في خطوة فارقة تمس حياة ملايين من الشعب المصري، أقر مجلس النواب نهائيًّا قانون “الإيجار القديم”، ليُسدِل الستار على عقود من الحالة الجامدة التي كانت تحكم علاقة المالك بالمستأجر، ويفتح الباب أمام تحولات جذرية في حياة مئات الآلاف من الأسر والملاك.
هذا القرار، الذي يُقدَّم كحل لأزمة اقتصادية واجتماعية متجذرة، لا يخلو من تحديات عميقة وتساؤلات حول عدالته الاجتماعية وتأثيراته المستقبلية، في مشهدٍ يمزج بين ضرورة الإصلاح وخشية الاضطراب في مجتمع غارق في الأزمات.
فأزمة الإيجارات تتقاطع مع قضايا جوهرية تتعلق بحق السكن، وحقوق الملكية، وضرورة الانتقال الهادئ دون أضرار كبيرة قد تلحق بالطرفين، وهو ما جعلها حقلًا دائمًا للصراع بين مفاهيم اجتماعية راسخة لدى البعض، ومنظور اقتصادي يَرى ضرورة تصحيح أوضاع مشوهة أفرزها تدخل تشريعي استثنائي في لحظة تاريخية سابقة.
جذور الأزمة
ترجع جذور أزمة الإيجارات القديمة في مصر إلى منتصف القرن العشرين، حين تدخل المُشرِّع عبر قوانين استثنائية لضبط العلاقة بين المالك والمستأجر في سياق اجتماعي متقلب. فجاء قانون 121 لسنة 1947م، ومن بعده قوانين متتابعة، لتفرض تثبيت الأجرة ومنع الإخلاء، ما أدَّى تدريجيًّا إلى ترسيخ منظومة استثنائية ما زالت تحكم مئات الآلاف من العقارات حتى اليوم.
وبينما حقق هذا النموذج هدفه المؤقت في حماية المستأجرين محدودي الدخل بعد الحروب والأزمات الاقتصادية، إلا أن استمراره لعقود أدَّى إلى تآكل حقوق المُلاك، بل وأضرَّ بالصيانة والتجديد الحضري لكتل عمرانية كاملة. فالمالك ـ في ظِل عدم جدوى العائد ـ توقف عن الاستثمار في العقار، والمستأجر استقر في وضع غير متوازن من حيث التكلفة والمسؤولية.
وقد شهدت العقود الماضية محاولات متقطعة لتعديل المنظومة، أبرزها في التسعينيات، لكنها ظلت جزئية ومحصورة غالبًا في الإيجارات لغير غرض السكن. وظل ملف السكني مغلقًا، نظرًا لحساسيته الاجتماعية، إلى أن أعادت الدولة فتحه مؤخرًا في ظِل مناخ تشريعي وسياسي مختلف عمَّا مضى.
فلسفة القانون
القانون الجديد المُقدَّم من الحكومة، والذي أقره البرلمان، يُقدِّم آليَّة تدريجية لتحرير العلاقة الإيجارية الممتدة، عبر فترة انتقالية تصل إلى سبع سنوات، يتضاعف فيها الإيجار سنويًّا بنسبة 15%، ثم يتيح للمالك استرداد الوحدة. كما يسمح للمستأجر بالتملك من خلال الشراء بقيمة عادلة، أو استمرار الإقامة بعقد جديد، ما يَعني عمليًّا إنهاء الامتداد التلقائي للعقود القديمة، ولكن ضمن فترة تأقلم تدريجي.
البند | قبل التعديل | بعد التعديل |
مدة العقد | غير محددة المدة (توريث مستمر) | فترة انتقالية: 5–7 سنوات، ثم خضوع للقانون المدني |
قيمة الإيجار | ثابتة (رمزية جدًّا منذ عقود) | زيادة فورية (حتى 20 ضعف)، وفقًا لنوع الوحدة |
حق المالك في الإخلاء | لا يمكن طرد المستأجر إلا في حالات نادرة جدًّا | يحق للمالك الإخلاء بعد الفترة الانتقالية |
الزيادة السنوية | لا توجد زيادات ملزمة | 15% سنويًّا لمدة 5 سنوات |
القانون الساري | قانون 49 لسنة 1977م و136 لسنة 1981م | إلغاء القوانين القديمة، والعمل بالقانون المدني |
تصنيف المناطق | غير معمول به رسميًّا | تصنيف رسمي: متميّز، متوسط، اقتصادي |
تعويض المستأجر | غير مُلزم بتوفير بديل | الحكومة تلتزم بتوفير سكن بديل للفئات المتضررة |
هذه الصيغة تسعى إلى مراعاة الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، دون كسر العقد الاجتماعي التاريخي، ما يجعلها تحاول ـ من الناحية الشكلية ـ المواءمة بين حقوق الطرفين، غير أنها تعرضت لانتقادات أخرى تتعلق بأمور تنظيمية كان يجب إدارجها ضمن القانون لضمان تحقيق العدالة.
تستند الحكومة في مشروعها إلى منطلقين رئيسين: أولهما أن القانون القديم يمثل عبئًا على الاقتصاد غير المنظور، حيث يتم تجميد وحدات ضخمة بعوائد ضعيفة، ويعوق ذلك التطوير العقاري، ويُشوِّه قيم السوق. والثاني أن استمرار الامتداد الإيجاري يُقوِّض مبدأ الملكية الخاصَّة، ما يضع الدولة في موقف حرج دستوريًّا، ويصعب معه جذب الاستثمار العقاري طويل الأمد.
الصيغة الأخيرة للمشروع ـ قبل الموافقة النهائية عليها ـ تمَّ تعديلها عدة مرات في محاولة لتحقيق قدر من التوازن، وشملت تعديلات مثل رفع نسبة الزيادة السنوية، ومد فترة الانتقال إلى سبع سنوات، وإعطاء الأولوية للاتفاق بين الطرفين على الشراء أو التجديد بشروط جديدة. لكن رغم ذلك، تعرضت الحكومة لانتقادات في ظل غياب قاعدة بيانات دقيقة توضح الوضع الفعلي للعقود، وهو ما أشار إليه لاحقًا عدد من الباحثين.
فهناك خشية من إسقاط القانون على شريحة كبيرة من الأسر غير القادرة، ما قد يسبب اضطرابًا اجتماعيًّا لا تتحمله اللحظة الاقتصادية الراهنة، لذلك يبدو أن الحكومة سعت لتمرير القانون بنَفَس هادئ، دون إثارة خطاب انتقامي تجاه المستأجر، مع تقديم صيغة تبدو “إجرائية” لكنها تحمل تحوُّلًا بنيويًّا في جوهر العلاقة الإيجارية.
ما لم يتطرق إليه القانون
انتقد كثير من الخبراء القانون الجديد كونه يفتقر إلى أدوات دقيقة لرصد الفئات المستحقة للدعم، ولتصنيف العقارات حسب حالتها ووضعها القانوني والاجتماعي، ما يهدد بتحوُّل القانون من محاولة تنظيم إلى مدخل لأزمة اجتماعية أوسع.
ولعل ما ذكره عدد من الخبراء ضمن ندوة نظمها المركز المصري للدراسات الاقتصادية، حول مشروع القانون، كان لافتًا في هذا الباب، ومن أبرز هذه التحذيرات ما عبّرت عنه د. عبلة عبد اللطيف، رئيسة المركز المصري للدراسات الاقتصادية، حيث أشارت إلى أن غياب المعلومات هو المشكلة الأساسية في هذا الملف، مؤكدة أن بناء تشريع عادل يتطلب قاعدة بيانات شاملة. واعتبرت أن القانون بصيغته الحالية لا يعالج الخلل الهيكلي في العلاقة بين الدولة والمواطنين بشأن السكن، ولا يُقدِّم حلولًا دقيقة أو منضبطة تضمن عدالة التنفيذ.
وفي السياق ذاته، ركز د. زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء الأسبق، على ضرورة الجمع بين مبادئ دستورية مثل حق السكن وحرية التعاقد، عبر اعتماد آليَّة تدريجية تُصنِّف الفئات المتضررة وتُبقِي على الحماية لها، مع تحرير العلاقة في الحالات الأخرى.
أما المهندس إيهاب منصور، عضو مجلس النواب، فركز على غياب بُعد جوهري عن القانون، وهو الصيانة والإعمار. واعتبر أن القانون يعيد تنظيم العلاقة المالية فقط، دون أن يقدم رؤية للعقارات المتهالكة أو الآيلة للسقوط. ولفت إلى أن محافظ القاهرة أعلن عن وجود 5000 عقار في “خطورة شديدة”، بينما تضم الإسكندرية أكثر من 24 ألف عقار آيل للسقوط، معتبرًا أن الإيجارات الرمزية لا تكفي لترميم أو إصلاح تلك المباني، وأن الدولة لا يمكن أن تتجاهل هذا الجانب الحيوي في أي معالجة شاملة للملف.
في المحصلة، يُظهر النقاش بين الخبراء أن المشكلة لا تكمن فقط في مبدأ التحرير، بل في طريقة تطبيقه وسرعته ومآلاته. ويَتفق كثيرون على أن القانون، لكي يكون عادلًا، لا بد أن يرتكز على قاعدة معلومات دقيقة، وأن يُدمَج في إطار إصلاح عمراني واجتماعي شامل، وليس فقط كأداة لتسوية العلاقة بين طرفين على الورق.
الأداء البرلماني
مثل الأداء البرلماني في مناقشة هذا المشروع الحيوي أداءً تقليديًّا كالعادة في مواجهة الإرادة الحكومية لفرض القانون، فعلى الرغم من أن جلسة إقرار القانون شهدت انسحاب عدد من نواب المعارضة والمستقلين اعتراضًا منهم على المادة الثانية بالقانون، لعدم الاستجابة لمطالبهم بمد الفترة الانتقالية لأكثر من ٧ سنوات من باب التخفيف على الناس، إلا أن الأداء العام كان موافقًا لما جاءت به الحكومة.
وبرغم الطابع الفني للنقاشات، فإن تمرير القانون بات أقرب إلى كونه توافقًا منسجمًا داخل مؤسسات الدولة، ولذا يواجه البرلمان انتقادات عديدة تتعلق بكونه أصبح في نظر الكثيرين أداة تمرير لا محاسبة أو مراجعة، نظرًا لأدائه الضعيف في مواجهة سلوكيات الحكومة على مدار سنوات.
تهميش الشارع المصري
على الجانب الآخر، كان الشارع المصري يغلي بحالة من الغضب والقلق، حيث نظر الكثيرون إلى إقرار القانون بوصفه تكريسًا لظلم تاريخي يمسّ مئات الآلاف من الأسر. هذا الشعور بالظلم، تفاقم مع التحديات الاقتصادية الراهنة التي يعاني منها غالبية الناس، ليتحول إلى إحساس مرير بأن الدولة لا ترى معاناة الفئات الأكثر هشاشة، وأن قرارًا بهذا الحجم يتجاهل واقعهم المعيشي وحقهم في الاستقرار.
كثيرون عبَّروا عن هذا الإحساس بالمرارة، وكأنهم أصبحوا غير مرغوب فيهم داخل مجتمعهم، ويُطلَب منهم “الرحيل” من بيوت استقروا فيها عقود طويلة، في ظِل غياب بدائل حقيقية تراعي ظروفهم الإنسانية. وقد تجلى هذا الغضب بوضوح على منصات التواصل الاجتماعي، حيث لم يقتصر التعبير عن الرفض على الشرائح المتضررة مباشرة، بل امتد ليشمل قطاعات واسعة، حتى من بين الفئات التي تُعرَف بتأييدها للسلطة، مما عكس عمق الصدمة المجتمعية من هذا القرار.
ختامًا، يطرح هذا القانون تساؤلات حول حكمة القرار السياسي في التعامل مع القضايا الاجتماعية المعقدة. ففي سابقة تاريخية مشابهة، شهدت مصر تدخلًا تشريعيًّا في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في مسألة الأرض الزراعية (القانون رقم 96 لسنة 1992م). ومن الجدير بالذكر أن نفس المبدأ القانوني القاضي باحترام حق الملكية، ونفس الاهتمام الاقتصادي بـ”تحرير السوق”، ونفس المبدأ الشرعي القاضي ببطلان العقد غير محدد المدة، جميعها تنطبق بحذافيرها على الوضع الخاص بالعلاقة الإيجارية للمساكن في المدن الكبرى. إلَّا أن الدولة في ذلك الوقت لم تتعرَّض لسكان المدن كما فعلت مع مزارعي الريف حينها، حيث إنه من السهل على الحكومة السيطرة على احتجاجات بعض القرى هنا أو هناك.