضها شهد انخفاضًا للشهر الخامس على التوالي، والبعض الأخر شهد انخفاضًا للشهر الثالث على التوالي[8].

وإذا لم تشهد الحرب الروسية على أوكرانيا تصاعدًا خلال الفترة القادمة، أو أمكن التوصل لحل سياسي أو عسكري لإنهاء الحرب، فسيؤدي ذلك إلى تراجع أكبر مما هو عليه في أسعار الغذاء، وقد يعود إلى وضع ما قبل أزمتي كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، أما إذا حدث العكس وتم تصعيد الحرب، بأي صورة من الصور التي تؤدي إلى إعاقة الزراعة في الدولتين، أو وقف اتفاقية إسطنبول لتصدير الحبوب والأسمدة، فسوف ترتفع أسعار الغذاء مرة أخرى بشكل كبير، وستطل علينا أزمة الجوع لدى بعض الدول الفقيرة والأشد فقرًا مرة أخرى.

ثالثًا: المعالجات المالية لتداعيات الأزمة الاقتصادية

كشفت الأوضاع الحالية للأزمة الاقتصادية العالمية عن مدى استمرار تحكم الأدوات الرأسمالية في إدارة الشأن الاقتصادي على مستوى العالم، وبخاصة تحكم السياستين النقدية والمالية لأمريكا في مقدرات النظام النقدي والمالي العالمي[9].

فبعد رفع سعر الفائدة من قبل المجلس الفيدرالي الأمريكي منذ مطلع عام 2022، وكافة البنوك المركزية تعدل من سياساتها المالية والنقدية، بما يتواكب مع التداعيات الناجمة عن رفع أمريكا لسعر الفائدة، فضلًا عما أصاب معظم أسواق النقد، بتراجع أسعار صرف كافة العملات أمام الدولار.

وقد تضررت كافة الدول الصاعدة والنامية، من رفع سعر الفائدة بأمريكا لأكثر من مرة خلال 2022، بسبب خروج الأموال الساخنة من تلك البلدان بحثًا عن عائد أفضل، حيث كانت هذه الأموال تمثل مكونًا جيدًا لتمويل الديون الحكومية، وكذلك البورصات، مما أدى إلى إرباك أسواق تلك الدول، وإن كانت مؤشرات الفيدرالي الأمريكي معلنة منذ بداية 2022، من أنه سوف يرفع سعر الفائدة على مراحل، حتى تصل إلى 5 بالمئة تقريبًا، وهي الآن ما بين 3.25 بالمئة و3.5 بالمئة.

أدت تلك السياسات الأمريكية، إلى زيادة معدلات التضخم بالدول الصاعدة والنامية، من جهتين: الأولى بسبب تراجع قيمة العملات المحلية أمام الدولارـ وما يترتب على ذلك من أضرار تقع على التجارة الخارجية للدول الصاعدة والنامية، وبخاصَّة تلك التي تعاني من عجز في تجارتها السلعية، والثاني اضطرار تلك الدول لرفع سعر الفائدة لديها للحد من التضخم وسحب السيولة الناتجة عن انخفاض قيمة العملة، من أجل مكافحة التضخم، ولكن ذلك يعود بالضرر على المنتجين، بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج.

إن أمريكا ليس من صالحها اتباع سياسة الدولار القوي، لأنه يؤثر سلبيًا على صادراتها، وهو ما لا تريده أمريكا، فهي بحاجة لتحقيق حالة رواج في اقتصادها لاستيعاب اليد العاملة وتخفيف حدة البطالة، وكذلك تقليص العجز التجاري لها مع العالم، وبخاصة مع الصين.. ولكن مستهدفات السياسة الاقتصادية الأمريكية الآن هي ترتيب البيت من الداخل لمواجهة تحدي الصعود الصيني، وسد الثغرات التي أنتجتها سياستها الاقتصادية خلال العقود الماضية، والتي أدت إلى وجود مشكلات لديها في توفير بعض السلع التقليدية، والتي استخدمت كأوراق ضغط عليها خلال الفترة الماضية، وبخاصة أثناء جائحة كورونا. فأمريكا الآن تستهدف عودة الاستثمارات والشركات الأمريكية مرة أخرى إلى أراضيها، لتمسك بالمزيد من أوراق الضغط الاقتصادية بجانب تفوقها التكنولوجي.

وبالتالي قد تتحمل سلبيات سياستها النقدية، التي تنتج الدولار القوي، فالعبرة بالنتائج الكلية الإيجابية التي ستجنيها من خلال تخفيض معدلات التضخم، وكذلك عودة الإنتاج واستيعاب اليد العاملة، ثم التفكير بعد ذلك في تداعيات سياساتها على الآخرين.

خاتمة

لم تعد الحرب الاقتصادية خافية على أحد، فترامب لم يكن سوى صوت عال لرغبة أمريكا في تلك الحرب، التي نتجت عن تطور وضع الصين كمنافس على ريادة العالم اقتصاديًّا، ويُعد بايدن أشد ضراوة في تلك الحرب، لاستخدامه أدوات أشد قسوة من ترامب، ضد الصين في مجال التكنولوجيا، وكذلك تجاه روسيا عبر آلية العقوبات الاقتصادية.

بقي هنا أن نشير إلى وضع منطقة الشرق الأوسط، والتي تضم الدول العربية وتركيا وإيران، ودولة الاحتلال الإسرائيلي.

فالدول العربية لا يوجد لديها رؤية موحدة لمواجهة الأوضاع الاقتصادية العالمية الملتهبة، بينما تتصرف كل دولة على حدة.. وهو وضع يؤدي إلى ضعف جميع الدول العربية. ويلاحظ أن الدول العربية غير النفطية تعاني أزمات اقتصادية كبيرة، يتوقع معها البعض أن تؤدي تلك الأزمات إلى موجة جديدة من الربيع العربي[10].

ويختلف الوضع في دول الخليج التي استفادت ماليًّا على مدار العام والنصف الماضيين عبر ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية.. بينما هناك تحد خطير تقوم به بعض الدول العربية التي تستهدف دمج دولة الكيان الصهيوني في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة العربية عبر مشاريع التطبيع، والتي تقودها الآن بشدة دولة الإمارات العربية.

أما إيران فهي تعيش أزمتها مع العقوبات، على أمل أن تصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، لتعاود تصدير نفطها، وتحسين أوضاعها المالية المختلة، ومواجهة الأوضاع الاجتماعية المتراجعة منذ تشديد العقوبات في منتصف عام 2018. ولا يخفى على أحد حرص أمريكا وأوروبا على أن تظل إيران في وضعها الاقتصادي المتأزم، إلى أن ترضخ لهم بشأن برنامجها النووي، وإن كان دورها الإقليمي قد يتفق أو يختلف بدرجة ما مع مخططات أمريكا وأوروبا في المنطقة.

والوضع في تركيا منذ نهاية عام 2018، يتجه لأزمات اقتصادية، بسبب تراجع قيمة عملتها المحلية، وما نتج عنه من ارتفاع معدلات التضخم، وإن كانت تركيا تتبع سياسة التضحية بمعدلات تضخم مرتفعة مقابل استمرار معدلات نمو مرضية، ولكن للأمر تبعات سياسية، تمثل مشكلات لحزب العدالة والتنمية الذي يخوض انتخابات رئاسية وبرلمانية مهمة في منتصف 2023. ولكن قد تشهد تركيا انخفاضًا لمعدل التضخم الذي تجاوز نسبة 80 بالمئة في أغسطس 2022م[11]، بسبب تراجع أسعار النفط في السوق الدولية، وكذلك إعلان الحكومة دخول حقول الغاز بالبحر الأسود للانتاج في أكتوبر 2022، وسيكون معدل إنتاج تلك الحقول أفضل في بداية عام 2023، وهو ما سيعود على أسعار الطاقة في تركيا بالإيجاب.


[1] – صندوق النقد الدولي، تقرير “مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي.. قاتمة وأكثر ضبابية”، يوليو 2022.

[2] – الشرق، أمريكا تبحث تقييد استثماراتها في شركة التكنولوجيا الصينية، 3 سبتمبر 2022.

[3] – الجزيرة نت، صراع تجمع البريكس ومجموعة السبع الصناعية.. هل نحن أمام نظام اقتصادي عالمي جديد؟، 5 يوليو 2022.

[4] – الاقتصادية، “بناء أفضل للعالم” مبادرة لمجموعة السبع ردًّا على “الحزام والطريق” الصينية، 12 يونيو 2022.

[5] – روسيا اليوم، النفط يعزز خسائره، 23 سبتمبر 2022.

[6] – CNBC عربية، تقرير أوبك الشهري: الابقاء على توقعات نمو الطلب على النفط العالمي عند 3.1 مليون برميل يوميًا خلال 2022، 12 سبتمبر 2022.

[7] – وكالة الأناضول، اتفاقية الحبوب.. ناشطون وصحفيون عرب يشيدون بدور تركيا، 22 يوليو 2022.

[8] – مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء، أغسطس 2022،https://bit.ly/3Uv9Fz0

[9] – الجزيرة نت، هل لاتزال أمريكا تمسك بزمام العالم اقتصاديًا؟، 2 أغسطس 2022.

[10] – الجزيرة نت، مجلة بريطانية: الأزمة الاقتصادية قد تفجر ثورات بدول عربية، 27 يونيو 2022.

[11] – البنك المركزي التركي، مؤشر التضخم الشهري،https://bit.ly/3RdtXu5

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى