مقدمة
أثار اغتيال القيادي الحمساوي صالح العاروري، وبعض القيادات الميدانية في حركة حماس ومحور المقاومة، موجة من التساؤلات حول توقيت الاغتيالات، والهدف منها.
وهذه الورقة هي محاولة للبحث في أسباب هذه الاغتيالات، ومآلات هذا التصعيد من جانب إسرائيل، بعد تسليط الضوء على خطة الكيان الصهيوني لاستهداف قيادات حماس، وجدوى هذه الاغتيالات، وخطورتها على المقاومة.
كما تقدم الورقة سيناريوهات محتملة، حول إمكانية الرد من جانب حركة حماس على هذه الاغتيالات.
1 – سياسة الاغتيالات الإسرائيلية
تمتلك الاستخبارات الإسرائيلية إمكانيات كبيرة وتاريخًا حافلًا في تصفية مَن تَعدّهم “خصومَ الدولة”، وبخاصَّة قادة المقاومة الفلسطينية.
وبعد عملية “طوفان الأقصى”، وَجَّه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، المخابرات الإسرائيلية بوضع خطط لمطاردة وقتل قادة حماس في جميع أنحاء العالم.
ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين إسرائيليّين أن أجهزة المخابرات بدأت تستعد لاغتيال قادة حماس عندما تنتهي الحرب في قطاع غزة، ما يُمهّد الطريق لحملة تستمر لسنوات لمطاردة المسلحين المسؤولين عن عملية “طوفان الأقصى”[1].
الحملة المعلنة لها نطاق أوسع بكثير من القادة الموجودين في قطاع غزة، ومن المحتمل أن تستهدف قادة حماس المتمركزين في قطر وتركيا ولبنان، وشبكات دعم الجماعة في أماكن أخرى، مثل إيران وسوريا والدول الأوروبية.
ولتنفيذ هذه الحملة، ذكرت صحيفة “الجارديان” أن إسرائيل خططت لعملية استخباراتية جديدة، لاستهداف كبار قادة حماس، تسمى “نيلي”، وتقوم بها وحدة مشتركة من “الشاباك” (جهاز الأمن الداخلي) و”الموساد” (جهاز المخابرات الخارجية)، تمَّ إنشاؤها بعد حوالي أسبوعين من عملية “طوفان الأقصى”[2].
2 – جدوى الاغتيالات
تسعى إسرائيل من وراء اغتيال قيادات حركة حماس إلى القضاء على المقاومة، ولكن التجارب السابقة تثبت أن الاغتيالات لا تشكل بالضرورة أداة ردع مع حركات المقاومة التي تربّي أفرادها على أساس أيديولوجي، يُعلِي من قيمة الجهاد والتضحية بالنفس والاستشهاد، وتؤهلهم ليكونوا مشاريع شهداء.
فقد اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين، وعددًا كبيرًا من قيادات الصف الأول في حركة حماس، التي قامت بتصعيد قيادات جديدة، كان منها أولئك الذين خططوا ونفذوا عملية “طوفان الأقصى”، التي فاقت في نتائجها كلَّ ما قامت به المقاومة من عمليات تحت قيادة القادة الذين تمَّ اغتيالهم.
ثم إن التفوق الاستخباراتي لم يُمكِّن إسرائيل من القضاء على المقاومة التي تنامت قوتها ووَصَلت إلى حد مهاجمة الجيش الإسرائيلي والدخول معه في حرب رغم عدم التكافؤ.
كذلك فإن ما تقوم به إسرائيل من اغتيالات يَزيد من تأجيج الوضع وشحذ همم المقاومين، وزيادة دعم الحاضنة الشعبية لهم، بعد رؤية تضحياتهم وصِدق جهادهم.
ولهذا، يَرى مدير الموساد السابق، إفرايم هاليفي، أن قرار استهداف قياداة المقاومة “غير حكيم”، وأن “قتل قادة حماس لن يَقضي على التهديد، بل سيساعد على تأجيج أتباع المجموعة وتسريع خلق تهديدات أسوأ”.
ووَصَف هاليفي خطة الاغتيالات بأنها “بعيدة المنال”، وأن “ملاحقة حماس على نطاق عالمي ومحاولة إزالة جميع قادتها بشكل منهجي من هذا العالم هي رغبة في الانتقام، وليست رغبة في تحقيق هدف استراتيجي”[3].
