تقدير موقف

اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل التوقيت والتنازلات والمكاسب

للتحميل والقراءة بصيغة PDF

مقدمة

بعد عامين من المفاوضات عبر الوسيط الأمريكي، أعلن لبنان قبول مقترحات الولايات المتحدة من أجل ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني، وإنهاء النزاع على الثروات الطبيعية في المنطقة المتنازع عليها بينهما.

وقد أثارت هذه الاتفاقية حالة من الجدل حول توقيتها، وحجم التنازلات المقدمة من الطرفين، والمكاسب التي جنتها إسرائيل من وراء الموافقة عليها، وانعكاساتها على المنطقة.

وتحاول هذه الورقة تغطية هذه النقاط الأربع، من خلال إلقاء الضوء على الاتفاقية، ودوافع الدول ذات الصلة لإتمامها في هذا التوقيت، والتنازلات اللبنانية، وموقف حزب الله الذي طرأ عليه تغيّر براغماتي ملحوظ، ومكاسب إسرائيل العديدة، وأثر الاتفاقية على ملفات الغاز في فلسطين وتركيا.

1 – ترسيم الحدود البحرية

سلمت الولايات المتحدة للبنان في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2022 رسالة خطيّة من الوسيط الأمريكي آموس هوكشتاين، حول الاقتراحات المتعلقة بترسيم حدودها البحرية مع إسرائيل، والتي تقضي بالوصول إلى حلول وسط لإزالة العقبات من أمام عمليات التنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما في المنطقة البحرية المتنازع عليها بين الجانبين.

ويتنازع الطرفان بشأن مساحة بحرية تقدر بنحو 860 كيلومترًا مربعة، تُعرف حدودها بالخط 23، إلا أن لبنان اعتبر في وقت لاحق أن الخريطة استندت إلى “تقديرات خاطئة”، وطالب بالبحث في مساحة 1430 كيلو مترًا مربعة إضافية، تشمل أجزاءً من حقل “كاريش” وتُعرف بالخط 29.

وبعد إزالة الخلافات على بعض ما ورد في اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، أبدت إسرائيل ولبنان موافقة “مبدئية” على الاتفاقية، بناءً على مقترح الوسيط الأمريكي، كخطوة أولى نحو تمريرها بشكل قانوني.

وتهدف الاتفاقية إلى رسم الحدود بين المياه اللبنانية والإسرائيلية للمرة الأولى بين البلدين، ووضع آلية لحصول كل منهما على عوائد من استكشاف الغاز الذي يمتد عبر الحدود.

وتنص الاتفاقية على أن حقل كاريش سيكون تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وتسيطر لبنان على حقل قانا، وستحصل إسرائيل على بعض من عوائد هذ الحقل نظير الجزء الموجود منه داخل حدودها. ورسم خط الحدود البحرية على أساس الخط 23.

جاءت تعليقات الجانبين اللبناني والإسرائيلي لتؤكد أن الاتفاق مُرضيّ لهما، فمن جانبه اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، أن الاتفاق “تاريخي”، ووافق مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر بالأغلبية على الصيغة النهائية المطروحة.

على الجانب الآخر، اعتبرت الرئاسة اللبنانية الاتفاقية “مرضية للبنان وتلبي مطالبه وحافظت على حقوقه في ثروته الطبيعية”.

2 – دلالات التوقيت

جاء الإعلان عن الاتفاقية في وقت احتاجت فيه جميع الأطراف ذات الصلة إلى التسريع في إمضائها، لحسابات داخلية وخارجية.

فالولايات المتحدة، الراعية للاتفاقية، تحتاج إلى إتمامها، لأنها سوف تكون أول انتصار كبير لسياسة الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط، وهو ما يحتاج إليه قبيل الانتخابات النصفية للكونجرس، المزمع إقامتها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، والتي تأتي في ظل تراجع شعبية الديمقراطيّين وإخفاقات إدارة بايدن، وحاجة الأخير إلى دعم اللوبي اليهودي.

ولهذا فقد وصف الرئيس الأمريكي بايدن الاتفاقية بأنها “اختراق تاريخي في الشرق الأوسط”، لكونها أهم إنجاز دبلوماسي لإدارته في الصراع العربي الإسرائيلي.

كما أن توقيع الاتفاقية وشروع تل‌أبيب في إنتاج الغاز سوف يساعدان في تهدئة الأسواق وتأمين المزيد من الغاز الطبيعي لأوروبا التي من المتوقع أن تواجه ضغوطًا في الطاقة هذا الشتاء في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو ما يقوي التحالف الغربي المناهض لروسيا، والذي تتزعمه الولايات المتحدة.

أما الجانب الإسرائيلي فإنه يحتاج إلى هذه الاتفاقية لما يمكن أن تمثله من زخم لحكومة تصريف الأعمال التي سوف تجري انتخابات في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، والتي تهدد بعودة بنيامبن نتنياهو إلى الحكم مرة أخرى، ولهذا فهي في حاجة إلى إنجاز يحسب لها.

ولهذا، عمدت الحكومة الإسرائيلية إلى إبراز المكسب السياسي والأمني للاتفاقية، خاصة فيما يرتبط بتحييد حزب الله وإضعاف النفوذ الإيراني في لبنان، وهو ما رأى فيه البعض مبالغة مقصودة لأهداف انتخابية، حتى وإن تحقق بشكل من الأشكال.

وإذا انتقلنا إلى لبنان فسنجد أن الاتفاق يُعد مكسبًا سياسيًّا لحكومة تصريف الأعمال الحالية، وللرئيس ميشال عون المقرر انتهاء ولايته في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، ويحتاج إلى ترك إنجاز يحسب له ويقوي وضع حلفائه في اختيار الرئيس المقبل وتحديد شكل الوزراة اللبنانية.

ولعل الأهم من ذلك هو أن البلاد تعاني حاليًا من واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في العالم، حيث انخفض الناتج المحلي، وانهارت قيمة العملة، وزادت معدلات الفقر.

ولهذا فإن الوصول إلى إمدادات كبيرة من الغاز الطبيعي يمكن أن يساعد في قلب هذه المشاكل الاقتصادية ويعطي بيروت فرصة أفضل في تعاملها مع المؤسسات المالية الدولية. ولكن هذا يحتاج إلى وقت بسبب تأخر لبنان في عمليات التنقيب والإنتاج، كما يحتاج إلى ضمانات وضوابط للحفاظ على ثروة الشعب اللبناني في ظل حالة الفساد المستشري في البلاد.

3 – تنازلات الحكومة اللبنانية

منذ الإعلان عن وصول لبنان وإسرائيل لاتفاقية يتم بموجبها ترسيم الحدود البحرية وكبار المسؤولين في لبنان يؤكدون على عدم تقديم تنازلات للجانب الإسرائيلي، والحصول على كامل الحقوق اللبنانية، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، الذي شدد على أن “ضمان حقوق لبنان أمر أساسي ولا تنازل عنها”[1].

ولكن حقيقة الاتفاقية هي الوصول لحلول وسط ترضي الطرفين، ويتنازل بموجبها الطرف اللبناني عن بعض حقوقه الأصيلة، والطرف الإسرائيلي عن بعض ما يعتبره حقوقًا لدولة الاحتلال.

ويمكن رصد التنازلات اللبنانية في النقاط التالية:

  • قبول بيروت بالمفاوضات المباشرة من خلال طرف ثالث، هو الوسيط الأمريكي، وعدم الاحتكام إلى القوانين الدولية المنظمة لعمليات ترسيم الحدود البحرية (قانون البحار في هذه الحالة)، وهو خيار إسرائيل، لأن تحييد القانون الدولي يمنح تل‌أبيب حق الاعتراض، ويمكنها من فرض شروط وإملاءات لا تتوافق مع القوانين المذكورة.
  • الموافقة على إبقاء “خط العوامات” الذي أقامته إسرائيل بموازاة الساحل بعد الانسحاب من جنوب لبنان، وبعمق 5 كيلومتر، وهو خط استراتيجي من الناحية الأمنية، ويعتبر خط دفاع ضد أي اقتحام لأراضي دولة الاحتلال عن طريق البحر.
  • الرضوخ لرغبة إسرائيل بجعل الخط 23 أساسًا للتقسيم، بدلًا من الخط 29، وهو ما يقلص المساحة المتنازع عليها إلى 860 كم، بدلًا من 2290 كم، ما يجعل حقل كاريش بالكامل وجزءًا من حقل قانا داخل الحدود الإسرائيلية، وبهذا خرج حقل كاريش كله من الحدود اللبنانية، وصار جزءٌ من حقل قانا داخل الحدود الإسرائيلية.
  • حصول إسرائيل على نسبة من عائدات بيع الغاز المستخرج من حقل قانا وأي اكتشافات أخرى للغاز في الحقول التي تمتد داخل الحدود الإسرائيلية التي توسعت باختيار الخط 23.

وقد أكد الجانب الإسرائيلي من خلال مسؤوليه على أن جميع مطالبهم قد تمّت تلبيتها، وتمَّ تصحيح التغييرات التي طلبوها من اللبنانيّين، لحماية المصالح الإسرائيلية.

وعلى الرغم من هذه التنازلات فإن الجانب الإسرائيلي فيه مَن يُروّج لوجود تنازلات من جانب تل‌أبيب، وهم رموز المعارضة والمتطرفون اليهود، الذين يزعمون أنه لم يكن مِن المنطقي بالنسبة لإسرائيل أن تتنازل بعد الآن، لأنها العامل الأقوى، اقتصاديًّا وحيويًّا، أمام لبنان، الذي هو في وضع اقتصادي صعب للغاية، خاصة في أزمة الطاقة.

والتنازل المقصود من جانب الإسرائيليّين هو “القبول” بإعادة بعض الحقوق إلى أصحابها اللبنانيّين، في ظل وضع لبناني سيء، ويمكن فيه الضغط على صانع القرار اللبناني من أجل مزيد من التنازلات.

4 – موقف حزب الله

وصف الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بأنها “خطوة مهمة جدًّا”، وأعلن تأييده للاتفاقية إذا وافق المسؤولون اللبنانيُّون على العرض الذي تقدم به الوسيط الأمريكي في المفاوضات.

وصور الحزب وأنصاره موقفهم من ترسيم الحدود على أنه انتصار للحزب الذي أجبر إسرائيل على قبول الاتفاقية بعد أن هدد باستهداف منصات الغاز الإسرائيلية في حال إقدامها على استخراج الغاز قبل الاتفاق مع لبنان.

أثار موقف حزب الله حالة من الجدل بين أولئك الذين رأوا فيه تعرية لشعارات المقاومة، وانخراطًا غير مباشر من جانب الحزب في ملف التفاوض، وقبولًا ضمنيًّا بالتنازلات التي أقدمت عليها الحكومة وأتاحت للإسرائيليّين التمدد في المياه اللبنانية، وتقديمًا لضرورات العيش على مبادئ المقاومة بسبب الضغوط الاقتصادية الخانقة، واعترافًا ضمنيًّا بدولة الاحتلال.

ثمَّة أسباب كثيرة دعت حزب الله إلى الموافقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، منها ما يلي:

  • حاجة الحزب إلى هدنة طويلة الأمد على الحدود الجنوبية بسبب تشتت قواه في ميادين عديدة للصراع، أبرزها سوريا واليمن.
  • خوف الحزب من تحمل عواقبل إفشال عملية استخراج الثروة اللبنانية المتمثلة في الغاز في هذه المرحلة الحرجة التي تشهد انهيار الاقتصاد اللبناني.
  • فصل الحزب بين ملف الحدود البرية وملف الحدود البحرية، لتمسكه بعدم ترسيم الحدود البرية مع إسرائيل وسوريا، حتى تظل قضية مزارع شبعا معلقة، وتظل هناك شرعية لسلاح المقاومة.
  • مرور الحزب بمرحلة حرجة بسبب موقفه من الحروب في سورية واليمن وتقلص شعبيته في المنطقة، بعد أن ساعد في قمع الشعبين السوري واليمني.
  • الاتهامات التي توجه إلى الحزب بأنه سبب من أسباب فشل الحياة السياسية وانهيار الأوضاع الاقتصادية في البلاد.
  • إحساس الحزب بالمسؤولية تجاه الدولة اللبنانية المرشحة للسقوط بعد أن أحكم سيطرته على النظام الحاكم، وخوفه من تردي الأوضاع حال استمرار الأزمة.
  • وجود تعهدات شفوية من جانب حزب الله وإسرائيل بعدم استفزاز أي منهما للآخر، بعد أن وجد كل منهما أن مصلحته في استخراج الغاز والنفط وليست في التورط في حرب.
  • حاجة الحزب إلى مصادر تمويل للدولة لا تعتمد اعتمادًا كليًّا على الخارج الذي يرفض التمويل (السعودية والخليج) أو لا يمكنه تلبية كل احتياجات لبنان بسبب ظروفه الخاصة (إيران). 

وعلى كل حال، فقد ظهر حزب الله في صورة البراغماتي الذي يتجاوز الشعارات ويُعلي من شأن المصلحة، بغض النظر عما يثار عن وجود تفاهمات مع إيران من أجل الإيعاز للحزب بالموافقة على الاتفاقية، وقد تكون هذه بداية لسياسة جديدة تقوم على عدم استخدام الحدود اللبنانية والجبهة الجنوبية كساحة لتهديد إسرائيل.

5 – مكاسب إسرائيل من الاتفاقية

لا شك أن للاتفاقية المزمع توقيعها بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية إمكانيات استراتيجية كبيرة على المدى الطويل، وسوف تجني إسرائيل – حال التوقيع على هذه الاتفاقية وسريانها – العديد من المكاسب، الاقتصادية والسياسية والأمنية، وهو ما عبَّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد، الذي قال إن هذه الاتفاقية إنجاز تاريخي سيعزز أمن إسرائيل، وسيدخل المليارات لخزينة الدولة، ويضمن الاستقرار على الحدود الشمالية[2].

  • المكسب الاقتصادي

تضمنت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية للكيان الصهيوني الحصول على كامل حقل “كاريش”، الواقع ضمن الخط 29 من الجانب الإسرائيلي. وتقدر احتياطيات الغاز في الحقل بـ 1.3 تريليون قدم مكعب.

وتعول إسرائيل على الغاز المنتظر استخراجه من حقل كاريش في زيادة حصتها من الغاز المصدر إلى أوروبا، في وقت تسعى فيه الدول الأوروبية إلى تنويع إمدادتها من مصادر الطاقة بسبب الآثار المترتبة على الغزو الروسي لأوكرانيا.

كما ستبدأ الحفريات في حقل الغاز المحتمل في الجانب اللبناني المسمى “قانا”، الواقع عند حدود خط 23، ما يعني أن إسرائيل سوف تحصل على جزء من عائدات هذا الحقل في حال بدأ استخراج الغاز منه. وتبلغ حصة إسرائيل من حقل قانا نحو 17 في المئة تقريبًا.

وبحسب تقديرات وزارة الطاقة الإسرائيلية فإن إجمالي الأرباح يتوقع أن يكون 3 مليارات دولار، وستحصل إسرائيل منهم على 500 مليون دولار.

وحول الفائدة الكبرى التي سوف تعود على إسرائيل من اعتراف لبنان بحقها في حقول الغاز، قدرت صحيفة Les Echos الفرنسية كمية الغاز التي سوف يحصل عليها الإسرائيليون بـ100 مليار متر مكعب، وهو ما قد يكون بحجم خسائر حروب 70 سنة. ووصفت المجلة سلوك حكام بيروت الذين تنازلوا لإسرائيل بأنه يدل على أنهم إما “أغبياء” أو “مجرمون”[3].

ومع زيادة الكميات التي سوف تنتجها الحقول الجديدة من الغاز، يمكن لإسرائيل أن تتحول إلى لاعب مهم في سوق الطاقة الدولية، ما سيعزز مكانتها الجيوسياسية في المنطقة، ويمنحها وسيلة ضغط سياسي جديدة، بسبب أزمة الطاقة العالمية وحاجة الغرب إلى المزيد من الغاز.

  • التطبيع العملي

أثار الإعلان عن قرب التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية تساؤلات عن إمكانية أن تكون هذه الاتفاقية مقدمة للتطبيع الكامل بين لبنان وإسرائيل، خاصة وأنها جاءت بعد مرحلة “اتفاقات أبراهام” التي فتحت عهدًا جديدًا من القبول والاعتراف والتطبيع بين دول عربية وإسرائيل.

قد لا تكون هذه الاتفاقية تطبيعًا “رسميًّا” بين الدولتين، ولكن لابد من الإقرار بأن أي تعامل رسمي مع إسرائيل هو بحكم اعتراف فعلي بها كدولة، خاصة إذ كان هذا التعامل طويل الأمد.

يقول الدبلوماسي الإسرائيلي، فريدي إيتان، إنه على الرغم من أن المفاوضات مع لبنان محدودة في الزمان والمكان، فإنها تقدم “اعترافًا” بحكم الأمر الواقع بوجود دولة إسرائيل المجاورة.

وذكر موقع “واللا” الإسرائيلي أن الاتفاق الحالي بعيد كل البعد عن اتفاق سلام، ولكنه بالتأكيد يحمل رائحة أولية للتطبيع. وأوضح الموقع أن الاتفاق مع لبنان ليس مجرد اتفاق اقتصادي بشأن توزيع أرباح الغاز الطبيعي، واصفًا إياه بـ”الاتفاق السياسي غير المسبوق”.

وأرجع الموقع الإسرائيلي أهمية ذلك الاتفاق إلى أنه للمرة الأولى منذ قيام إسرائيل يُبرِم لبنان معها اتفاقًا دوليًّا مُلزمًا يُنهي نزاعًا سياسيًّا واقتصاديًّا بين البلدين[4].

وعلى الرغم من رفض المسؤولين اللبنانيّين الإقرار بأن هذه الاتفاقية خطوة على طريق التطبيع، فإن التوقيع على اتفاقية خاصة بأمور الحدود بوساطة أمريكية والتعهد بالالتزام بما يترتب عليها، وتسليمها للأمم المتحدة لتكون وثيقة رسمية معترف بها دوليًّا، جزء من استراتيجيات التطبيع الي تلجأ إليها إسرائيل، وهو ما نفذته مع السعودية في ترتيبات نقل جزيرتي تيران وصنافير بوساطة أمريكية، ما اعتبره المراقبون حينها بداية للتطبيع بين الطرفين.

هذا بالإضافة إلى أن فكرة التطبيع ليست مستبعدة بالنسبة للبنانيّين، فقد جرت 12 جولة من المحادثات بين الطرفين بعد مؤتمر مدريد للسلام في 1991، وتمَّ تبادل مسودة اتفاق سلام بينهما، شمل الاعتراف المتبادل بالسيادة، وحسن الجوار، والعلاقات الدبلوماسية، والتنسيق الأمني، والتطبيع. وهو المسار الذي توقف بضغوط سورية حينها.

  • المكسب الأمني

يُعد إبرام اتفاق ترسيم الحدود بمثابة تأسيس لتهدئة مستدامة على الحدود الشمالية للكيان الصهيوني وإبعاد احتمالية التصعيد مع حزب الله. فبرغم أن الاتفاقية اقتصادية في جوهرها فإن الجانب الأمني المترتيب عليها لا يقل أهمية بالنسبة لصانع القرار في تل‌أبيب، وهو إحلال الاستقرار على الحدود الشمالية لدولة الاحتلال.

فربط المصالح اللبنانية بالمصالح الإسرائيلية سوف يدفع لبنان إلى التمسك بالهدوء، حفاظًا على منافعه من الاتفاقية، بل وسينتج ضغطًا داخليًّا على حزب الله من أجل عدم التصعيد الأمني مع الإسرائيليّين بسبب الحالة المتردية للدولة اللبنانية وحاجتها إلى الدخل الناتج عن استثمار هذا المورد الطبيعي.

وسيكون حزب الله مطالبًا بشدة، أن يلتزم جانب التهدئة والهدوء، باعتبار أن ثمن عودته عن الاتفاق في أي مرحلة مقبلة، سيكون باهظًا، وسوف يختصم من رصيده، وسيكرس الاتهامات الموجهة للحزب بوقوفه في وجه المصالح اللبنانية.

كما ترسي الاتفاقية دعائم هدنة مستدامة، ومقبولة من الطرفين، لأنها تتميز هذه المرة بـ”توازن الردع المتبادل”، وهو ما يمكن استخلاصه من تصريحات الإسرائيليين الذين أكدوا على أن هذا الاتفاق يُبعِد إمكان اندلاع مواجهات مسلحة مع حزب الله، وأن إسرائيل لا تخشى حزب الله، ولكن من مسؤولية الحكومة أن تتجنب الحرب إن كان ذلك ممكنًا[5].

ولعل المكسب الأمني الآخر الذي سوف تجنيه إسرائيل من الهدنة المنتظرة، هو وضع سلاح حزب الله في حالة من الجدل بين اللبنانيّين الذين سوف يتساءلون عن جدوى هذا السلاح في ظل استقرار الأوضاع الأمنية وقبول الحزب للمفاوضات كأساس للتعامل مع إسرائيل، وهو ما يقوض شرعية سلاح المقاومة.

  • الاندماج الإقليمي

في السياق الإقليمي، يمكن النظر إلى الاتفاقية على أنها خطوة على طريق الاندماج الإسرائيلي في المنطقة، والذي تزايدت وتيرته بعد اتفاقات أبراهام والتطبيع مع دول عربية، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي بايدن في قوله إن “الاتفاقية تحمي المصالح الأمنية والاقتصادية لإسرائيل، وهي ذات أهمية لتعزيز تكاملها الإقليمي”[6].

ويقوم هذا الاندماج على الشراكة والتحالف الاستراتيجيّين، عبر الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية الضخمة التي تربط مصالح الدول العربية بمصالح إسرائيل، كما حدث في اتفاقيات الدفاع والاستثمار والسياحة والطاقة والنقل والمصارف والتجارة والزراعة وأسواق المال والتكنولوجيا مع الإمارات، واتفاقية تصدير الغاز إلى مصر، والتعاون معها في تصدير الغاز إلى أوروبا.

وإذا ما تمَّ التصديق على الاتفاقية وإقرارها، ستكون هناك إمكانية لإقامة تعاون إقليمي في شرق المتوسط – الذي يحتوي على ما يقدر بحولي بحوالي 1.7 مليار برميل نفط و122 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي – يقوم على الشراكة بين إسرائيل ولبنان ومصر في تصدير الغاز إلى أوروبا، عبر التعاون مع دول مثل قبرص واليونان، وهو ما سيؤدي إلى زيادة اندماج إسرائيل في المنطقة على أساس المصالح المشتركة التي سوف تدعو أصحابها إلى التقارب وإزالة الخلافات.

وقد سبق أن رأينا مثالًا للاندماج في المنطقة من خلال ما يمكن تسميته “التطبيع الطاقي” في اتفاقيات الغاز التي وقعت بين مصر وإسرائيل، ثم تعمقت بإطلاق منتدى الغاز الذي تحول إلى منظمة إقليمية في العام 2020، وهذا ما سهّل دمج كيان العدو في إطار مؤسسي أممي لا يحوي دول الجوار فقط، بل مراقبين دوليّين أيضًا، مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

كما رأيناه أيضًا في إعلان النوايا بين إسرائيل والأردن حول مشروع مشترك لتبادل الكهرباء والمياه، وتوقيع الإمارات عقد شراء حصة في حقل “تمار” للغاز الطبيعي الواقع تحت سيطرة دولة الاحتلال الإسرائيلي في شرق البحر المتوسط.

  • إضعاف النفوذ الإيراني

يرى المسؤولون الإسرائيليون أن المصلحة الإسرائيلية تكمن في إبعاد لبنان عن إيران، وأن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية سوف “تضعف اعتماد لبنان على إيران، وستكبح جماج حزب الله اللبناني”، بحسب ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي، يائير لابيد.

وقد أوضح وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، عومير بارليف، هذا التصور بقوله إن “لبنان يعتمد بشكل أساسي، على النفط والغاز الإيرانيّين، ومن مصلحة إسرائيل أن تكون للبنان قدرة إمداد ذاتي للغاز الطبيعي، دون الاعتماد مرة ثانية على إيران، مشيرًا إلى أن لهذا الأمر دلالة استراتيجية كبيرة”[7].

وقد أكد المحلل السياسي الأردني، عامر السبايلة، أن الاتفاق يُضعِف ارتباط لبنان بإيران، وقال: “بلا شك يُضعِف الاتفاق ارتباط إيران بلبنان، لأن لبنان يريد أن يخط طريقًا مختلفًا للبحث عن مصالحه بعيدًا عن أي طرق أخرى”.

ولكن في المقابل، استبعد آخرون إمكانية أن تخفف الاتفاقية من تبعية لبنان لإيران، بل ذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك، بقولهم إن الاتفاق الذي حصل هو بين إيران وإسرائيل أكثر مما هو بين لبنان وإسرائيل، لا سيما أن نتائجه بدأت تظهر في إيران، حيث تمَّ إطلاق سراح معتقلين أمريكيين لدى إيران، كما أن هناك حديثًا حول نيَّة واشنطن الإفراج عن حسابات مصرفية محتجزة للنظام الإيراني، بالإضافة إلى وجود معلومات عن إعطاء ضوء أخضر أمريكي لإيران من أجل تصدير مزيد من نفطها إلى الخارج، بجانب اتفاقيات بين طهران والحكومة اللبنانية لتصدير النفط إلى لبنان[8].

واستدل أصحاب هذا الرأي بأن حزب الله مساهم في الإنجاز الذي تحقق من خلال ضغطه على إسرائيل وتهديده باستخدام القوة، وتأييده للحكومة الحالية في عملية التفاوض، وقبوله بالنتائج النهائية.

ولكن الحقيقة هي أن ترسيم الحدود مع إسرائيل بما هو “تطبيع عملي” ليس فيه الآن ما يرضي إيران، حتى وإن قبلت به، لأنه نكسة لمشاريعها في لبنان الذي يمكن أن ينتعش معتمدًا على ثرواته الطبيعية، وضربة لمحور المقاومة الذي تدعمه إيران، وفي القلب منه حزب الله، الذي يستمد شرعيته من عدم الاعتراف بإسرائيل ومقاومتها بالسلاح.

6 – انعكاسات الاتفاقية على المنطقة

ثمَّة انعكاسات لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل على المنطقة. ويمكن رصد هذه الانعكاسات من خلال تتبع آثار الاتفاقية على ملف الغاز الفلسطيني الموجود بالقرب من شواطئ غزة، والذي تعيق إسرائيل العمل استخراجه، والتحركات التركية التي استبقت الاتفاقية، وموقف الإسلاميين من التطبيع الذي يفرضه الاتفاق مع الكيان الصهيوني.

  • التفاهم مع حماس

بالتزامن مع إعلان لبنان وإسرائيل الموافقة على الصيغة النهائية لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بما تشمله من تفاهمات حول استخراج الغاز من منطقة النزاع، ذكرت مصادر أن مصر تجري مباحثات مع الفلسطينيّين ومع إسرائيل بهدف التوصل إلى اتفاق يتيح لها تطوير حقل للغاز الطبيعي في شرق المتوسط قبالة سواحل قطاع غزة[9].

ولا يخفى ما في هذا التزامن من دلالة على وجود رغبة دولية في تصفير المشاكل في المناطق المحتملة لوجود الغاز بشرق المتوسط، لزيادة الإنتاج، والتخلص من هيمنة الروس على سوق الغاز.

وعلى الرغم من أن إسرائيل لن تتساهل أبدًا مع استفادة حماس من احتياطيات للغاز، وتصر على استبعادها من أي اتفاق يسمح باستخراجه من الحقول الفلسطينية، فإن ثمة تكهنات في ظل الأزمة الحالية في سوق الطاقة، ووجود سابقة يمكن تكرارها، وهي الاتفاقية اللبنانية، بإمكانية تدخل الولايات المتحدة من أجل التأثير على دولة الاحتلال، كما فعلت في وساطتها بين لبنان وإسرائيل.

كما أنه يمكن لمصر التدخل لإقناع الإسرائيليّين بالموافقة على تطوير حقل غاز غزة، لما يمثله ذلك من أهمية بالنسبة لمنتدى غاز شرق المتوسط، الذي يضم إسرائيل، وإلى جانبها السلطة الفلسطينية، ويهدف إلى تأمين احتياجات الدول الأعضاء من الطاقة وإنشاء سوق غاز إقليمي.

أما حماس التي يمكنها أن تعيق أي اتفاق جائر لاستخراج الغاز، وترغب في استثمار ثروة القطاع من مصادر الطاقة، وتخشى في الوقت نفسه من وضع السلطة الفلسطينية يدها على عوائد هذه الثروة، فيمكن أن تقبل مقترحات تضمن مصالح القطاع، خاصة إذا حدثت انفراجة في ملف المصالحة الفلسطينية، وانفراجة أخرى من الجانب المصري الذي يحاصر القطاع.

  • التحركات التركية

من المنتظر أن تؤدي اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرئيل إلى تصفير المشاكل التي تواجه عمليات استخراج الغاز من شرق المتوسط، والانتقال إلى مرحلة التصدير إلى الدول الغربية، عبر مشاريع لنقل الغاز، تشارك فيها إسرائيل ومصر ولبنان، وتمر خطوطها باليونان وقبرص اليونانية، لتصل بعد ذلك إلى الدول الأوروبية.

وفي هذا السياق، يمكن للدول الأوروبية أن تطالب إسرائيل باستئناف العمل في مشروع “إيست – ميد”، الذي كان من المفترض أن يربط دولة الاحتلال بقبرص واليونان، ثم البر الأوروبي، وتوقف بسبب انسحاب الولايات المتحدة من دعمه، لما يحيط به من مشاكل إقليمية بسبب اعتراض تركيا التي ترى أن خط الأنابيب الخاص بالمشروع سوف يمر بمناطق تقع في الحدود البحرية التركية التي تحددت على أساس اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الحكومة الليبية في عهد فائز السراج.

ولهذا استبقت تركيا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرئيل بتوقيع مذكرة تفاهم مع الحكومة الليبية في طرابلس، تشمل التنقيب عن النفط والغاز بحرًا وبرًّا عبر شركات ليبية تركية مشتركة[10]، في تفعيل مفاجئ للاتفاقية البحرية، وهو ما أثار غضب اليونان ومصر.

وقد يكون التحرك التركي الأخير محاولة للضغط على دول شرق المتوسط، حتى لا يتم استبعاد أنقرة من أي ترتيبات مستقبلية، خاصة وأنها تسعى منذ أن بدأت في تطبيع علاقاتها مع تل أبيب لعقد اتفاق بين الطرفين في مجال الطاقة، يعطيها الحق في نقل الغاز الإسرائيلي عبر خطوط أنابيب تمر بأراضيها، بدلًا من قبرص اليونانية. 

خاتمة

كعادة الاتفاقيات التي يكون الكيان الصهيوني طرفًا فيها في مقابل طرف عربي، يخرج الإسرائيلي بجملة من المكاسب، وينتزع حقوقًا أصيلة من الطرف العربي الذي أدمن التنازلات.

هذا هو ما حدث في آخر اتفاقيات “التطبيع العملي” مع إسرائيل، حينما تنازلت الحكومة اللبنانية عن حقوقها في منطقة الحدود البحرية، وارتضت بمقترحات الوسيط الأمريكي الذي أقنعها تحت ضغط الظروف القاسية التي يعيشها لبنان وألاعيب ساسته التي أوصلته إلى حافة الانهيار بقبول شروط وإملاءات الجانب الإسرائيلي، وعلى رأسها الانطلاق في التقسيم من الخط 23، الذي أخرج حقل كاريش الضخم من الحدود اللبنانية، وجعل الإسرائيلي شريكًا في عوائد حقل قانا، ليحقق مكاسب مادية وسياسية وأمنية، ولتخرج إسرائيل وقد ضربت عدة عصافير بحجر واحد، منها فرض “التطبيع العملي” على لبنان، والسير قدمًا في عملية الاندماج الإقليمي، وتحقيق الأمن على الحدود الشمالية، ودفع لبنان إلى التفكير في فك الارتباط مع إيران.

هذا بالإضافة إلى تعرية حزب الله، ووضع سلاح المقاومة في دائرة الجدل بعد قبول الحزب بالحلول السلمية والمفاوضات الدبلوماسية.

وعلى الرغم من أن الاتفاقية ليست شاملة، ومع كل ما بذلته الحكومة اللبنانية من محاولات لنفي الانخراط في التطبيع، كأن يكون التعامل مع إسرائيل عبر وسيط، فإن هذه الاتفاقية جزء من عملية كبرى هي عملية الدمج التي تجري على قدم وساق، بعد اتفاقات أبراهام، وهي الغاية من التطبيع، بكل ما يمثله ذلك الدمج من خطر على المنطقة والمشروع الإسلامي الذي يَعتبر قضية فلسطين قضية مركزية بالنسبة له.


[1] – المركزية، ميقاتي: ملف ترسيم الحدود البحرية يسير على الطريق الصحيح، 4 أكتور/تشرين الأول 2022، https://bit.ly/3MtAMH8

[2] – القدس العربي، حقل الغاز المختلف عليه بات ذخائر دعائية في انتخابات الكنيست، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022، https://bit.ly/3g0GfJj

[3] – Les Echos, Le gaz israélien redessine la géopolitique de la Méditerranée orientale, 18-05-2022, https://bit.ly/3CVSzno

[4] – 24.ae، مكاسب إسرائيل من “ترسيم الحدود” مع لبنان… اقتصادية وسياسية، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2022، https://bit.ly/3rPsOyA

[5] – الحرة، لبيد: اتفاق الترسيم البحري مع لبنان يبعد إمكان اندلاع نزاع مع حزب الله، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2022، https://arbne.ws/3SXz6bx

[6] RT – عربي، بايدن: اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل “اختراق تاريخي”، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022، https://bit.ly/3fVfohK

[7] – سبوتنيك عربي، وزير إسرائيلي: اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع بيروت يضعف النفوذ الإيراني في لبنان، 9 أكتوبر/تشرين الأول 2022، https://bit.ly/3MqXcJf

[8]–  وكالة الأناضول، ترسيم حدود لبنان وإسرائيل.. هل يسهم بتراجع دور إيران أم يعززه؟، 5 أكتوبر/تشرين الأول 2022، https://bit.ly/3T1pHzs

[9] – Reuters, Egypt is set to take part in developing Gaza’s offshore gas field -officials, 12-10-2022, https://reut.rs/3T6qoHK

[10] – الجزيرة، وسط رفض مصري يوناني.. ليبيا وتركيا توقعان اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز، 4 أبريل/نيسان 2022، https://bit.ly/3D90uOl

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى