منذ بدء الحرب على غزة في السابع من أكتوبر، تعرَّض الدور الإقليمي المصري لاختبار حقيقي؛ حيث كان الأداء الأقل من المتوقع من دولة بحجم مصر كاشفًا لعدد من التحديات التي تواجهها الدولة صاحبة الموقع السياسي والجغرافي الهام في الشرق الأوسط.
وفي حين بدا الانكفاء على الذات والاكتفاء بتحصين الجبهة الداخلية هو الهدف الأول والأخير للقاهرة، فإن ما يُسمَّى بالجبهة الداخلية بات هو الآخر معرضًا، وفق تقديرات، للهجوم عليه بعد الهجمات التي تعرَّضت لها إيران، الدولة صاحبة النفوذ القوي في المنطقة، والتي كانت خطوتها لتطبيع علاقاتها مع مصر آخر ما قامت به قبل بدء هذه الضربات.
في ضوء هذا، يبرز تساؤل عن الدور الذي يمكن أن تقوم به مصر في ظِل هذا التوتر الضخم الذي أصبح الإقليم يضج به ولم يعد من المحتمل أن يمر مرورًا هادئًا دون أن تقف الدول الكبرى موقفًا لمنع توغل هذا العدوان الإسرائيلي على المنطقة بأكملها.
ومن خلال مراقبة السياسة المصرية خلال السنوات الأخيرة فإن عوامل عدة من شأنها أن تعرقل مصر عن القيام بالدور المنوط بها، ويمكن استعراض هذا بشيء من التفصيل من خلال المحاور التي يتكون منها هذا التقرير.
الضعف الاقتصادي: مصر المحكومة بالتمويل لا المبادرة
في الوقت الذي تكشف فيه الحكومة المصرية عن مشاريع إنشائية كبرى تمتد على سواحل البحر الأحمر، كما في “صكوك البحر الأحمر” ومشاريع الترفيه الفاخر، تبدو الصورة الاقتصادية الكلية أكثر هشاشةً مما توحي به العناوين الرسمية. فوفقًا لتقرير حديث في مجلة “فورين بوليسي” الدولية، بعنوان “Egypt Unveils a New Luxury Megaproject” (مصر تكشف عن مشروع ضخك جديد)، فإن القاهرة تُراهن على “إعلانات لامعة” لتغطية واقع اقتصادي متآكل، مع تجاوز الدَّين الخارجي حاجز 165 مليار دولار، وتدهور سعر صرف الجنيه، وتقلص الاحتياطي النقدي إلى مستويات حرجة.
منذ 2023م، بدأت الثنائيات الخليجية ـ خصوصًا السعودية والإمارات ـ تزود مصر بعشرات المليارات من الدولارات على شكل قروض واستثمارات إستراتيجية، أبرزها الصفقة الإماراتية الضخمة بقيمة 35 مليار دولار لتطوير الساحل الشمالي المصري، مثل هذه التمويل لا يُعدّ مجرد دعم مالي، بل أداة ضغط ناعمة تدفع نحو قدر من التبعية السياسية.
من هنا، لم تُصَب مصر فقط بعجز مالي بسبب الدين المتصاعد، بل أيضًا بـ”تقييد في قدراتها الإستراتيجية”: فهي لم تعد تتصرف وفق منظومة مصالحها وحدها، بل ضمن أولويات التمويل الخليجي أيضًا. وهذا ما يفسّر توجّس القاهرة من الانخراط المباشر أو إعلان مواقف من ملفات إقليمية حسّاسة، خوفًا من تضارب المصالح مع الذين يُمَوّلونها.
ولأن السياسة الخارجية لا تُصاغ في فراغ، فإن هذا الانكماش الداخلي هو ما مهّد لتحول غير معلن في موازين النفوذ الإقليمي: لم تعد مصر تقود المنطقة، بل باتت تستدين من الخليج وتُدار ضمن أولوياته. كما أشارت تقديرات عديد إلى أن “القاهرة انتقلت من دور اللاعب المستقل إلى موقع المتلقي للتوجيه والتمويل الخليجي”، مشيرة إلى حجم النفوذ السعودي والإماراتي في إعادة هيكلة السياسة المالية المصرية.
الغياب عن زيارة ترمب وتوازنات ما بعد الحرب
لم يكن غياب مصر عن جدول زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنطقة في يونيو 2025م مجرد تفصيلة بروتوكولية، بل مؤشرًا صارخًا على التحولات في توازنات النفوذ الإقليمي. بينما حطّت طائرة ترامب في الرياض، ثم الدوحة، فأبوظبي، ظلّت القاهرة خارج الصورة، لا في التصريحات ولا في التغطية الإعلامية، وكأنها ليست جزءًا من المعادلة.
أبرزت تقارير متعددة هذا التهميش، مشيرة إلى أن واشنطن باتت تعتبر السعودية وتركيا “اللاعبين المفصليَّين” في هندسة ما بعد الحرب، سواءً في ما يتعلق بملف غزة أو المواجهة مع إيران. حتى في الصحافة الإسرائيلية، ظهرت تساؤلات: “أين مصر؟” في حين كانت في عقود سابقة بوابة رئيسة لأي هندسة أمنية تخص المنطقة.
في محاولة لاستعادة موطئ قدم، قادت القاهرة في 16 يونيو مبادرة لإصدار بيان إسلامي جماعي يدين الضربات الإسرائيلية على إيران. ضم البيان أكثر من عشرين دولة، من بينها باكستان وإندونيسيا وتركيا، لكنه خلا من أي آلية تنفيذية أو موقف سياسي حاسم. علّقت بعض المنصات الإعلامية على البيان بأنه “خطوة رمزية لإثبات الحضور لا غير، تُراكِم أوراق العلاقات العامة، دون أن تترجم إلى نفوذ فعلي”.
هذه الدينامية تشير إلى محاولات القاهرة ترميم موقعها الإقليمي، لكن أدواتها لم تعد كافية. فمن دون اقتصاد قوي، ومن دون قدرة على المناورة بين المحاور المتنازعة، تبقى مصر حاضرة بالتصريحات، وغائبة عن الحسابات الإستراتيجية الفعلية.
الأمن القومي المصري.. تهديد في الجنوب
لم يتوقف الأمر عند حد تقييد مصر من خلال التمويل والدعم الخارجي للاقتصاد، بل امتد إلى مسألة الأمن القومي، ففي الجنوب، تسيطر ميليشيات الدعم السريع (أحد طرفي الصراع السوداني) الآن على كامل منطقة المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا، عقب تنفيذها هجومًا مفاجئًا على المنطقة مدعومةً بقوات تابعة للواء الليبي المتمرد خليفة حفتر، في ١١ مايو ٢٠٢٥م.
هذا التوغل كما يقول محللون، يمثل اختبارًا لرد الفعل المصري؛ فالموقع الجغرافي للهجوم يجعله قريبًا من المجال الحيوي المصري في الجنوب الغربي، ما قد يُفهَم على أنه اختبار مباشر لصبر القاهرة أو محاولة لجرِّها إلى موقف أكثر وضوحًا. كما يُرسِل رسالة بأن حدود مصر لم تعد بمنأى عن فوضى التمدد المسلح غير المنضبط.
ولطالما كانت القاهرة من أبرز داعمي اللواء خليفة حفتر في ليبيا، إذ وَفَّرت له دعمًا عسكريًّا وسياسيًّا واسعًا بهدف تأمين حدودها الغربية ومنع تسلل الجماعات المسلحة، غير أن العلاقة بين الطرفين شهدت مؤخرًا بعض الفتور، بعدما أبدت القاهرة انزعاجها من تحركات حفتر المستقلة وتعزيز تحالفاته مع موسكو وأبوظبي، بعيدًا عن التنسيق مع مصر. وفق تقرير خاص لصحيفة العربي الجديد، وهو ما يضع الحكومة المصرية أمام اختبارات جديدة تحتم عليها التركيز جنوبًا وغربًا بشكل أكثر كثافة مما مضى.
هذا التطور لا يمكن فصله عن تموضع مصر الإقليمي ككل: فدولة تُعيد ترتيب أولوياتها الأمنية بهذا الشكل لا يمكنها الانخراط بفاعلية في ملفات إقليمية كبرى مثل الصراع الإيراني ـ الإسرائيلي أو الوساطة في غزة.
غزة ودور الوساطة المصري
وفي قلب المشهد المشتعل في غزة، حيث تتسابق القوى الإقليمية على تثبيت أقدامها كوسطاء فاعلين، تراجعت الوساطة المصرية إلى مستوى رمزي لا يكاد يعكس تاريخ القاهرة في الملف الفلسطيني. فخلال الحرب الممتدة منذ أكتوبر 2023م، أعلنت مصر فتح معبر رفح “بشكل دائم”، غير أن تقارير أممية وحقوقية، وثّقت مرارًا العراقيل التي حالت دون دخول المساعدات، وهو ما عزز الاتهامات بضلوع مصر في تكريس الحصار.
وفي الداخل، ازدادت الهوة بين الدولة والمجتمع، بعدما قوبلت مظاهرات التضامن مع غزة بالتضييق الأمني، وعلى وقع هذه الانتقادات، صعدت أدوار بديلة؛ فقد نجحت قطر في رعاية معظم صفقات تبادل الأسرى، فيما عرضت تركيا رسميًّا التوسط بين إسرائيل وإيران، واحتلت مساحة أكبر في المشهد السياسي الفلسطيني.
وفي المقابل، بقيت القاهرة على الهامش، تؤدي دورًا تقنيًّا محدودًا عند المعابر، وتصدر بيانات دبلوماسية فضفاضة، دون أن تستعيد المبادرة أو تعيد تموضعها كلاعب رئيس في صراعات المنطقة.
إن تقهقر هذا الدور المصري لا يعكس فقط حالة الانكفاء، بل يطرح تساؤلات أوسع حول مستقبل الدور المصري في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وما إذا كانت القاهرة قد اختارت طوعًا مقعد المراقب، أم أنها وجدت نفسها فيه نتيجة حسابات أوسع تتعلق بالضعف الداخلي والتغيرات الإقليمية.
العلاقة مع إيران.. من الخصومة إلى التقارب
قبيل بدء الحرب الإيرانية الإسرائيلية بأيام قليلة، كانت هناك زيارة لوزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي، إلى القاهرة، وُصِفت بأنها تتويج لمحادثات تتم منذ سنوات لإعادة العلاقات بين القاهرة وطهران إلى مستوى طبيعي بعد قطيعة شبه كاملة امتدت عقود. الزيارة وصفها باحثون بأنها “محاولة حذرة وأوسع نطاقًا لتطبيع العلاقات بين طهران والقاهرة بعد عقود من القطيعة”.
كما جاءت الزيارة في وقت بالغ الحساسية على الصعيد الجيوسياسي، فمصر تواجه تحولات في أولويات الولايات المتحدة بالمنطقة، وتتحرك في سياق الحرب المستمرة على غزة، بينما تضغط أمريكا على إيران بسبب ملفها النووي.
لم يكن هذا الضغط المشترك – الذي تعاني منه الدولتان الكبيرتان في الشرق – كافيًا لجعل القاهرة تتخذ إجراءً فاعلًا ضد الهجوم الإسرائيلي على طهران، فقد اكتفى بيان الخارجية المصرية الأخير بالدعوة لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، والعودة إلى مسار المفاوضات لإبرام اتفاق مستدام بشأن البرنامج النووي لطهران.
هذا الارتباك كشف خللًا أعمق في السياسة الخارجية المصرية: السعي للتقارب مع طرف إقليمي بحجم إيران دون امتلاك أدوات تأثير حقيقية، أو حتى إستراتيجية اتصالية تبني على هذا التقارب أو تحصّنه. وبَدَا الأمر وكأن مصر تحاول الحفاظ على خطوط مفتوحة مع جميع الأطراف، دون استعداد فعلي لما قد يترتب على هذا الانفتاح من ضغوط أو اصطفافات.
وعلى وقع هذا، طرحت تساؤلات عدة: هل كانت القاهرة على دراية بالتصعيد المرتقب؟ وهل كان هذا الانفتاح على طهران مناورة دبلوماسية محسوبة، أم مجرد محاولة لالتقاط موقع جديد في مشهد إقليمي شديد السيولة؟
في المقابل، ساد توجس في الإعلام الإسرائيلي من توقيت هذه الزيارة، واعتبرتها صحف إسرائيلية “اختبارًا مزدوجًا للعلاقة بين القاهرة وتل أبيب”، بينما تناولت وسائل إعلام أخرى المسألة محذرة من “محاولات إيرانية لاختراق الخطاب الدبلوماسي المصري”.
كل ذلك يأتي في سياق متشابك تحاول فيه مصر ألا تُفهَم باعتبارها خصمًا دائمًا لإيران، لكنها في الوقت نفسه لا تريد خسارة موقعها التقليدي في معسكر “الاعتدال” العربي، لكنه أدى في النهاية إلى تهميش القاهرة بشكل أو بآخر.
مصر بين أدوار ضائعة و آمال متجددة
تبدو مصر، في هذه اللحظة الإقليمية الدقيقة، وكأنها تقف على مفترق طرق. من جهةٍ، تمتلك مقومات تاريخية وبشرية وأمنية تؤهلها للعب دور مركزي في أي ترتيبات إقليمية كبرى؛ ومن جهةٍ أخرى، فإن تآكل قدراتها الاقتصادية، وانشغالها بأزمات حدودية داخلية، وتراجع أدوات تأثيرها التقليدية، يجعلها في موقع المتلقي أكثر من موقع الفاعل.
لقد كشف التفاعل المصري مع الحرب الإيرانية ـ الإسرائيلية، ومع التصعيد في غزة، عن حالة “جمود إستراتيجي” تتحرك القاهرة داخله: خطوات محسوبة، ومواقف رمزية، وخطاب دبلوماسي لا يُترجَم إلى مبادرات ومواقف مؤثرة. فضلًا عن غيابها التام عن أجندة الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إلى المنطقة، رغم أنها كانت زيارة تهدف بالأساس إلى إعادة رسم خارطة التحالفات والتموضعات في الشرق الأوسط.
لكن هل انتهى الدور المصري؟ بالتأكيد لا. فمصر، رغم هذا التراجع، ما تزال تملك أوراقًا مهمة: موقعها الجغرافي الحيوي، حدودها مع غزة، قنوات الاتصال المفتوحة مع إسرائيل ومع فصائل فلسطينية، علاقتها الهادئة مع إيران، شبكة علاقاتها الخليجية رغم الهيمنة، والأهم: قدرتها على لعب دور الوسيط إذا قررت استعادة زمام المبادرة.
ما ينقص مصر اليوم هو غياب الإرادة السياسية والرؤية الإستراتيجية. فالمعادلة التي تحكم حركتها هي معادلة “الحد الأدنى من الفاعلية”، والتي لا تؤهلها إلا للبقاء في المشهد لا لصناعته. وإذا استمرت على هذا النحو، فقد تجد نفسها لاحقًا بلا أوراق أصيلة، تلعب أدوارًا تقنية هامشية بينما تُعاد صياغة موازين القوة من حولها.