خبر وتعقيبغير مصنف

دخول مساعدات إلى غزة.. مناورة لامتصاص الغضب الشعبي وإنقاذ حلفاء التطبيع

الخبر:

فجأة، وبدون أي مقدمات، وبينما كان الجميع يتوقع مزيدًا من الانتقام والتشدد الصهيوني عقب سحب أمريكا وإسرائيل وفديهما من مفاوضات هدنة غزة وفشلها، أعلن الاحتلال عن “هدنة إنسانية” مشبوهة في ثلاث مناطق بقطاع غزة، وسمح لأنظمة عربية بإسقاط مساعدات فوق القطاع.

ورغم تواصل العدوان الإسرائيلي، أعلنت تل أبيب “تعليقًا تكتيكيًّا” للعمليات العسكرية اليومية في مناطق المواصي ودير البلح ومدينة غزة لمدة عشر ساعات، وأسقطت طائراتها مع طائرات أردنية مساعدات إماراتية وأردنية.

جاء فتح الاحتلال لباب المساعدات بعد سلسلة من الضغوط الدولية المتزايدة عليه، للسماح بإيصال الأغذية والإمدادات الحيوية دون قيود إلى القطاع، بسبب أزمة الجوع المتفاقمة.

لكن الضغوط الدولية ليست هي السبب، إذ إنها قائمة منذ سنتين، ولم توقف الحرب أو الإبادة أو سياسة “التهجير بالتجويع”. فما أسباب إعلان إسرائيل ما يُسمى “هدنة إنسانية”، والسماح بإدخال “مساعدات محدودة”، كما قال نتنياهو؟

هل هي الضغوط الدولية والشعبية والإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي ما استجلب تنازل العدو وتسبب في دخول الشاحنات، أم أن هناك أسبابًا أخرى؟

التعقيب:

لأول مرة، تواجه دولة الاحتلال انتقادات في معظم دول العالم بسبب صور ومشاهد التجويع وموت الأطفال جوعًا وهم جلد على عظم. ولأول مرة، يُستحضر ما يَدَّعي اليهود أن الزعيم النازي هتلر فعله بهم، للتدليل على حجم الجرائم التي ترتكبها تل‌أبيب في غزة، حتى وصل الأمر إلى إحراق ألف شاحنة مساعدات.

تدهور صورة وسمعة الاحتلال نتيجة خطة “التجويع للتهجير”، وتزايد المقاطعة العالمية، حتى من الولايات المتحدة وأوروبا، على المستويين الاقتصادي والأكاديمي، بلغ حدّ إصدار منظمات يهودية في الغرب بيانات تنتقد إسرائيل لتنأى بنفسها عن تهم ارتكاب جرائم حرب. هذا ما دفع الاحتلال إلى إدخال بعض المساعدات لـ”تحسين وتلميع الصورة”، وادعاء أن إسرائيل “دولة إنسانية” ولا تمارس التجويع.

قال المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس”، عاموس هرئيل، في 27 يوليو، إن قرار نتنياهو إدخال مساعدات إلى قطاع غزة تمَّ “وهو مذعور ومتسرع”، وأن “إسرائيل اضطرت للاعتراف بأنها وضعت نفسها في طريق مسدود”.

كما نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن مصادر إسرائيلية تأكيدها أن “الحكومة الإسرائيلية عاشت في هستيريا خلال الأيام الماضية نتيجة الضغط الدولي بسبب حالات الجوع في غزة.

إلى جانب الضغوط العالمية، كان أحد أهم أسباب سماح الاحتلال بإدخال مساعدات، بعد أربعة أشهر من الحجب منذ مارس 2025م، وربما السبب الأهم، هو أن جرائم التجويع الصهيونية، ومشاركة أنظمة عربية فيها (بالصمت في أفضل التفسيرات، وبقلة الحيلة بحجة الخوف من أمريكا)، زادت من الغضب الشعبي وهددت عروش العديد من الأنظمة.

ومن الواضح، من الانقلاب المفاجئ في الموقف الأمريكي والإسرائيلي، عبر إدخال بعض المساعدات، والعودة إلى المفاوضات، والحديث عن “هدن إنسانية”، أن هناك مؤشرات غير معلنة لتحرك في الشارع العربي، وأن الغليان الشعبي ربما يقترب من لحظة “قلب الطاولة”.

من مؤشرات هذا الغضب: حصار السفارات المصرية في الخارج من قِبل الغاضبين بسبب الموقف المصري المتواطئ والصامت، وغلقها بالأقفال، وواقعة قسم شرطة المعصرة المتعلقة باحتجاز شابين لضابط بسبب الانتهاكات ضد المعتقلين، وغلق معبر رفح كما أعلنوا.

ثم لقاء عبد الفتاح السيسي بوزير الداخلية، وما تبعه من إقالة أغلب قيادات أمن الدولة وتغيير آخرين، وبدء حملة اعتقالات شرسة، ونشر كمائن في أغلب أنحاء مصر، وتنشيط اللجان الحكومية الإلكترونية للدفاع عن السيسي.. كلها مؤشرات على حالة غليان شعبي دفعت السلطة، وربما دفعت السيسي للاتصال بالأمريكيين والإسرائيليين لإدخال المساعدات، ولو على شكل “عرض إعلامي”، لتخفيف الضغط.

فهدف وخطة الاحتلال من إدخال بعض المساعدات هو تخفيف الضغوط الشعبية على الأنظمة العربية الحليفة المُطبّعة، وليس إنقاذ الشعب الفلسطيني من التجويع، وذلك كي لا تخسر أمريكا وإسرائيل حلفاءها العرب. إنها محاولة لتهدئة الرأي العام العربي والعالمي، من خلال إدخال كميات ضئيلة، وبعد أن يهدأ الناس، تعود سياسة التجويع التام.

الهدف الإسرائيلي (والأمريكي) بالتالي من إدخال المساعدات على عجل، هو السعي لإنقاذ “كنوزهم الإستراتيجية” من الحكام العرب الموالين، وعلى رأسهم السيسي، من الغضب الشعبي المتصاعد.

هناك سبب آخر لتحرك إسرائيل نحو السماح بإدخال بعض المساعدات، وهو حدوث انقسام شديد داخل معسكر ترامب (تيار “ماجا” الذي يزعم أنه يريد “أمريكا عظيمة مجددًا”)، وهجوم فريق كبير منهم على حكومة ترامب، لأن برنامجه الانتخابي يتعهد بعدم خوض حروب أو إنفاق أموال على السلاح والحروب، لكنه فعل العكس، وفتح خزائن أمريكا لإسرائيل ووَرَّط بلاده في حرب غزة وإيران.

لذا تحدث وزير خارجية ترامب، “روبيو”، عن مراجعة لإستراتيجية أمريكا في غزة، دون تحديد مَن هي هذه الإستراتيجية أو أهدافها.

كذلك، هناك حالة غضب في الإعلام الغربي وتحوّل غير مسبوق من دعم إسرائيل إلى انتقادها، ما دفع نحو السماح بإدخال مساعدات، خاصة أن المراسلين الأجانب في إسرائيل طلبوا دخول غزة لرصد الجرائم، فرفض الاحتلال، ودخل معهم في سجال وضيَّق على عملهم.

وكان ما نشرته صحيفة “ديلي إكسبريس” البريطانية، التي تضع شعار الحروب الصليبية على غلافها وتتّبع أجندة يمينية متطرفة، من صورة طفل يحتضر جوعًا مع عبارة: “بدافع الرحمة، أوقفوا ذلك الآن، مؤشرًا على هذا الغضب الإعلامي، وعلى خسارة إسرائيل آلة الإعلام التي كانت تروّج لجرائمها.

الخلاصة هي أن إدخال أو إنزال الاحتلال مواد غذائية محدودة من الجو، في وقت تتراكم فيه المواد الغذائية والأدوية على الحدود المصرية من جهة رفح، يُعد محاولة لإنقاذ أنظمة التطبيع العربية، ووسيلة لتخفيف الضغوط التي يتعرض لها الاحتلال وأنظمة بعينها.

لكنه أيضًا مؤشر على أهمية استمرار الضغوط الشعبية لكسر الحصار، وإدخال المساعدات والأدوية برًّا، وفق آليات عمل المنظمات الدولية والأمم المتحدة، بطريقة آمنة وكريمة تحفظ حياة الناس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى