مقدمة
انتهت الانتخابات العامة التركية، وفاز الرئيس رجب طيّب أردوغان بالرئاسة من الجولة الثانية، وحظي التحالف الذي يقوده حزب “العدالة والتنمية” الحاكم بالفوز بأغلبية البرلمان. وهو ما يطرح تساؤلات حول أولويات النظام التركي خلال الخمس سنوات القادمة على ضوء ما أفرزته هذه الانتخابات من نتائج.
فعلى المستوى الداخلي، ينتظر حكومة الرئيس أردوغان الجديدة العديد من القضايا التي كانت محورًا للصراع الانتخابي، كالأزمة الاقتصادية، وملف اللاجئين، وتعمير المناطق المنكوبة بالزلزال.
وعلى المستوى الخارجي، من المنتظر أن توفر نتيجة الانتخابات الأخيرة شيئًا من الهدوء الداخلي الذي سوف ينعكس بشكل إيجابي على السياسة الخارجية، التي تتمثل أولوياتها في مواصلة مكاسبها السابقة.
تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على أهم أولويات السياستين الداخلية والخارجية للرئيس أردوغان وحكومته خلال المرحلة المقبلة.
1 – أولويات السياسة الداخلية
سلطت الانتخابات التركية الأخيرة الضوء على العديد من القضايا التي ينبغي أن تكون معالجتها أولوية بالنسبة لحكومة الرئيس أردوغان، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية التي يمكن أن يكون في حلها، حلٌّ لقضايا أخرى، على رأسها قضية اللاجئين.
ولمتابعة هذه الأولويات، بدأ الرئيس أردوغان بتغيير واسع في حكومته، لتضم كفاءات قادرة على التعامل مع التحديات القادمة، التي يمكن أن نذكر أهمها فيما يلي:
- الاصلاح الاقتصادي
يُعد الإصلاح الاقتصادي أولوية أولى لدى الرئيس أردوغان في ولايته الرئاسية الجديدة، وذلك بعد أن وظفت الأزمة الاقتصادية خلال الانتخابات ضده، وضد حزب العدالة والتنمية، بعد أن زادت معدلات التضخم، وارتفعت أسعار السلع والإيجارات، وتراجعت قيمة العملة التركية.
ويرى البعض أن الملف الاقتصادي كان حاسمًا في المدن الكبرى التي صوتت ضد أردوغان، على الرغم من الجهود التي بذلها لتحسين الرواتب، وتقديم زيادات كبيرة لجميع الموظفين والعاملين، لمواجهة آثار التضخم.
ولهذا، فإن الإصلاح الاقتصادي يتصدر أولويات أردوغان، الذي أشار إلى أنه سيولي اهتمامًا خاصًّا لإنشاء اقتصاد إنتاجي، مع التركيز على الاستثمار وخلق فرص العمل. وقال إن المسألة الأهم في المرحلة المقبلة هي حل مشاكل زيادة الأسعار الناجمة عن التضخم. وطمأن الشعب إلى أن هذه المسألة ليست بالأمر الصعب بالنسبة لحكومته، مستشهدًا بخفض الفائدة إلى 4.6 بالمئة والتضخم إلى 6.2 بالمئة عندما كان رئيسًا للوزراء[1].
وللوصول إلى الإصلاح المنشود، كان لابد من تكوين فريق اقتصادي جديد، يمتلك القدرة على تقديم رؤى اقتصادية حاسمة وناجحة، وإيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية على المدى القصير أولًا، لإخراج المواطن من أزمته المعيشية، وعلى المديين المتوسط والطويل، لإيجاد حلول دائمة لأزمات الاقتصاد التركي.
جاءت التغييرات الوزارية لتدل على أن ثمَّة مؤشرات لاتخاذ أردوغان إجراءات إصلاحية في المسار الاقتصادي، فكان من بينها عودة محمد شيمشك لمنصب وزير المالية، في محاولة للدفع بأسماء ذات ثقة لدى السوق المالي الداخلي والعالمي في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية التركية.
وذكرت تقارير صحفية أنه من المتوقع انتهاج سياسات ليبرالية من شأنها تسهيل تدفقات النقد الأجنبي. وأضافت أن شيمشك شدد على أهمية منحه صلاحيات واسعة في اختيار فريقه والقرارات التي سيتخذها خلال عامين حتى يتمكن من ضمان إيصال الاقتصاد إلى “بر الأمان”.
وقد حدد شيمشك المبادئ التي سيعمل من خلالها على رفع مستوى الرفاهية الاجتماعية، وهي الشفافية والاتساق وقابلية التنبؤ والامتثال للمعايير الدولية. وقال إن الاستقرار المالي الكلي وخفض التضخم أولوية بالنسبة لوزارته.