ومع ذلك، فإن الاغتيالات تظل واحدة من أدوات الضغط التي تلجأ إليها قوى الاحتلال في مواجهة حركات المقاومة، التي تعتمد على الأفراد أكثر من المؤسسات، ويمكن أن يُحدِث اختفاؤهم خللًا في المهام التي يقومون بها.
ولكن إسرائيل ليست مطلقة اليد في تنفيذ خطة استهداف قيادات حماس والمتعاونين معها خارج فلسطين على النحو الذي يشيعه المسؤولون الإسرائيليون.
فقد حذرت تركيا إسرائيل من القيام بأيّ عمل يستهدف قادة حركة حماس على الأراضي التركية، مؤكدة أنها ستدفع ثمنًا باهظًا، وأن العواقب ستكون وخيمة إذا حاول جهازها الاستخباراتي القيام بعملية عسكرية ضد قادة حماس في تركيا.
وسوف تكون الاغتيالات مستحيلة في قطر في المستقبل المنظور، لأن الدوحة وسيط رئيس في المفاوضات الرامية لإطلاق سراح الأسرى في غزة.
وفي حالة ذهاب أيّ من قادة حماس من غزة إلى مصر، فلن تتمكن إسرائيل أيضًا من الوصول إليهم، وستكون نتيجة الاغتيالات في أوروبا الآن كارثية، بسبب الضرر الدبلوماسي، بحسب عضو من الموساد شارك في اغتيالات السبعينات التي تمَّت بعد أحداث ميونخ 1972 ومقتل رياضيّين إسرائيليّين[4].
3 – اغتيال صالح العاروري
بدأت إسرائيل في تنفيذ تهديدها باغتيال قيادات حماس بنائب رئيس المكتب السياسي، صالح العاروري، الذي أغتيل في 2 يناير 2024، في قصف مكتب لحركة حماس، في العاصمة اللبنانية بيروت، أدَّى إلى مقتله رفقة آخرين، بينهم اثنان من قادة المقاومة، هما سمير فندي وعزام الأقرع، وأربعة من كوادرها.
يُعد العاروري واحدًا من القيادات الهامة في حركة حماس، لجمعه بين القيادة السياسية والعسكرية، فقد كان مسؤولًا عن التنسيق بين الحركة من ناحيةٍ وإيران وحزب الله اللبناني من ناحيةٍ أخرى، واضطلع بدور كبير في عمليات التسليح والتخطيط والتمويل، ووصفته الحركة بأنه مهندس عملية “طوفان الأقصى”.
هذا بالإضافة إلى كونه فاعلًا ضمن فريق حماس المفاوض، لوقف إطلاق النار في غزة، وصفقة تبادل الأسرى التي كان يَجري بشأنها التفاوض بوساطة قطرية ومصرية.
ربما كان جمع العاروري بين العمل السياسي والعسكري نقطة ضعف في تأمينه، لأن عمله السياسي جعله مكشوفًا أكثر مِمَّا يحتمله موقعه العسكري.
لم تعلن إسرائيل رسميًّا عن مسؤوليتها عن عملية الاغتيال، وتركت لمسؤولين فيها مهمة نسبة العملية إلى الاستخبارات الإسرائيلية، وربما كان السبب هو تفادي الانتقادات الدولية لانتهاكها سيادة دولة أخرى في وقت تتعرَّض فيه لانتقادات بسبب جرائم الحرب التي ترتكبها ضد المدنيّين الفلسطينيّين في قطاع غزة.
واستمرارًا لسياسة الاغتيالات، قامت إسرائيل في 8 يناير 2024، باغتيال القيادي حسن عكاشة، الذي وصفه بيان جيش الاحتلال بأنه “مسؤول عمليات إطلاق القذائف الصاروخية لحماس من داخل الأراضي السورية نحو إسرائيل”.
كذلك شملت الاغتيالات أفرادًا من الدائرة الداعمة لحماس، حيث اغتيل رضي موسوي، وهو من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني، ومستشار وحدة إسناد محور المقاومة في سوريا، ولحقته قيادات عسكرية ميدانية في حزب الله اللبناني، منها وسام الطويل، صهر الأمين العام، حسن نصر الله، وعضو مجلس شورى الحزب.
وتهدف إسرائيل باغتيالها العاروري ورضي موسوي وأمثاله من القيادات في حزب الله إلى كسر حلقة من حلقات التواصل بين حماس ومحور المقاومة، والتأثير على جبهات الإسناد.
4 – خطورة حادث الاغتيال
صرَّح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيَّة، بعد اغتيال صالح العاروري، بأن “حركةً تقدّم قادتها ومؤسّسيها شهداء من أجل كرامة شعبنا وأمّتنا لن تهزم أبدًا، وتزيدها هذه الاستهدافات قوة وصلابة وعزيمة لا تلين. هذا هو تاريخ المقاومة والحركة بعد اغتيال قادتها، أنها تكون أشد قوة وإصرارًا”[5].
وعلى الرغم مِمَّا في تصريح هنيَّة من إعلاءٍ لقيمة الشهادة، وتحدٍّ لإسرائيل، ومحاولةٍ لحرمانها من استغلال حادث اغتيال العاروري في الشعور بالنصر، إلَّا أن الحادث أخطر من أن يُنظَر إليه من منظور الشهادة والتحدِّي فقط، خاصَّة في ظِل الحرب التي تخوضها المقاومة، الأمر الذي يجعل من هذا الاغتيال نجاحًا للإسرائيليّين، بحسابات الربح والخسارة في المواجهات العسكرية؛ لأنهم حددوا هدفًا، وقضوا عليه في مكان يُفترَض أنه كان آمنًا بالنسبة له، وتخلصوا من “عدو” خطير بالنسبة لهم.
لا يمكن إعفال السلبيات والمخاطر التي أبرزتها عملية الاغتيال، والتي يمكن رصد أبرزها في النقاط التالية:
- وجود خلل أمني في منظومة حماية قيادات المقاومة، أدَّى إلى اغتيال العاروري، الذي يُعَد واحدًا من أهم المطلوبين في حماس، بعدما اعتبرته إسرائيل المسؤول عن العمليات التي تقع ضدها في الضفة الغربية، حتى إن نتنياهو اضطر لتهديده شخصيًّا بالاغتيال قبل الحرب الأخيرة على قطاع غزة[6]، وهو تهديد لاقى طريقه للتنفيذ.
- ظهور الحركة في صورة تنظيم عاجز عن حماية قياداته، وهو ما يمكن أن يشكِّك البعض في قدرات التنظيم وإمكانياته.
- عدم قدرة حماس على الرد بالمثل، وهو ما قد يُغري إسرائيل بالتمادي في عمليات الاغتيال، للتأثير على أداء المقاومة في الحرب.
- خسارة قائد من قيادات الصف الأول، بما تمثله هذه الخسارة من فراغ قيادي، في وقت حسَّاس، تخوض فيه حركة حماس حربًا غير مسبوقة في شدتها، الأمر الذي جعل مستقبل الحركة نفسه مطروحًا للنقاش.
- تحوُّل تهديدات الاحتلال بالاغتيال من مجرد تصريحات إلى سياسة يمارسها الإسرائيليون بشكل فعلي على الأرض، وكلما وجدوا الفرصة سيواصلون عملية الاغتيال، وهو ما يهدد قيادات حماس وممثليها والمتعاونين معها في الدول التي لا يمكنها أن تمنع إسرائيل من تنفيذ عملياتها على أراضيها، مثل لبنان وسوريا وإيران.
- توسيع ساحة المواجهة بين حركة حماس وإسرائيل، لتتجاوز حدود قطاع غزة والضفة الغربية، ضمن حملة تشبه حملة الاغتيالات التي قام بها الموساد بعد استهداف الرياضيّين الإسرائيليّين في ميونخ سنة 1972، وهو ما سوف يزيد من أعباء المقاومة ويُضيّق الخناق على قياداتها.
5 – أسباب اغتيال العاروري
ثمَّة فرضيَّات حول أسباب إقدام إسرائيل على اغتيال صالح العاروري، في وقتٍ تخوض فيه معركة شرسة مع المقاومة، وتتكبد خسائر يومية غير مسبوقة في المواجهة العسكرية، وخلافًا لما ورد في التقارير التي ذكرت أن خطة الاغتيالات سوف تنفذ بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة.
يمكن رصد أسباب التبكير باغتيال العاروري في سياق التطورات العسكرية في غزة، ووفق ترتيب يُراعي – إلى حد ما – التسلسل الزمني لهذه التطورات.
- الانتقام وطمأنة الإسرائيليّين
تُعَد فكرة الانتقام وتصفية الحسابات أحد الأسس التي تقوم عليها سياسة الاغتيالات عند الإسرئيليّين. ولهذا فإن الحديث عن الانتقام من قيادات المقاومة الذين خططوا لعملية “طوفان الأقصى” جاء بعد أيام من العملية، وذلك لشعور “مجتمع الاستخبارات الإسرائيلي بالإذلال”، بعد أن فشلت المخابرات في التنبوء بهجوم المقاومة.
ومِن شأن الوصول إلى قادة المقاومة واغتيالهم أنْ يشيع الطمأنينة في نفوس المواطنين الخائفين، الذين فقدوا الثقة في قدرة الأجهزة الأمنية والمنظومة العسكرية على حمايتهم.
ولهذا جاء الحديث عن عمليات اغتيال القيادات، ومنهم العاروري، منذ الأيام الأولى للحرب، استجابة لروح الانتقام، ومحاولة لإزالة مشاعر الخوف واستعادة الثقة.
- التغطية على الفشل العسكري
خاضت إسرائيل الحرب ضد المقاومة لأهداف ثلاثة معلنة، وهي: القضاء على المقاومة، وإنهاء حكم حماس في قطاع غزة، واسترداد الأسرى والمحتجزين سالمين.
وبعد أكثر من ثلاثة أشهر، لم تحقق إسرائيل شيئًا من أهدافها، واضطرت إلى الهدنة – التي تُعَد تراجعًا عن أحد الأهداف الكبرى – من أجل استعادة بعض الأسرى والمحتجزين.
وصَار الكيان الصهيوني في مأزق بسبب الإخفاق العسكري، والخسائر البشرية والمادية التي أثبتت هشاشة الجيش وقدرة المقاومة على مواجهته وهزيمته.
ولهذا، جاءت عملية الاغتيال لتلفت الأنظار عن حالة الفشل التي يواجهها الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه وخسائرة اليومية الكبيرة، بتسجيل هدف معنوي وعملياتي يُعوِّض الإخفاق في اقتناص شخصيات رمزية من حماس وكتائب القسّام في القطاع.
- التأثير على مفاوضات الهدنة
تواجه الحكومة الإسرائيلية حالة كبيرة من الغضب الشعبي بسبب عدم قدرتها على استعادة باقي الأسرى والمحتجزين لدى المقاومة، وتجد نفسها بين خيارين كلاهما صعب: أولهما هو قبول الهدنة، بعد الاستجابة لشروط حماس التي تشترط الإيقاف التام للحرب، وسحب القوات الإسرائيلية الموجودة في القطاع، وكسر الحصار، وهو ما يَعني هزيمة إسرائيل فعليًّا. وثانيهما هو رفض الهدنة والبقاء تحت ضغط الشارع الإسرائيلي الذي يطالب الحكومة باستعادة الأسرى والمحتجزين.
ولهذا فإن اغتيال العاروري يمكن أن يكون محاولة إسرائيلية لدفع حركة حماس إلى الانسحاب من التفاوض، وإظهار الأمر وكأن حماس هي التي ترفض الهدنة. وقد يكون أيضًا محاولة للضغط على الحركة للتراجع عن شروطها.
- كسر صمود المقاومة
أظهرت المقاومة صمودًا كبيرًا في مواجهة العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل على غزة، وتدل تطورات الأحداث على أن القيادة مازالت تسيطر على أفرادها، وتدير المعركة بكفاءة، الأمر الذي دعا البعض إلى القول بأن كسر إرادة المقاومة رهين بالقضاء على قياداتها، وهو ما أكده الباحث في “معهد دراسات الأمن القومي في تلأبيب”، كوبي مايكل، الذي رهن شل حركة حماس بالوصول إلى جميع قياداتها، والقضاء على شخصياتها المؤثرة[7].
ولهذا، يمكن اعتبار اغتيال العاروري أو أي قيادي في حركة حماس محاولة لكسر صمود المقاومة والقضاء عليها من خلال تدمير قيادتها.
- الانتقال للمرحلة الثالثة من الحرب
أعلنت إسرائيل الانتقال إلى مرحلة جديدة من الحرب، تعتمد فيها على تنفيذ عمليات قتالية أقل كثافة، وعمليات اغتيال محددة، داخل وخارج قطاع غزة، في إطار استراتيجيتها العسكرية التي تهدف إلى القضاء على حركة حماس بشكل نهائي، حتى لا يكون لها مستقبل في حكم قطاع غزة.
ولهذا يمكن اعتبار اغتيال العاروري تنفيذًا لأحد بنود المرحلة الثالثة، وهو اغتيال قيادات حركة حماس.
- إطالة أمد الحرب
تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى إطالة أمد الحرب، خوفًا من اليوم التالي لانتهاء القتال، والذي سوف يشهد محاسبة القيادات العسكرية والسياسية والأمنية، وعلى رأسها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يتحمَّل هو وباقي القيادات مسؤولية الهزيمة.
وربما تساعد الاغتيالات في إطالة أمد الحرب إلى أن تُجرَى الانتخابات الأمريكية، التي يمكن أن تعيد دونالد ترامب إلى الحكم مرة أخرى، وهو الخيار الأفضل بالنسبة لنتنياهو[8].
- الإبقاء على التوتر بالمنطقة
يَرى بعض المُحلِّلين أن إسرائيل تسعى من وراء الاغتيالات إلى توسيع دائرة التوتر لتشمل المنطقة كلها، ولكن دون الوصول إلى حد الحرب الشاملة مع حزب الله ومن وراءه إيران، وذلك لتجد المبرر لطلب المزيد من الدعم الأمريكي، وضمان بقاء الدعم الغربي، وتخفيف الضغوط التي تتعرَّض لها بسبب حرب الإبادة التي تخوضها ضد المدنيّين الفلسطينيّين.
وتعتمد إسرائيل في ذلك على تقديرات لها بأن حزب الله لا يريد الحرب، وبالتالي سوف يرد بشكل محدود، ولن ينجر إلى حرب كاملة.
- تحقيق حالة انتصار
تسعى إسرائيل إلى إنهاء الحرب بانتصار، ولكن هذا الانتصار يبدو بعيدًا بعد أن استفرغ الجيش الإسرائيلي وسعه في القتل والدمار، ووَصَل إلى مرحلة لم يعد هناك ما يمكن فعله بعدها. وفي الوقت نفسه، لا تستطيع إسرائيل الاستمرار في الحرب بشكلها الحالي إلى أن تحقق أهدافها، للكلفة العسكرية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية العالية.
وللتمكن من إنهاء الحرب والتحول إلى مرحلة أخرى أقل حدة، لابد لإسرائيل من انتصار ملموس، يمكن تسويقه في الداخل الإسرائيلي، لمواجهة الخلافات والانتقادت المتزايدة، وهذا الانتصار يمكن صناعته من خلال الاغتيالات.
وإجمالًا، يمكن القول إن الأسباب المذكورة لاغتيال صالح العاروري لا تخصُّه كشخص، وإنما هي أسباب عامة، تسري على العاروري وعلى غيره من القيادات المستهدفة.
كما أنها تعبّر أيضًا عن حالة الارتباك والتخبط التي تهيمن على إدارة إسرائيل للصراع مع المقاومة، وعدم وجود رؤية واضحة لمستقبل الحرب في غزة.
ثم إن هذه الأسباب لا يمكن تقديم أحدها على الآخر، اللهم إلَّا من ناحية الترتيب الزمني، والأوزان النسبية لأهميتها؛ لأنها تعبّر مجتمعةً عن الهدف الإسرائيلي من الاغتيالات، وهو استعادة الثقة، وتحقيق إنجاز يمكن اعتباره صورة نصر، وتسويقه للمجتمع الإسرائيلي في حالة اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب.
6 – مآلات عمليات الاغتيال
لم تكن عملية اغتيال العاروري ضربة قوية لحركة حماس وحدها، وإنما هي ضربة أقوى لحزب الله اللبناني، الذي نفذت العملية في معقله بالعاصمة بيروت، الأمر الذي يضعنا أمام أحد المآلين التاليين:
- تمسك حزب الله بقواعد الاشتباك الحالية، والاتزان في الرد، وعدم التصعيد، حتى لا يَجر لبنان إلى مصير مشابه لمصير قطاع غزة.
- قيام حزب الله بعملية تؤدي إلى اتساع حالة التصعيد، ودخول الحزب في حرب شاملة ومباشرة مع إسرائيل، وتحوُّل الحرب إلى حرب إقليمية.
وأقرب المآلين إلى الواقع الحالي هو أولهما؛ لأن حزب الله لن يُغامر في هذا الظرف بتقديم المبرر لهجوم إسرائيلي كبير على لبنان، وسوف يكتفي بما يقوم به من عمليات في إطار إسناد المقاومة الفلسطينية وإشغال الجيش الإسرائيلي.
وقد يؤدي عدم الرد على اغتيال قيادات أخرى من حركة حماس ومحور المقاومة إلى فتح مجال لإنهاء الحرب بشكلها الحالي، والانتقال إلى مرحلة أقل شدة، خاصَّة إذا اعتبر اليمين الإسرائيلي هذه الاغتيالات إنجازًا ضد حماس وحزب الله معًا، ورَضِي بالبناء على هذا الإنجاز للانتقال إلى مسار سياسي.
ويساعد في الوصول إلى هذه الحالة أن تستمر مساعي الولايات المتحدة في الضغط على إيران ولبنان لمنع حزب الله من القيام بمزيدٍ من التصعيد.
7 – حماس والرد بالمثل
لا توجد معلومة حول قدرة حركة حماس على الرَّد بالمثل على الاغتيالات الإسرائيلية التي تستهدف قياداتها وناشطيها والمتعاونين معها.
كذلك فإن سِجِل الحركة في هذا الشأن يَخلو من عمليات استهداف للشخصيات الإسرائيلية، سواء كانت عمليات ناجحة أو فاشلة.
ولم يُعهَد عن الحركة أنها ردت على اغتيال قادتها باغتيال إسرائيليّين، رغم اغتيال قادة كبار منها، على رأسهم الشيخ أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، وأحمد الجعبري، ونزار ريان، وسعيد صيام وصلاح شحاده.
ولهذا فإنه على المستوى العملي، لا يوجد ما يُشير إلى قدرة حركة حماس على القيام بعمليات اغتيال، هي في الأصل صعبة ومعقدة بالنسبة لدول تمتلك إمكانيات إستخباراتية وتكنولوجية وبشرية ومادية لا تملكها الحركة، مثل إيران، التي اغتالت إسرائيل بعض علمائها في مجال الطاقة النووية، ومنهم محسن فخري زاده، ولكنها لم تستطع أن ترد على هذا الاغتيال وغيره بالمثل حتى الآن.
كذلك فإن اتجاه الحركة إلى القيام بعمليات اغتيال سوف يُعرّضها لخسارة دبلوماسية، لأن ميدان هذه الاغتيالات هو الدول التي يتواجد فيه الإسرائيليون، الأمر الذي سوف يُفقِد الحركة تأييد هذه الدول إن كانت مؤيدة لها أو متعاطفة معها، ويُحوّل الدول المحايدة إلى دول معادية لها، وهو ما لا يصب في مصلحة المقاومة الحريصة على توسيع رقعة علاقتها بمختلف الدول لخدمة القضية الفلسطينية.
هذا بالإضافة إلى عدم قدرة الحركة على توفير الغطاء السياسي الذي يتوفر لإسرائيل عند القيام بعمليات الاغتيال، فيَحميها من الاتهام بارتكاب أعمال تنتهك مقررات القوانين الدولية، ويَحول دون اتهماها بالإرهاب.
وعلى المستوى الشعبي، يُعَد انخراط حماس في القيام بمثل هذه العمليات خصمًا من رصيد التعاطف الذي حظيت به القضية الفلسطينية على مستوى الشعوب في جميع أنحاء العالم، خاصَّة في الدول الغربية، التي يتنامى فيها التعاطف مع الفلسطينيّين، بوصفهم أصحاب قضية تحرير وطني عادلة.
8 – سيناريوهات الرد على الاغتيالات
لم يُعهَد عن حركة حماس اللجوء إلى الاغتيالات في الرد على عمليات الاغتيال التي تقوم بها إسرائيل ضد قياداتها. ولكن في ظِل التطورات التي أفرزتها عملية “طوفان الأقصى”، يمكن طرح السيناريوهات التالية، كسيناريوهات محتملة لطريقة الرَّد التي قد تعتمدها حركة حماس.
سيناريو (1): الرَّد بالمثل
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
قيام حركة حماس بعمليات اغتيال، في كل مكان يمكن للحركة الوصول فيه إلى الإسرائيليّين، في إطار الرَّد بالمثل. | تعرُّض المقاومة لهزيمة كاملة، وانتهاء سيطرتها على قطاع غزة. انعدام الاعتبارات القانونية والدبلوماسية والسياسية بالنسبة للحركة. امتلاك حماس القدرة العمليَّة على القيام بعمليات الاغتيال.تغيير الحركة قواعد الاشتباك مع إسرائيل.وجود مساعدات من جهات داعمة. | توسيع رقعة المواجهة وانتقالها إلى خارج فلسطين.قيام حماس بمحاولات اغتيال للشخصات الإسرائيلية.النجاح في اغتيال شخصيات بالفعل. |
وهذا السيناريو مُستبعَد في الوقت الراهن، ويَصعُب تحقيقه في ظِل اشتباك حركة حماس مع جيش الاحتلال في حرب تحتاج إلى حشد الدعم الشعبي والحكومي في كل مكان، ولخطورة تنفيذه على علاقات الحركة الخارجية، التي تحكمها حسابات المصلحة العليا للقضية الفلسطينية، واستثمار هذه العلاقات في دعم المقاومة.
ولكن، قد يكون اللجوء إلى هذا السيناريو هو أحد الحلول الأخيرة بالنسبة للحركة إذا ما تعرَّضت لهزيمة كاملة، وفقدت سيطرتها على قطاع غزة، الأمر الذي سوف يجعل مخاطر تنفيذ هذا السيناريو والعدم سواء.
سيناريو (2): الرَّد المحدود
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
القيام بعمليات اغتيال في الداخل الإسرائيلي، وفي الضفة الغربية ومدينة القدس. | إمكانية الوصول إلى الشخصيات الإسرائيلية.وجود مناطق تماس مع الإسرائيليّين، تتواجد فيها قيادات عسكرية وأمنية وتنفيذية يمكن استهدافها. | استهداف المسؤولين الإسرائيليّين في مناطق التماس.النجاح في اغتيال شخصيات إسرائيلية. |
هذا السيناريو هو الأفضل لحركة حماس، لأنه لا يهدد علاقاتها بالخارج، ويأتي ضمن حقها المشروع في مقاومة الاحتلال، ولا يحتاج إلى كل التعقيدات الاستخباراتية والتكنولوجية التي تحتاجها الاغتيالات الخارجية، ويستفيد من حالة التماس مع الإسرائيليّين.
هذا بالإضافة إلى أن الاغتيالات الداخلية يمكن أن تسهم في تبادل الردع، والضغط على إسرائيل لوقف خطتها للاغتيالات أو عدم التوسع فيها.
وعلى مستوى المقاومة وأنصارها، يمكن أن تؤدي مثل هذه العمليات إلى رفع الروح المعنوية لأفراد الحركة وأنصارها.
سيناريو (3): عدم الرَّد
التوصيف | عوامل التحقق | الاستجابة للسيناريو |
امتناع حماس عن الرَّد بالمثل، مثلما حدث في حوادث الاغتيال السابقة التي استهدفت قياداتها. | استمرار الاشتباكات العسكرية، وصمود المقاومة.افتقاد الحركة للقدرة على القيام بعمليات اغتيال. تمسك المقاومة بتقديم علاقاتها ومصالحها العليا على الانتقام لقياداتها.قدرة الحركة على شغل مناصب ومواقع القيادات. عدم تأثر قيادة الحركة وصفوفها بالاغتيالات. | امتصاص الضربات التي تتعرَّض لها الحركة بسبب الاغتيالات.عدم القيام برد فعل على الاغتيالات. |
هذا السيناريو هو الأقل كلفة بالنسبة لحركة حماس إذا ما زادت من الاحتياطات الأمنية، وفوتت على الإسرائيليّين فرصة اغتيال قياداتها بسهولة.
ولكن هذا السيناريو يحتاج من الحركة إلى تحشيد المجتمع الدولي ضد إسرائيل، وإطلاق حملة ضد ممارساتها غير القانونية، والتي تنتهك سيادة الدول التي تستضيف قيادات حماس والمتعاونين معها، مستغلة حالة الغضب التي تواجهها إسرائيل بسبب انتهاكها للقوانين الدولية.
كما أن هذا السيناريو هو الأقرب لسياسة حماس، التي تتحمَّل خسائر الاغتيالات في مقابل الفوائد التي تجنيها من علاقاتها الخارجية، وتعوض قياداتها، وتستثمر شهادتهم في تقوية روح الجهاد والتضحية عند أفرادها.
وبمقارنة السيناريوهات الثلاثة، نجد أن السيناريو الأقرب للتحقق – على ضوء المعطيات الراهنة – هو الأخير، وهو عدم الرَّد بالمثل. أما السيناريو الأنسب فهو السيناريو الثاني، الذي يمكن تطبيقه في ظل الاشتباكات العسكرية الحالية.
خاتمة
لا شك أن حادث اغتيال صالح العاروري هو أكبر من أن يُنظَر إليه على أنه مجرد عملية اغتيال لقائد مهم في حركة حماس، يمكن تعويضه بقيادة جديدة، كما حدث في حالات سابقة.
فبالنظر إلى الحادث في سياق التطورات الميدانية، نجد أن هذا التصعيد، في هذه المرحلة من الحرب، يَحمل الكثير من الدلالات، ويمكن أن يكون مقدمة لتطورات أخرى، تُفضِي إلى مزيدٍ من التصعيد، أو تكون خطوة في سبيل الانتقال إلى مرحلة جديدة تتسم بتخفيض حدة المواجهة بين جيش الاحتلال والمقاومة في قطاع غزة.
جاء حادث الاغتيال ليحقق كثيرًا من الأهداف بالنسبة لإسرائيل، منها الانتقام، وإعادة الثقة إلى الإسرائيليّين في مؤسساتهم الأمنية والعسكرية، والتأثير على أداء المقاومة، وتحقيق شكل من أشكال النصر لحكومة نتنياهو التي تواجه أزمة كبيرة بسبب خسائرها في المواجهة العسكرية.
وكما كشف الحادث عن الأزمة التي تعانيها إسرائيل في حربها في غزة، الأمر الذي دفعها إلى هذا التصعيد الخطير، فإنه كشف أيضًا عن قصور أمني كبير في جانب حركة حماس وحزب الله في تأمين قيادات كبيرة مثل العاروري.
[1] – The Wall Street Journal, Israel Plans to Kill Hamas Leaders Around the World After War, 01-12-2023, https://2u.pw/JBU6mYE
[2] – The Guardian, Israeli campaign to kill Hamas leaders likely to backfire, say earlier assassination targets, 23-12-2023 , https://2h.ae/zbPm
[3] – الحرة، “أصدرت تعليماتي”.. خطة إسرائيلية لتصفية قادة حماس “أينما كانوا”، 1 ديسمبر 2024، https://2h.ae/hRDc
[4] – الجزيرة، حملة إسرائيل لاغتيال قادة حماس قد تأتي بنتائج عكسية، 24 ديسمبر 2024، https://2h.ae/xtNf
[5] – فرانس 24، حماس تعلن مقتل نائب رئيس مكتبها السياسي صالح العاروري، 2 يناير 2024، https://2h.ae/VuDh
[6] – الشرق الأوسط، العاروري… 10 سنوات من التهديد والمطاردة، 3 يناير 2024، https://2h.ae/VkAj
[7] – لبنان 24، حملة إسرائيل لاغتيال قادة “حماس” قد تأتي بنتائج عكسية، 24 ديسمبر 2023، https://2h.ae/JUVd
[8] – الأهرام، “نتنياهو” يهدف لإطالة أمد الحرب بغزة لحين إجراء الانتخابات الأمريكية، 17 يناير 2024، https://2h.ae/Mkea