كما شدد على أن دعم البنك المركزي في مكافحة التضخم عبر السياسات المالية والإصلاحات الهيكلية سيكون سياسة رئيسة لوزارته.
وربما يكون حديث شيمشك عن أن “تركيا لم يبق أمامها خيار سوى العودة إلى أساس عقلاني”[1]، إشارة منه إلى سياسات اقتصادية جديدة.
- حل أزمة اللاجئين
تحولت أزمة اللاجئين السوريّين في تركيا إلى قضية أساسية في الانتخابات التركية، تضاءل إلى جوارها أيُّ حديث عن البرامج السياسية لدى تحالف المعارضة، الذي صار ترحيل هؤلاء اللاجئين الفوري هو الهدف الأول لديه، وشنّ عليهم حملة كراهية، لاستقطاب جزء كبير من المجتمع التركي يعتقد أن السوريّين يستولون على الوظائف ويساهمون في المشكلات المعيشية والثقافية، وهو ما عزز من العنصرية وكراهية الأجانب.
لم يتراجع أردوغان عن دعمه للاجئين ورفضه ترحيلهم القسري وبشكل جماعي رغم خطورة الحملة التي شنتها المعارضة التركية على وضعه الانتخابي.
وبعد الانتخابات، جدد أردوغان التزامه بسياسة تقوم على إعادة السوريين “طوعيًّا”، وبما يتوافق مع مطالب الشعب، ويليق بتركيا وشعبها. كما أشار إلى أن 600 ألف سوري قد عادوا بالفعل إلى مناطق شمالي سوريا الخاضعة لسيطرة المعارضة.
وأضاف أنه من خلال التعاون مع قطر ومشروع جديد لإعادة التوطين، تهدف تركيا إلى تسهيل عودة مليون سوري إضافي في السنوات المقبلة[1].
ويرى البعض أن قضية اللاجئين من أهم العقبات أمام عودة حزب العدالة والتنمية للفوز في المدن الكبرى بالانتخابات البلدية المقبلة، والتي لا يريد الحزب أن يخسرها، ولهذا فعليه إعادة النظر في تنظيم تواجد السوريّين على الأراضي التركية.
وفي هذا الصدد، يمكن القول إن حل الأزمة الاقتصادية سوف يخفف من حدة أزمة اللاجئين، ويجعل المواطنين الأتراك يتقبلون ترحيلهم الطوعي على فترة زمنية طويلة، لأن الدعايات المعارضة لتواجدهم تستغل الأزمة الاقتصادية في التحريض عليهم بوصفهم السبب في هذه الأزمة، الأمر الذي يزيد من شريحة الرافضين لتواجدهم.
- تعمير مناطق الزلزال
واجه الرئيس التركي تحديًا غير مسبوق قبل انتخابات الرئاسة الأخيرة، بفعل تداعيات زلزال 6 فبراير/شباط المدمر وما تبعه من هزات عنيفة أضرت بمليون و895 ألف مبنى، في 10 ولايات جنوب البلاد، وخلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، وملايين المشردين.
استغلت المعارضة التركية أزمة الزلزال في دعايتها الانتخابية، ولكن أردوغان كان أكثر إقناعًا للناخب المتضرر من الزلزال، وعزز صورته لديه من خلال تحركه المبكر والفعّال في مناطق الزلزال، وتواصله الإنساني المباشر مع المواطنين في عمليات إزالة الأنقاض، والبدء في خطة الإعمار التي تستغرق عامًا، والتي بدأت تتحقق على الأرض بعد 3 أشهر.
يعلق سكان المناطق المنكوبة بالزلزال في تركيا آمالًا كبيرة على الرئيس أردوغان في الوفاء بوعوده لهم، وهو ما عبّروا عنه في صناديق الاقتراع، التي جاءت النتيجة فيها مخالفة لكثير من التوقعات، بعد أن تصدر أردوغان النتائج في هذه المناطق.
كانت هذه النتيجة مخيبة لآمال المعارضة التي أساء بعض أنصارها ومسؤوليها في البلديات إلى المتضررين من الزلزال، ومن المنتظر أن تراقب المعارضة ملف إعمار المناطق المنكوبة في الفترة المقبلة، للطعن في حكومة أردوغان، خاصة قبل انتخابات البلدية المقبلة.
وقد أكد أردوغان في جميع الخطابات التي أعقبت فوزه بالانتخابات على أن تضميد جراح منكوبي الزلزال وإعادة بناء المدن المدمرة في مقدمة أولوياته في المرحلة المقبلة[1].
وبالإضافة إلى تعمير مناطق الزلزال، يرى بعض المتابعين أن هذه الأولوية يجب أن تسير بالتوازي مع أولوية أخرى، من المتوقع أن تحظى باهتمام الحكومة التركية، وهي رفع مستوى التأهب للكوارث، وتعزيز القدرة على التعامل معها والاستجابة لها، خاصَّة مع وجود توقعات بحدوث زلزال يهدد مدينة إسطنبول.
- مكافحة الإرهاب
كانت مكافحة الإرهاب إحدى قضايا الصراع الانتخابي في تركيا، وذلك بعد أن اتهم تحالف الجمهور كمال كليتشدار أوغلو بعقد اتفاق مع حزب الشعوب الديمقراطي، المتهم بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني (بي كي كي)، المحظور، والمصنف إرهابيًّا من جانب أنقرة، والذي تخوض ضده السلطات التركية حربًا في الداخل وعلى الأراضي العراقية والسورية.
وقد أثار تأييد حزب الشعوب الديمقراطي لتحالف الأمة المعارض حفيظة القوميّين، وأعاد إلى ذاكرة المواطن التركي أحداث العمليات الإرهابية التي قام بها حزب العمال وفروعه المختلفة، وهي العمليات التي نجحت حكومة أردوغان في التعامل معها والحد منها في الداخل، بالتزامن مع محاصرة عناصر الحزب في معاقله الخارجية، خاصَّة في جبال قنديل، بالشمال العراقي.
تعهد أردوغان في حملته الانتخابية بتجفيف مستنقع الإرهاب بالكامل في شمال العراق وسوريا، وأكد على أنهم أوشكوا على تجفيف منابعه داخل البلاد، واتهم حزب الشعب الجمهوري وشركاءه في المعارضة بالتعاون مع التنظيم الإرهابي المعادي لتركيا[1].
ولهذا يمكن القول إن خطاب أردوغان الانتخابي حول الأمن كان أحد أسباب فوزه في الانتخابات، حيث تشير نتائج الانتخابات إلى أنَّ غالبية الشعب التركي يواصلون دعم أردوغان على الرغم من المشكلات الاقتصادية لرغبتهم في استمرار الأمن.
وبعد انتهاء الانتخابات، من المرجح أن يستجيب أردوغان لرغبات الجناح القومي في تحالف الجمهور، وتطلعات المجتمع التركي إلى تعزيز الخطوات الملموسة في مكافحة الإرهاب وتحقيق الأمن.
وقد أشار أردوغان إلى هذه الأولوية في خطاب النصر، حينما أكد على استمرار نهج تركيا في الكفاح ضد المنظمات الإرهابية على الحدود الجنوبية لتركيا، والمضي في استخدام القنوات السياسية والدبلوماسية بفاعلية أكبر، مع اللجوء إلى أساليب متعددة بهدف مواصلة إبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدود تركيا[1].
- الانتخابات البلدية
من المقرر أن تجرى الانتخابات البلدية في تركيا بعد 9 أشهر من انتهاء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي انتهت بفوز الرئيس أردوغان وتحالفه، وهو ما يمثل تحديًا جديدًا لحزب العدالة والتنمية، خاصَّة وأن نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية قد أسفرت عن تراجع التصويت للحزب الحاكم في أكبر بلديتين، وهما إسطنبول وأنقرة.
كان حزب العدالة والتنمية قد خسر أبرز المدن الكبرى، والتي تعد من معاقله الانتخابية، بما فيها إسطنبول التي تضم خمس الناخبين الأتراك، في الانتخابات البلدية في 2019.
وعلى الرغم من الفوز الذي حققه أردوغان في الانتخابات الرئاسية، فإن تصويت إسطنبول وأنقرة لصالح كليتشدار أوغلو قد يشكل مؤشرًا سلبيًّا على اتجاهات الناخبين في انتخابات البلدية المقبلة، وهو ما يضع أردوغان وحزب العدالة والتنمية أمام تحد كبير.
وقد كشف أردوغان عن استعداده لحملة انتخابية جديدة، بهدف استعادة بلدية إسطنبول، وخاطب أنصاره الذين احتشدوا في منطقة أسكودار بمدينة إسطنبول احتفالًا بفوزه عقب صدور النتائج غير النهائية، قائلًا: “نحن عشاق إسطنبول، معها بدأنا مسيرتنا ومعها سنستمر”[1]، وتعهد في أول كلمة خاطب بها الحشود عشية الانتخابات بكسب الانتخابات المحلية عام 2024.
ويُعَد مشروع “قناة إسطنبول” من بين الأسباب التي تجعل هدف استعادة إدارة المدينة في الانتخابات المحلية المقبلة حيويًّا بالنسبة لأردوغان، لأن هذا المشروع العملاق الذي يصل البحر الأسود ببحر مرمرة وينتظر أن يكون مصدرًا ماليًّا مهمًّا، يحتاج إلى دعم مالي ولوجستي كبير لإكماله، وهو ما يمكن أن تساعد فيه بلدية إسطنبول.
- معالجة الانقسام المجتمعي
شهدت الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة حالة غير مسبوقة من الاستقطاب، نتيجة للخطاب الذي لجأ إليه التحالفين المتنافسين للتعبير عن مواقفهما المتباينة.
فقد اعتمد خطاب تحالف الجمهور على تخويف المجتمع التركي من تعرض هوية تركيا الإسلامية ووحدة أراضيها واستقلالية قرارها للخطر في حالة فوز تحالف الأمة، في مقابل خطاب استفزازي من جانب المعارضة التي وصفت تحالف الجمهور بأنه تحالف من العصور الوسطى، بسياساته اليمينية الراديكالية، التي تعادي المرأة، وتقلص الحريات، وتقوض الديمقراطية.
انعكس الاستقطاب السياسي على سلوكيات أنصار تحالف الجمهور، الذين اتهموا المعارضة بمعاداة الدين والتعاون مع الإرهاب وتأييد الانحلال الأخلاقي، في مقابل اتهامات من أنصار تحالف الأمة لأنصار تحالف الجمهور بالمشاركة في تدمير الدولة التركية.
وكانت أشد مظاهر الانقسام المجتمعي قد تجلت في قيام بعض أنصار المعارضة بالإساءة إلى المتضررين من الزلزال في أعقاب الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة، وتهديدهم بالحرمان من أي دعم في حالة هزيمة كليتشدار أوغلو.
وبعد فوز أردوغان، وصل الاحتقان لدى أنصار المعارضة الغاضبين لخسارة مرشحهم إلى حد التعرض لمخالفيهم، وهو ما ظهر في حوادث من قبيل طرد محجبات من أماكن عامة، أو رفض البيع لأنصار أردوغان.
ويُخشى أن تستمر هذه الحالة، وتتزايد خلال الأشهر التسعة القادمة، وهي الفترة المتبقية على إجراء الانتخابات البلدية في 2024، والتي تعد الفرصة الأخيرة للمعارضة لتحقيق مكسب يبقيها في مشهد صنع القرار، حتى لو كان على مستوى الإدارة المحلية، بعد أن خسرت الرئاسة والبرلمان.
ولهذا، فإن أردوغان يواجه مهمة صعبة، تتمثل في توحيد المجتمع التركي، ليس بالقضاء على مظاهر الاحتقان المتمثلة في الاحتكاكات بين أنصاره وأنصار المعارضة فقط، وإنما بالقضاء على أسبابه، المتمثلة في الاستقطاب والتباين الشديد في الاتجاهات.
وقد أظهر أردوغان روحًا تصالحية في خطابه أمام أنصاره بمناسبة الانتصار، حينما دعا الأتراك إلى الاتحاد والتضامن، وأكد على أن الفائز في الانتخابات هو الشعب التركي، وأنه لا يشعر بالاستياء أو الامتعاض من أي أحد حتى أولئك الذين لم يصوتوا له، داعيًا الجميع إلى التوحد حول أهداف وأحلام تركيا الوطنية، وترك الخلافات التي سادت في فترة الانتخابات[1].
- صياغة دستور جديد
وعد أردوغان عقب مراسم تنصيبه بتعزيز الديمقراطية التركية بدستور جديد، حر ومدني وشامل، والتحرر من الدستور الحالي الذي كان ثمرة انقلاب عسكري[1].
والحديث عن دستور جديد مطروح منذ سنوات، للتخلص من دستور 1982 الذي كتبه العسكر، ومايزال يحمل روح الوصاية التي تدعم الانقلابات العسكرية، رغم كل التعديلات التي أجريت عليه.
وكان حزب العدالة والتنمية قد أعد مقترحاته للدستور الجديد بالتعاون مع الحركة القومية المشاركة في التحالف الحاكم، ولكن المعارضة التركية لم تتجاوب مع فكرة تغيير الدستور.
ويبرر أردوغان رغبته في صياغة دستور جديد بأن الدستور الحالي من بقايا الانقلابيّين، ولا يواكب نهوض تركيا وتقدمها. ولهذا لابد من وضع دستور يكون بمثابة وثيقة للرؤية المستقبلية لتركيا، ويلبي طموح الشعب، ويكون الإنسان وسعادته ورخاؤه وأمنه واستقراره في صميم هذا الدستور.
- إعداد وريث لأردوغان
لا يحق للرئيس أردوغان الترشح للرئاسة بعد الولاية الثانية، بحكم الدستور التركي. وهو ما يطرح السؤال حول خليفة أردوغان في قيادة حزب العدالة والتنمية ورئاسة تركيا.
قد يكون الحديث عن وريث لأردوغان أمرًا غير مطروح داخل صفوف الحزب، أو من الأمور التي تطرح ولا تخرج إلى الإعلام، ولكنها أولوية يجب الالتفات إليها في ظِل عدم إمكانية ترشحه مرة أخرى للرئاسة.
لاشك أن حزب العدالة والتنمية سوف يواجه أزمة كبيرة في القيادة بعد أردوغان، لأسباب عديدة، أهمها شخصية أردوغان نفسه، والذي يمتلك كاريزما قيادية لا نراها حتى الآن في المحيطين به من قيادات الحزب ومسؤوليه في قيادة الدولة، ولولا شخصيته الاستثنائية هذه لكان للانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة نتائج مختلفة.
ولعل السنوات الخمس القادمة تشهد إتاحة الفرصة لشخصية أو أكثر يتوافق عليها الحزب كقيادة مستقبلية، وتتحرك في وجود أردوغان، لتكتسب ثقة الشعب التركي.
وقد يكون الظهور المكثف لوزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، في الحملة الانتخابية الأخيرة مؤشرًا على بداية عملية التوريث، من خلال ظهور شخصيات أخرى إلى جوار الرئيس، خاصَّة وأن شعبية صويلو تزايدت في الفترة الأخيرة، بفضل خطابه القومي والديني الداعم لوحدة الأراضي التركية والمناهض للانفصاليّين والرافض للتدخل الغربي.
وفي هذ السياق، قد يعطي المؤتمر العام القادم لحزب العدالة والتنمية، والمقرر عقده منتصف الصيف المقبل، وقبل انتخابات البلدية، مؤشرات على خليفة أردوغان في قيادة الحزب، وذلك من خلال المهام التي سوف تسند إلى قياداته. وربما نرى في هذا المؤتمر عودة لبعض الشخصيات التي خرجت من الوزارة رغم أدائها الجيد في مناصب حزبية جديدة.
2 – أولويات السياسة الخارجية
بعد فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية وتحقيق حزبه الأغلبية البرلمانية، أصبح النظام الحاكم في تركيا في وضع قوي، يمكنه من ترسيخ مكاسبه في السياسة الخارجية، ويمنحه مساحة أوسع للمناورة في علاقاته على المستويين الإقليمي والدولي، في ظِل بيئة داخلية أكثر هدوءًا بعد انتهاء الصراع الانتخابي.
وفيما يلي الخطوط العامة للسياسة الخارجية التركية المتوقعة في الولاية الجديدة لأردوغان، والتي من غير المرجح أن تتغير بشكل كبير، بعد أن تغير بعض جوانبها بالفعل في السنتين الأخيرتين، حينما أقدمت أنقرة على التهدئة مع دول الإقليم.
- مواصلة سياسة تصفير المشاكل
من المتوقع أن تواصل تركيا تقاربها مع دول الإقليم، عبر سياسة تقليل الأزمات وتصفير المشاكل، على أساس المصالح المشتركة والحوار والاحترام المتبادل.
ويُعزز من هذا التوقع أن الأسباب التي دفعت أردوغان إلى التصالح مع الدول العربية وإسرائيل مازالت قائمة، وعلى رأسها الأزمة الاقتصادية التي تحاول الحكومة التركية حلها من خلال زيادة معدلات التصدير إلى الدول العربية، وجذب رؤوس الأموال الخليجية للاستثمار في الأسواق التركية، وزيادة أعداد السياح العرب، وتوفير مصادر جديدة للطاقة من خلال الحصول على الغاز الطبيعي من إسرائيل.
وعلى المستوى السياسي، تخفف سياسة تصفير المشاكل من حالة العداء التي واجهها أردوغان من جانب بعض دول المنطقة، وهو ما ظهر في التحالفات المناوئة لتركيا، بسبب موقفها الداعم لثورات الربيع العربي، وكانت ذروة هذا العداء فيما لمَّح إليه وزير الخارجية التركي السابق، مولود تشاووش أوغلو، عن وجود دور لبلد مسلم في أحداث الانقلاب على أردوغان في 2016، وقيل حينها إن هذا البلد هو الإمارات.
وفي هذا السياق، من المنتظر أن تواصل تركيا سياسة التضييق على الجماعات المعارضة المتواجدة على الأراضي التركية، والتي مارستها مع المعارضة المصرية، التي تقلص نشاطها الإعلامي والسياسي المناهض للنظام المصري منذ أن بدأت أنقرة والقاهرة في عملية التطبيع.
ويبدو أن فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة سوف يشجع بعض الأطراف المترددة في تطبيع العلاقات مع تركيا على ترك هذا التردد، بعد أن تأكد بقاؤه في المشهد لخمس سنوات قادمة.
ويمكن رؤية بوادر ذلك في الاتصال الهاتفي الذي أجراه رأس النظام في مصر، عبدالفتاح السيسي مع أردوغان لتهنئته بالفوز، واتفقا خلاله على “البدء الفوري في ترفيع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين وتبادل السفراء”[1]، وهي الخطوة التي تأخرت بسبب تردد الجانب المصري.
كما يمكن رؤية بوادر ذلك أيضًا في حضور رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، حفل تنصيب أردوغان، رغم التوترات التاريحية بين البلدين. وهو ما سيؤدي إلى دفع عملية تطبيع العلاقات بين أنقرة ويريفان إلى الأمام.
- المحافظة على التوازن الإيجابي
حافظ الرئيس أردوغان في علاقته مع روسيا والغرب على سياسة متوازنة، على الرغم من تواجد تركيا في المؤسسات الأوروبية، مثل مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وعضويتها في حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة.
فقد وثق أردوغان علاقة بلاده بروسيا، لتخفيف الضغوط الغربية على نظامه، ولجأ إليها في تسليح الجيش التركي بمنظومات الصواريخ الدفاعية المطورة إس-400، بعد أن فرضت عليه عقوبات من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيّين الذين رفضوا بيع منظومات دفاعية لتركيا.
كما استعانت تركيا بروسيا في مشاريع عملاقة، أهمها مشروع الطاقة النووية الذي هو الأول من نوعه في تركيا التي تعاني من ارتفاع فاتورة الطاقة المستوردة من الخارج.
وظهرت إيجابية هذه السياسة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، في فبراير/شباط 2022، بعد أن رفضت أنقرة حالة الاستقطاب الدولي التي أعادت إحياء حقبة الحرب الباردة، وقررت عدم الانحياز لأحد الطرفين، رغم معارضتها للحرب، وهو ما ساعد الأتراك في المحافظة على مصالحهم من ناحية، والقيام بدور الوساطة من ناحية أخرى. وكانت اتفاقية الحبوب التي رعتها أنقرة إحدى ثمار هذه الوساطة الناجحة، والتي جنبت العالم أزمة غذائية كبرى.
ساعدت هذه السياسة المتوازنة في الحد من تداعيات الحرب الأوكرانية على تركيا التي تتداخل مصالحها مع طرفي النزاع، الأمر الذي زاد من أهميتها الجيوسياسية وعظم من دورها على الصعيد العالمي.
كما انعكست العلاقة الجيدة بين أنقرة وموسكو على مستوى التنسيق في سوريا، حيث تركت روسيا هامشًا للتحرك العسكري لمواجهة وحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا، وتعمل على التوسط بين أنقرة ودمشق من أجل إصلاح العلاقات بينهما، لتأمين الحدود المشتركة، وإيجاد حل لأزمة اللاجئين.
ولهذا، فإن خمس سنوات جديدة في ظل حكم أردوغان تعني مزيدًا من الموازنة السياسية بين روسيا والغرب، وهو ما أشار إليه أردوغان، حينما أشار في خطاب النصر إلى استمرارية التعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي اقترح أن تصبح منطقة “تراقيا” مركزًا للطاقة، وهو ما يشير ضمنيًّا إلى العلاقة الوثيقة التي تربط أردوغان بالرئيس بوتين.
- حماية الأمن القومي
زاد دور القوات المسلحة التركية وجهاز الاستخبارات الوطني في السياسة الخارجية التركية في العقد الماضي من حكم حزب العدالة والتنمية، وذلك بعد أن كثفت الحكومة التركية من فعالياتهما في ردع التهديدات الخارجية التي تستهدف الأمن القومي ووحدة الأراضي التركية.
وكان الرئيس أردوغان قد أكد في خطاب النصر على عزمه تعزيز مكافحة الإرهاب، من أجل القضاء على التهديدات الأمنية في جنوب البلاد. وأشار إلى اعتزامه استخدام القنوات السياسية والدبلوماسية بفعالية أكبر وتوجيه التطورات الإقليمية بشكل صحيح واللجوء إلى أساليب متعددة بهدف مواصلة إبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدود تركيا[1].
وقد جاء اختيار رئيس جهاز المخابرات، هاكان فيدان، لتولي وزارة الخارجية التركية في الحكومة الجديدة ليؤكد على البُعد الأمني لبعض الملفات التي سوف توليها أنقرة أهمية في الفترة المقبلة، وللشروع في سياسة تركية قوية، تحافظ على أمن البلاد، وتواجه المنظمات الإرهابية والقوى الداعمة لها.
ومن المتوقع أن تظهر آثار خبرة فيدان بالجوانب الأمنية والحساسة في العلاقات مع مختلف الجهات الإقليمية والدولية المؤثرة في تشكيل سياسة خارجية تركية توائم بين المصالح الأمنية والدبلوماسية في آن واحد.
وفي صدارة الملفات التي تنتظر الوزير فيدان، الملف السوري، لوجود توقعات تشير إلى إمكانية التطبيع مع نظام بشار الأسد، لكن وجود تنظيم حزب العمال الكردستاني المدعوم من الولايات المتحدة يمكن أن يؤدي لاستمرار الأزمة بين البلدين، وهو ما سيؤدي بالتبعية إلى استمرار أزمة اللاجئين التي لم يعد أمام أردوغان مفر من إيجاد حلول لها.
ويرى مراقبون أن التقدم في مسار التطبيع مع النظام السوري، والذي كان فيدان يعمل عليه خلال الفترة الماضية، مرهون بأمور عديدة، على رأسها معالجة الهواجس الأمنية لدى أنقرة، وهو الأمر الذي يمكن لفيدان أن يحرز فيه تقدمًا.
- الإدارة الفعَّالة للخلافات مع الغرب
اتخذت تركيا في عهد أردوغان مواقف أكثر صدامية واستقلالية في تعاملها مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهو ما أزعج حلفاء أنقرة في حلف شمال الأطلسي، وكانت له تكلفة باهظة بالنسبة للأتراك الذين وجدوا أنفسهم أمام سياسات عدائية من جانب حلفائهم، تمثلت في الوقوف ضد مصالح تركيا في كثير من القضايا، ودعم التنظيمات الانفصالية، التي تتهمها الحكومة التركية بالإرهاب.
وقد أشار أردوغان إلى رؤيته للعلاقة مع الغرب في المرحلة المقبلة، في كلمة له خلال مأدبة عشاء أقامها على شرف الضيوف المشاركين في مراسم تنصيبه، قال فيها إن وجهة تركيا ستكون إلى الشرق والغرب معًا، مستدركًا “لكن الأهم من ذلك كلّه هو التوجه نحو الحق والحقيقة والعدالة”[1].
وهو بذلك يؤكد حرص بلاده على العلاقة مع الغرب، ولكن هذه العلاقة لن تمنعه من مواصلة سياسته المتوازنة، والاستمرار في اللعب بورقة الشرق، وعلى رأسه روسيا، في الحد من الضغوط الغربية على تركيا. كما أنه يشير بحديثه عن الحق والحقيقة والعدالة إلى أن تركيا لن تصطف إلى جانب الغرب إلَّا في القضايا التي تتفق مع قناعاتها وتضمن مصالحها.
والواقع أن كلا الطرفين يدرك أهميته بالنسبة للآخر، فتركيا تسعى لمحاصرة التنظيمات الإرهابية والحد من نشاطها في الدول الأوروبية، وتعمل على تحسين وضعها الاقتصادي من خلال تطوير العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة وأوروبا، بعد أن صار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بعيد المنال.
وفي المقابل، ترى واشنطن أن تركيا خيار يمكن الاعتماد عليه في ظِل التطورات العالمية المتسارعة، وقد يكون لأردوغان دور مهم في عملية التسوية الأوكرانية، وإيجاد مخارج لتلك الحرب، لعلاقاته الوثيقة مع موسكو وكييف.
ولهذا يرى بعض المراقبين أن الولايات المتحدة والدول الغربية سوف تعيد النظر في علاقاتها مع أنقرة بعد فوز أردوغان، بعد أن أدركت أنه يتعين عليها أن تعمل معه للسنوات الخمس المقبلة، لأن إضعاف النظام التركي سياسيًّا واقتصاديًّا سيكون خطرًا بالنسبة للمنطقة، في وقتٍ تستمر فيه محاولات روسيا والصين للتمدد على مستوى العالم[1].
كل هذا لا يعني أن التوتر سوف يزول عن علاقة أردوغان بالغرب، لأن أسباب الخلاف قائمة، ومتجددة، وهو ما سوف يدفع أردوغان إلى استخدام كل الأدوات الممكنة لإدارة هذا الخلاف بطريقة فعَّالة، تحافظ على المصالح التركية.
وقد رأينا نماذج عديدة لهذه الإدارة، كان آخرها في الخلاف الذي نشب بين تركيا وحلفائها في حلف الناتو حول انضمام فنلندا والسويد، حينما خرج أردوغان من هذا الخلاف بمكاسب في حربه على المنظمات الإرهابية، تمثلت في دفع فنلندا إلى التعهد بأمن تركيا والتوقف عن دعم حزب العمال الكردستاني. ومازالت تركيا تتشدد في الموافقة على ضم السويد، التي ترفض تسليم إرهابيين لأنقرة، ولم تتخذ إجراءات كافية من وجهة نظر الأتراك في مكافحة الإرهاب.
- التعاون مع الامتداد القومي
تنظر تركيا باهتمام إلى امتدادها القومي، المتمثل في دول آسيا الوسطى، والتي انتظمت في منظمة الدول التركية، التي تضم تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، بالإضافة إلى تركمانستان وجمهورية شمال قبرص، كدولتين مراقبتين.
وتقود تركيا شركاءها من هذه الدول التي تشترك معها في اللغة والعرق والثقافة والجذور التاريخية إلى تحقيق تعاون إقليمي وثنائي على جميع الأصعدة. ويرى المراقبون أن تركيا تستثمر علاقاتها المتنامية مع هذه الدول في تحقيق فوائد اقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية عديدة، وهو ما يوسع من النفوذ التركي في مقابل النفوذ الروسي والصيني والإيراني في المنطقة.
فعلى المستوى الاقتصادي والتجاري، تجاوزت الاستثمارات التركية بدول المنظمة 20 مليار دولار. ويمثل قطاع الطاقة أهم عنصر من عناصر التعاون الاقتصادي، حيث تعمل تركيا مع دول آسيا الوسطى الحبيسة لتكون ممرًا لمنتجاتها من النفط والغاز والحاصلات الزراعية إلى الدول الأوروبية، وهو ما يحقق هدف تركيا في التحول إلى مركز استراتيجي لنقل التجارة والطاقة، خاصة أن تلك المنطقة تحتوي على 34 بالمئة من الاحتياطي العالمي للغاز الطبيعي، و27 بالمئة من احتياطي النفط العالمي[1].
وعلى المستوى السياسي، تشير تقديرات مختلفة إلى أن الرئيس التركي يطمح إلى تحويل منظمة الدول التركية إلى تحالف سياسي واقتصادي وربما عسكري في مرحلة متقدمة ومنحه صفة “منظمة دولية”، وهو ما يعزز مكانة تركيا العالمية.
وعلى المستوى الأمني، تنسق تركيا مع الدول التركية الإجراءات الرامية إلى مكافحة الإرهاب والحركات الانفصالية والتطرف والجرائم العابرة للحدود.
وعلى المستوى العسكري، تتبادل تركيا مع الدول التركية الخبرات العسكرية، عبر المناورات المشتركة، بالإضافة إلى توريد الأسلحة إلى جيوش هذه الدول، في ظِل الطفرة الأخيرة في الصناعات الدفاعية التركية، حيث حصلت هذه الجيوش على طائرات مُسيَّرة ومركبات مدرعة وذخائر.
وفي هذا السياق، قدمت تركيا مساعدة عسكرية ملحوظة لآذربيجان في حربها مع أرمينيا، في 2020، لاستعادة إقليم كاراباغ. وأدَّى هذا الانتصار إلى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار، والتي يمكن بموجبها إقامة ممر زنغزور الذي يوفر لتركيا اتصالًا جغرافيًّا مباشرًا بالدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى.
خاتمة
لا شك أن نتائج الانتخابات التركية الأخيرة كانت جرس إنذار بالنسبة لحكومة الرئيس أردوغان، الذي تسببت الأزمات التي شهدتها البلاد خلال الفترة الماضية، في خوضه معركة انتخابية شرسة، حتى إنه يمكن القول إن أردوغان مدين بجزءٍ من فوزه بالانتخابات لأداء منافسه غير الموفق، ولأداء المعارضة السيء.
وبعد الفوز، لابد للرئيس وحزبه من وقفة لترتيب الأولويات على المستويين الداخلي والخارجي، وإيجاد حلول للأزمات التي أصبحت جزءًا من حياة المواطن التركي وأثرت على مستواه المعيشي.
ويمكن أن يكون تشكيل الحكومة الجديدة بداية للتعامل مع الأزمات التي تواجهها تركيا، والتي أبرزتها الانتخابات، وينتظر المواطن إيجاد حلول لها.